فاصلة

مراجعات

شارولاتا.. سيمفونية العواطف الصامتة

Reading Time: 4 minutes

لا يمكن للمهتم بمنجز المخرج الهندي الكبير ساتياجيت راي، تجاوز الفيلم الأكثر نضجًا والأقرب إلى تصوراته الفنية المثالية في تجربته كما يقول، أتحدث هنا عن فيلم “شارولاتا” Charulata الذي أخرجه راي في عام 1963.

 الفيلم مبني على قصة قصيرة لشاعر الهند الأشهر رابندرانات طاغور، وينتمي لفترة مهمة في مسيرة راي بعد عدد من أفلامه المتميزة، مثل “ثلاثية أبو” و”غرفة الموسيقى”.

تدور أحداث الفيلم في كالكوتا خلال أواخر القرن التاسع عشر، حيث نتابع شارولاتا، الزوجة المثقفة الذكية التي تشعر بالوحدة في ظل انشغال زوجها بهوبيتي، المفكر والصحفي السياسي الذي يكرس وقته لإدارة صحيفته. يحدث هذا الانشغال في ظل تحولات سياسية واجتماعية كبيرة، حيث كانت الهند تشهد حينها نهضة تواكب الأفكار الغربية وتدعو إلى التحرر من الاستعمار البريطاني. يرافق هذا الانشغال غفلة عن احتياجات زوجته العاطفية.

تزدهر بمرور الوقت علاقة فكرية بين شارولاتا وابن عم زوجها، أمل، الذي يزورهم لفترة قصيرة. سرعان ما يتحول هذا التواصل الفكري إلى مشاعر عاطفية متبادلة توقع شارولاتا في صراع بين ولائها لزوجها ورغباتها العاطفية المكتومة. في النهاية، يدرك أمل خطورة تلك المشاعر ويختار الرحيل، تاركًا شارولاتا تواجه تعقيدات حياتها وحدها.

لغة الاقتراب

تكمن عبقرية هذا الفيلم في إيقاعه الهادئ وحواره البسيط والعمق العاطفي الغني الذي ينقله من خلال الكاميرا. يعكس هذا الإيقاع الأجواء النفسية والعاطفية للشخصيات، مما يسمح للجمهور بالانغماس في تفاصيل المشاهد والإحساس بالتوترات الداخلية والعلاقات المتوترة. في سرده للحكاية يستخدم راي تعابير الوجه والإضاءة وزوايا التصوير المختلفة لتوصيل المشاعر، بدلًا من الحوار الذي يغلب عليه صفة الاقتصاد. تعابير وجه “مادهبي موخيرجي” التي تلعب دور شارولاتا، المشبعة بالشوق والقلق والعواطف غير المعلنة، تحمل عبء القصة. يصبح وجهها في العديد من المشاهد لوحة يرسم عليها راي الصراعات الداخلية لشخصيتها، مبرزًا الفروق العاطفية الدقيقة التي تتجلى من خلال تعبيراتها الصامتة، أو مثلًا في المزج بين الفضول والرغبة المقيدة بالخجل والخوف عندما تراقب أمل من بعيد، أو الحيرة والتناقض بين التزامها بزوجها والشعور بالفراغ العاطفي، حيث تنقل مشاعرها بمهارة عبر نظراتها الدقيقة وحركات وجهها البسيطة بطريقة تعكس تعقيد شخصيتها دون اي ميلودرامية.

يحدث هذا من خلال استخدام لقطات قريبة ومشاهد طويلة تبرز كل حركة أو تغيير طفيف في تعابيرها، وتظهر التوترات العاطفية بشكل واضح للمشاهد.

شارولاتا (1963)
شارولاتا (1963)

وبالمثل، يؤدي سوميتر تشاتيرجي دور أمل بحساسية وعمق يضفي على الشخصية تعاطفًا حقيقيًا. يخلق هذا الأداء توازنًا بين طبيعة شارولاتا التأملية، التي تعيش في عزلة وبين حيوية أمل الشابة، التي تضفي على حياتها نوعًا من النشاط والتألق العاطفي.

أحد الرموز البصرية الأكثر أهمية في فيلم “شارولاتا” هو النظارة المكبرة، حيث تصبح رمزًا يلخص دور شارولاتا المزدوج كمراقبة ومشاركة في حياتها. في البداية، تستخدم النظارة المكبرة لتشاهد العالم الآمن من شباك غرفتها، محافظة على مسافة من الحقائق التي تحيط بها. تمثل النظارة دور شارولاتا السلبي في زواجها وفي مكانها في المجتمع، حيث يُتوقع منها أن تشاهد الحياة دون أن تشارك فعليًا فيها. النظارة المكبرة إذًا هي أداة للفصل.

