في عالم يتسارع إيقاعه باستمرار، اختار المخرج البرازيلي والتر ساليس أن يتمهّل. هذا التمهّل يلوح في أفلامه كما في المسافات الزمنية التي تفصل بين عمل وآخر، ويظهر جلياً في حديثه الهادئ، كأن كلّ كلمة تخرج بعد تأمل طويل.
نجده يقترب من السينما كالشاعر من قصيدة: لا بهدف السيطرة، بل للإصغاء والفهم والارتقاء بالواقع. طوال درسه السينمائي في «قمرة» (الدوحة)، كشف عن فلسفة سينمائية تتجاوز حدود الإخراج، لتلامس جوهر الوجود الإنساني. فمن شغفه المبكر بالتصوير الفوتوغرافي، إلى تأثّره بروّاد «الواقعية الإيطالية الجديدة»، ثم اكتشافه كيفية التقاط الحياة بعيداً من إعادة تدويرها ببلادة وتكرار، كلّها محطات رسمت مساره كمخرج يرى الكاميرا امتداداً لكينونته.

يتعامل ساليس مع السينما كمجال يتقاطع فيه الشخصي والجماعي، التاريخي والحسّي. أعماله، من «محطّة مركزية» (1998) إلى «يوميات دراجة نارية» (2003) وصولاً إلى فيلمه الأحدث «لا أزال هنا» («أوسكار» أفضل فيلم أجنبي هذا العام) توثّق تحوّلات إنسان، مجتمع، أو لحظة ضائعة في الزمن. السينما كما يؤمن بها، لا تبني عالماً وهمياً، إنما تتولّد من فعل إنصات إلى العالم القائم، تلتقطه حين يكون مستعدّاً للكشف. لهذا ترتكز أعماله على الارتجال المدروس، على بناء ثقة بينه وبين الممثّل، ونسج ألفة مع المكان. باختصار، سينما تراهن على الصدق لا على التقنية.
لعل ما يميّزه هو حسّه الوثائقي حتى في أعماله الروائية، وقدرته على الموازنة بين البناء الصارم للمفردات الفيلمية ومرونة التلقّي الحيّ للحياة كما تتدفّق أمام الكاميرا. لا يسعى ساليس إلى «تمثيل» الواقع، بقدر ما يتركه يتسرّب إلى الكادر. من البرازيل إلى باتاغونيا، ومن السير الذاتية إلى الحكايات الجماعية، يخوض مغامرة مستمرة انطلاقاً من سؤال: كيف يمكن الفيلم أن يظلّ أميناً لما لا يُقال؟ وكيف يمكنه أن يحتضن النقص، الفقد، الفراغ، لا كعجز، إنما كجزء من الحقيقة؟
في زمن تتراكم فيه الصور بلا هدف، يعيد ساليس إلى السينما معناها: مساحة فراغ ضرورية ليكملها المُشاهد. تلك هي السينما التي يدافع عنها. سينما تحفر أثرها في الذاكرة، وتحثّنا على التأمل في تركيبة العالم، وفي مواقع الصمت فيه.
جلسة قمرة كانت مساحة تأمّل وتشارك رؤيوي بين ساليس وجمهور السينما. وبقدر ما أضاء الحديث على مسيرته، فقد فتح نوافذ لفهم أعمق للسينما بوصفها تجربة إنسانية حيّة. هذا المقال يشكّل الجزء الأول من تغطيتنا الخاصة لهذا اللقاء المُلهم، وسنعود في مقال ثانٍ إلى جانب آخر من الحوار.
1 – «في القاعة المظلمة وجدتُ ملاذي الأول»
«وقعتُ في حبّ التصوير الفوتوغرافي قبل أن تفتنني السينما، وخاصةً أعمال مصوّرين أمثال هنري كارتييه بريسون وروبير دوانو اللذين لم يلتقطا صورة إلا إذا شعرا أنهما مدعوّان إلى ذلك. وقد أثّر ذلك فيّ بعمق. أتذكّر أنني قرأتُ أن كارتييه بريسون، عندما كان يصل إلى مكان جديد، الشيء الوحيد الذي لا يحمله معه هو الكاميرا. كان يؤمن أن عليه أن يحضر أولاً، أن يتماهى مع نبض المجتمع ويكسب ثقته، قبل أن يرفع عدسته. هذه الفكرة استقرّت في ذهني، وما زالت حاضرة في كلّ ما أقوم به.
حاولتُ أن أُجسّد هذا النهج في أعمالي السينمائية. يمكنك أن تلمس ذلك بوضوح في مشاهد البداية من «محطة مركزية»، وأيضاً في «يوميات دراجة نارية»، حيث ارتجلنا ما لا يقل عن أربعين في المئة من المشاهد، وشارك فيه العديد من الممثّلين غير المحترفين. مع ذلك، فإن كلّ مَن ظهر على الشاشة كان قد اختار أن يكون جزءاً من التجربة، برغبة وصدق. هذه الثقة المتبادلة بين الكاميرا ومَن قبالتها، هي جوهر العلاقة الإنسانية التي أبحث عنها.

أما علاقتي بالسينما فقد بدأت فعلياً بعد اضطراري لمغادرة البرازيل في العام 1964. كنتُ حينها صغيراً جداً. انتقلنا إلى باريس، وهناك شعرتُ لأول مرة بالاغتراب. افتقدتُ فوضى البرازيل الجميلة، ذلك التمرّد الجماعي وتلك الحيوية المتدفّقة. وكان عزائي الوحيد صالة سينما صغيرة تقع في أسفل المبنى الذي سكنّا فيه. في تلك القاعة المظلمة، وجدتُ ملاذي الأول، واكتشفتُ «الواقعية الإيطالية الجديدة». شاهدتُ «سارقي الدراجات» و«أومبرتو دي»، وغيرها من الأعمال التي كانت بمثابة بذور غرست في داخلي، لتنبت لاحقاً رؤيتي الخاصة.
لكن اللحظة الفارقة في علاقتي بالسينما كانت مع «المهنة: مراسل» لأنتونيوني. فيلم عن فقدان الهوية، عن نظرة مختلفة إلى الجنوب. شاهدته وأنا في الخامسة عشرة، في قاعة مزدحمة في ريو. وعندما انتهى العرض، غادر الجميع، بينما بقيتُ وحدي في مكاني، أجهش بالبكاء في صمت».
2 – «الموسيقى ظلّت مشتعلة رغم الديكتاتورية»
«الطاقة الفنية البرازيلية التي تفجّرت في أواخر الستينات وبدايات السبعينات، لم تولد من فراغ، بل انبثقت من لحظة مفصلية سبقت الانقلاب العسكري في نيسان 1964. في تلك الفترة، بدأت تنضج أسئلة جديدة وتتشكّل رؤى غير مسبوقة، فكانت المواضيع التي طرحها الفنّانون البرازيليون آنذاك تحوّلية بحق. ولأول مرة، تمكّن الناس من رؤية ذواتهم منعكسة على الشاشة، لا بوصفهم شخوصاً هامشيين، بل كموضوع أساسي يستحق التأمّل والسرد.
ذلك الزخم الثقافي لم يكن مجرد موجة إبداعية، بل حمل ملامح مشروع بديل لبرازيل مختلفة. رؤية خيالية جماعية كانت تتهيّأ لأن تولد، قبل أن يُقطع شريانها بوصول الديكتاتورية. صحيح أن الأنظمة القمعية تستطيع اسكات الأصوات ومصادرة الصحف واغلاق المدارس، لكنها لا تقدر على قمع الفكرة. الأفكار، لحسن الحظ، نجَت. وعلى الرغم من أن السينما فقدت شيئاً من زخمها في تلك المرحلة، واضطر العديد من الفنّانين إلى المنفى، فإن الموسيقى ظلّت مشتعلة. حتى اليوم، لا تزال أصداء تلك المرحلة تتردّد في الأغاني، حاملة في نَفَسها روح ما وُلد قبل لحظة الانكسار».

3 – «من أرض المهاجرين إلى بلد المنفيين»
«أمضيتُ عاماً في جامعة جنوب كاليفورنيا، حيث حصلتُ على درجة الماجستير، لكن إن سُئلتُ عمّا شكّلني حقاً، فلن أضع المدرسة السينمائية في صدارة القائمة. ما ترك الأثر الأعمق في تكويني، كان العمل إلى جانب نيلسون بيريرا دوس سانتوس، أحد أعمدة السينما البرازيلية الجديدة، إلى جانب تجربتي الشخصية كمخرج أفلام وثائقية. كانت الجامعة أشبه بمحطّة عابرة في لحظة انتقال. ففي ذلك الوقت، كانت البرازيل تخطو خطواتها الأولى نحو استعادة الديموقراطية، وجيلي بدأ للمرة الأولى يمسك بالكاميرا بحرية حقيقية. كنّا أول جيل يملك فرصة التعبير عن ذاته من دون خوف، في زمن بدأت فيه البلاد تفكّ قبضة الحكم العسكري. وبعد واحد وعشرين عاماً من القمع، شهدنا أول انتخابات.
لكن الحلم ما لبث أن تعرّض لانتكاسة. فالرئيس المنتخب، فرناندو كولور، رغم ذكائه، تبنّى توجّهاً إيديولوجياً منحازاً بشدة نحو اليمين، ما أطلق موجة من الفوضى الاقتصادية والاجتماعية، بعكس ما كنّا نأمل. كنّا نترقّب ولادة جديدة، لكن ما حدث كان أشبه بانهيار. نتيجة لذلك، غادر البلاد قرابة 800 ألف برازيلي، معظمهم من الشباب. وهو ما بدا لي آنذاك كمنعطف مرير: فالبرازيل التي كانت دوماً أرض استقبال للمهاجرين، تحوّلت فجأةً إلى بلد المنفيين».