ومع تقدم الفيلم، تأخذ النظارة المكبرة معنى جديدًا. تصبح جهازًا تنظر شارولاتا من خلاله إلى أمل، يعكس التحول في كيفية استخدام شارولاتا للنظارة المكبرة، من مراقبة العالم إلى التركيز على شخص يمثل الحرية والرفقة الفكرية، صحوتها العاطفية. لم تعد شارولاتا راضية عن البقاء كمراقبة سلبية. تبدأ من خلال علاقتها بأمل، بمواجهة أعماق رغباتها، حتى لو بقيت تلك الرغبات غير معلنة.

شارولاتا (1963)
شارولاتا (1963)

يمثل قرار راي استخدام النظارة المكبرة رمزًا بصريًا متكررًا؛ تعزيزًا لأسلوبه السردي البسيط، إذ يتجنب الإعلانات الصريحة عن الحب أو الرغبة، وبدلًا من ذلك يسمح للجمهور بمشاهدة الرحلة العاطفية لـ شارولاتا من خلال أفعال صغيرة تبدو غير مهمة. يصبح فعل النظر مجازًا للصراع الداخلي لـ شارولاتا. فهي تتوق إلى التحرر من قيود حياتها، لكنها تخشى أيضًا عواقب الدخول إلى عالم قد تتحقق فيه رغباتها.

فضاء المكان ووحشة النَفْس

يستخدم راي الفضاء (القصر هنا) في شارولاتا عنصرًا أساسيًا في السرد. القصر الارستقراطي الذي تعيش فيه شارولاتا يصبح امتدادًا لحالتها العاطفية. الغرف الواسعة والأثاث المزخرف وورق الجدران المعقد يشتركون في خلق شعور بالفخامة، ولكنهم يعززون أيضًا الشعور بالحصار. يزيد قرار راي بحصر معظم الأحداث في هذا المكان الوحيد من إحساس شارولاتا بالضيق. القصر، رغم جماله، هو قفص ذهبي يفصلها عن العالم الخارجي. هناك فضاءات صغيرة ضمن هذا الفضاء الأكبر، مكتب بهوبيتي (الزوج) الذي يحاصره وقلما يخرج منه، مقابل الحديقة بعناصرها الطبيعية كمساحة ممكنة لتطور علاقات لن تزدهر.

شارولاتا (1963)
شارولاتا (1963)

 يبدو الجميع محاصرون في هذا القصر الواسع. يبرز راي عزلة شارولاتا في عدة مشاهد من خلال فصلها بالمسافة عن الشخصيات الأخرى، فيستخدم اللقطات الواسعة لإظهار المسافة بين شارولاتا وزوجها بهوبيتي، تشغل الشخصيتان في هذه المشاهد طرفي الإطار، مما يعكس التباعد بينهما. التباعد في المشاعر وفي الطموحات والاهتمامات. فبينما ينغمس بهوبيتي في جريدته وطموحاته السياسية، تتجول شارولاتا في المنزل، كروح مضطربة عالقة في حياة تقدم لها القليل.

 أحد المشاهد الأكثر شهرة في الفيلم هو مشهد التأرجح في الحديقة، حيث تراقب شارولاتا أمل. يلتقط هذا المشهد إحساس شارولاتا الجديد بالحرية ومشاعرها المتزايدة تجاه أمل. يصبح التأرجح استعارة بصرية لحالة شارولاتا العاطفية؛ التأرجح بين قيود دور الزوجة ورغبتها في شيء أكثر، يركز راي على وجهها بتفاصيله الدقيقة، مستخدمًا اللقطات القريبة لتبرز كل حركة المشاعر غير المعلنة. 

شارولاتا (1963)
شارولاتا (1963)

التوتر بين التقاليد والحداثة 

شارولاتا في جوهره هو فيلم حول التوتر بين التقاليد والحداثة، وهو موضوع يتكرر في أعمال راي. عصر النهضة البنغالية مع تبنيه للأفكار الغربية وتحديه للمجتمع الهندي التقليدي، يشكل الخلفية لصراع شارولاتا الشخصي.

يستخدم راي هذا الصراع لاستكشاف الأسئلة الأوسع حول دور المرأة في المجتمع المتغير. شارولاتا ليست راضية عن البقاء كشخصية سلبية في حياتها. تتوق للتحفيز الفكري والإشباع العاطفي لكن القيود المجتمعية تمنعها من تحقيق رغباتها بالكامل. يبقى حبها غير معلن، مكبوت بسبب نفس المعايير المجتمعية التي تملي دورها كزوجة.

تُعزز هذه المواضيع بشكل أكبر من خلال تصوير راي لشخصية بهوبيتي، زوج شارولاتا غير الفاعل فهو في الوقت الذي يمثل فيه رجل الحداثة المتعلم في الغرب والذي يكرس نفسه لأفكار الحرية؛ تأتي مساعيه الفكرية – رغم نبلها- على حساب علاقته بزوجته. ينتقد راي بهذه الطريقة، حدود الحداثة، مشيرًا إلى أن التقدم الفكري وحده لا يكفي لتحقيق الإشباع الشخصي أو العاطفي.

اقرأ أيضا: «المدينة الكبيرة»… مرآة ساتياجيت راي للتحولات الكبرى

شارك هذا المنشور

أضف تعليق