4 -«أتعامل مع الفيلم كمادة حيّة تمتص الواقع»
«فيلمي الأول، «أرض غريبة»، كان تتبّعاً لرحلة أربعة شبّان برازيليين هاجروا إلى البرتغال هرباً من هذه المرحلة المضطربة. صوّرنا الفيلم خلال ثلاثة أسابيع، وفي ثلاث قارات مختلفة. حتى اليوم، أكاد لا أصدّق أننا تمكّنا من إنجازه بهذا الشكل! ما أردناه هو الإمساك بلحظة حيّة، بشيء كان يتكوّن أمام أعيننا. الفيلم لم يولد من ترف، بل من حاجة ملحّة. كان ضرورة. كتبنا السيناريو ونحن نصوّر، تماماً كما فعل فيم فندرز في «أليس في المدن».
اعتمدنا التسلسل الزمني للأحداث في التصوير. بدأنا الرحلة من ساو باولو، وحين غادرت الشخصيات نحو البرتغال، تبعناها، درامياً وجغرافياً. وكحال الكثير من التجارب الإخراجية الأولى، حمل الفيلم بصمات كلّ ما أحببته: هناك أصداء واضحة لـ«أليس في المدن»، وتحية إلى السينما النوار كما أعاد تشكيلها جان لوك غودار، إضافة إلى توق لالتقاط الجغرافيا الإنسانية، كما علّمتنا «السينما البرازيلية الجديدة».
لكن «أرض غريبة» كان أيضاً بداية استكشافي مسألة ظلّت تلازمني لاحقاً: العفوية داخل البنية. كنتُ أحمل لقطة الافتتاحية في مخيلتي لأسابيع، صمّمتها بدقّة، لكن في المقابل، أمور كثيرة ولدت في لحظتها. أحد أقوى مشاهد الفيلم — مشهد السيارة — لم يكن مكتوباً. خطر لنا فجأةً، فوجدنا سيارة في المكان، وركب فيها رجال من طاقم العمل. في المناسبة، كان الفريق كله يتألّف من إثني عشر شخصاً لا أكثر.

هذا الفيلم أعاد إليّ الفرح الذي عرفته في صناعة الوثائقيات: ذلك الاندفاع الخام، وتلك الحرية في التعامل مع الفيلم كمادة حيّة تمتص الواقع مباشرة. كما شهد الفيلم أول تعاون لي مع فرناندا تورّيس، التي كانت في التاسعة عشرة حينذاك. لم تكن ممثّلة فحسب، بل شريكة في الكتابة والخلق. أحبّ أن يصبح الممثّلون جزءاً من عملية التأليف، خصوصاً أولئك الذين يملكون ذكاءً عاطفياً عميقاً مثلها.
في نهاية الفيلم، هناك مشهد مأسوي، أعقبته لحظة تأدية فرناندا أغنية لغال كوستا. لم تكن مكتوبة. رأيتها تتمتم بها قبل التصوير، سألتها: «ماذا تغنّين؟»، فأدّتها لي. قررتُ على الفور حذف ثلاث صفحات من الحوار. تركنا المشهد يتنفّس في صمت، بصوتها فقط. تلك اللحظة العفوية أصبحت أقوى ما في الفيلم.
يستهويني هذا النمط من العمل: حين يكون البناء متماسكاً، يمكن الارتجال أن يولد بحرية. الأمر أشبه بموسيقى الجاز: الهيكل هو ما يمنحك الجرأة للانطلاق والعودة. «أرض غريبة» كان مختبراً أولياً لصوتي السينمائي. من خلاله، بدأتُ أتعلّم كيف أُشكّل الإلحاح، كيف أُحوّله إلى فيلم».
5 – «قرأنا رسائل في محطّة ريو المركزية»
«في كلّ مرة أبدأ العمل على فيلم روائي، أجدني أعود أولاً إلى الوثائقي. وفي هذه الحالة، كنت قد انتهيتُ من فيلم وثائقي بعنوان «سوكورو نوبري»، يدور على تبادل رسائل بين سجينة ونحّات بولندي نجا من المحرقة، جاء إلى البرازيل وكرّس فنّه لما يُعرف بالخشب المحروق. كان يمنح الخشب المحترق حياة ثانية، وكأن الفنّ وسيلته للخلاص. بطريقة ما، رأت السجينة في عمله صدى لألمها الداخلي، وبدأ بينهما حوار بالمراسلة، حتى التقيا في النهاية.

من تلك التجربة، وُلدت فكرة «محطة مركزية»: امرأة برازيلية في زمن ما قبل الرقمنة، تعيش من كتابة الرسائل للناس الذين لا يجيدون القراءة أو الكتابة. رسائل، غالباً، لم تكن تُرسَل. كنّا وقتها خارجين من واحد وعشرين عاماً من الحكم العسكري، تلتها سنوات من الفوضى الاقتصادية والسياسية. كانت هناك فترة كاملة خاضعة للرقابة، حيث الرسائل تُهمل أو تُصادَر أو لا تُقرأ. وبدت لي تلك المرأة بمثابة صورة مكثّفة لذلك العصر: شاهدة صامتة على كبت طويل، تبدأ رحلتها في الانفتاح مجدداً على الحياة، من خلال صبي يعيد إليها إنسانيتها.
أول شخص نراه يملي رسالة في الفيلم هو في الواقع سجينة «سوكورو نوبري». حصلنا على إذن خاص لتصويرها داخل السجن. لم أطلب اليها شيئاً محدداً، قلت لها فقط: «قولي ما تريدين». فاختارت أن تكتب إلى حبيبها، الذي كان هو الآخر سجيناً. ومن هناك، انبثقت المشاهد الأولى للفيلم.
السيناريو كتبته مع إثنين من الكتّاب، واخترعنا عدداً من الرسائل المتخيّلة. لكن حين بدأنا التصوير داخل المحطة المركزية في ريو، حيث يعبر ما يزيد على 300 ألف شخص كلّ يوم، حدث أمر لم يكن في الحسبان: بدأ المسافرون بالجلوس أمام الكاميرا واملاء رسائلهم. فجأةً، صارت قصصهم، بلغتهم وصدقهم، أقوى من أي شيء كتبناه. نحو 25 إلى 30 في المئة من الرسائل في الفيلم كانت من تأليفنا، أما الباقي فجاء من الناس أنفسهم. كنّا نشرح لهم المشروع ونسأل: «هل ترغب في إرسال رسالة؟»، وكان الجواب دائماً: نعم. كانت تلك لحظة نادرة يلتقي فيها الخيال بالعاطفة، الواقع بالسرد، وهذا ما كنت أبحث عنه.
في النهاية، تحوّل الفيلم في جوهره إلى مرآة لحال البرازيل بعد سنوات طويلة من الصمت. هو قصّة امرأة وطفل، نعم، لكنه أيضاً حكاية وطن يحاول أن يسترد صوته. الرحلة الفردية ليست معزولة عن المسار الجماعي، وهذه هي السينما التي تحرّكني: حين يتقاطع المسار الشخصي مع حركة ثقافية أو تاريخية أكبر. هناك، أجد روح السرد».
6 – «كنّا نبحث عن ذلك الصفاء الهش»
«فرناندا مونتينيغرو، التي كانت آنذاك واحدة من أعظم القامات المسرحية في البرازيل، والتي رُشّحت لاحقاً لجائزة الـ«أوسكار» عن دورها في «محطة مركزية»، كانت قد شاركت في عدد محدود للغاية من الأفلام — لا يتجاوز الستّة — ولم تؤدِّ أي دور سينمائي منذ زمن طويل. وهذا ما كان في صالحنا، إذ أتاح لنا التصوير في المحطة دون أن يُلتفت إليها بسهولة. أما أنا، فكنتُ قد انهيتُ للتو «أرض غريبة» مع ابنتها، فرناندا تورّيس، التي لم تكفّ عن المزاح طوال فترة التحضير، قائلة: «والتر خانني مع أمّي».

«محطة مركزية» كتبته خصيصاً من أجل فرناندا مونتينيغرو. بنيتُ النص من حولها، من حول حضورها وصوتها. أما الطفل، فقد كان ممثلاً محترفاً وجدناه بعد عام كامل من البحث المضني. كنّا نبحث عن ذلك الصفاء الهش، عن براءة حقيقية تنبع من الداخل. وحتى اليوم، لا يزال ذلك الفتى صديقاً مقرّباً لي. لكن، كانت فرناندا بمثابة معلّمة لي. كانت ترى أن كلّ طرح سياسي لا قيمة له ما لم يتجذّر في الإنساني، في الوجودي. تلك العبارة، كما تلفظها هي بالبرتغالية، تحمل وهجاً ومعنى أعمق يصعب ترجمته، لكن صداها ظلّ يرافقني حتى اليوم.
وها هي اليوم، في الخامسة والتسعين، لا تزال تعتلي الخشبة، تؤدي مونولوغاً من تأليف سيمون دو بوفوار، أمام جمهور يتجاوز الألف متفرّج. إنه لأمر مذهل، شهادة حيّة على التزام لا ينطفئ لفنّانة لا تزال تشعل المسرح بحضورها».
اقرأ الجزء الثاني من المقال من هنا