يتمتع سجن سينغ سينغ الأمريكي بشهرة كبيرة، كونه السجن مشدد الحراسة الذي آوى أشهر عصابات نيويورك ومجرميها الذين بلغت شهرتهم أحيانا شهرة نجوم الصف الأول في هوليوود مثل هانز شميدت أول قسيس يُعدَم في الولايات المتحدة، وجوزيف فالاتشي أحد اشهر قيادات المافيا الإيطالية في نيويورك.
سينغ سينغ أيضًا هو السجن الذي اجتذب صناع السينما في هوليود وصار موضعًا لأحداث أفلامهم، إذ استخدم السجن واسمه في أفلام منها “الإفطار في تيفاني Breakfast at Tiffany’s” و”فندق هوليوود Hollywood hotel” و”ما إلى ذلك All that Jazz” وأخيرًا الفيلم الذي يحمل اسم السجن نفسه “سينغ سينغ Sing Sing” للمخرج غريغ كويدر والذي ينافس على ثلاث جوائز أوسكار هذا العام.
تضمنت ترشيحات الأوسكار التي حازها الفيلم أوسكار أفضل ممثل رئيسي وأفضل أغنية وأفضل نص مقتبس.
الفيلم مبني على تقرير لمجلة “اسكواير” الأمريكية نُشر في عام 2005. تابع التقرير تفاصيل برنامج استضافه السجن الشهير الذي يوسف بأنه يضم عتاة المجرمين لإعادة تأهيل السجناء من خلال الفن، إذ شارك السجناء في برنامج صُمم لتشجيعهم وتدريبهم على كتابة وتمثيل المسرحيات التي يؤلفونها.
الفيلم مفاجئ تمامًا، فما يبدأ كعمل استعطافي يعد بنهاية سعيدة تلين فيها قلوب أبطال القصة لبعضهم البعض بشكل مبتذل وتقليدي، يتحول إلى تصوير واقعي لاستكشاف مشاعر الغضب والضعف، استكشاف ماذا يعني الفن لهم وكيف يساعدهم على التأقلم مع ماضيهم المليء بالعنف والصدمات. كل ذلك دون أن يطالبنا الفيلم بالتعاطف مع أبطاله مطلقًا، إذ يذكرنا باستمرار بأن أغلبهم مجرمين دمويين، قادرون على ارتكاب أبشع الجرائم. إنهم نتيجة مباشرة لبيئاتهم، ولكن ذلك لا يعني تنقيتهم من الذنوب.

جزء كبير من صناعة الفن والخروج به أمام جمهور، أي جمهور، هو كشف النفس.. كشف مكامن الضعف فيها والتعبير عنها بكل انفتاح وحرية. الفن الصادق يكون نابعًا من القلب بدون أي تزييف. يُظهر الشخص من خلاله كل عيوبه ومخاوفه ومعتقداته. هذا هو التحدي الصعب الذي يواجهه أبطال الفيلم، فهم أبناء جيل وطبقة اجتماعية لم تعتد على أن تكون منفتحة على نفسها ومشاعرها بهذا الشكل، أضف إلى ذلك البيئة العدوانية المتمثلة في سجن مشدد الحراسة، وأن أي نقطة ضعف يكشفها أحدهم قد تُستخدم بشكل مباشر ضده.
لكن لأجل النجاة بالذات وتقديم فن صادق، عليهم أن يتعلموا أن ينحوا كل تلك الاعتبارات والمخاوف جانبًا، وينصب جل تركيزهم على صنع مسرحيات يتم تقديمها خارج السجن. نلاحظ كيف أن هذا البرنامج ليس نشاطًا للترويح عن النفس والابتعاد عن واقعهم القاسي، ولكنه بعد فترة يصبح هوية. في أحد المشاهد يتحدث كلارنس، رجل العصابات الذي ينضم حديثًا إلى المجموعة، كيف أن هويته وكل ما يعرفه عن نفسه هو أنه رجل عصابات، وأن هذا عالم الجريمة ينتظره في الخارج. مهما بذل من مجهود في صناعة هذا الفن فهو مجرد استراحة وفترة نقاهة من واقعه.

كلارنس هو أحد الشخصيات الرئيسية للقصة، نشاهد حياته حتى قبل انضمامه للمجموعة، وقبل أول مقابلة “وظيفية” له لتحديد قبوله في البرنامج من عدمه، يتوقف قبل أن يبدأ للضغط على أحد المساجين من أجل الحصول على أمواله بسبب مشكلة في تسليم بعض المخدرات. يهدده كلارنس بالعنف بكل غضب ومن ثم بكل هدوء ينسل إلى المقابلة من جديد ويتحدث عن اقتباس ألهمه في أحد الكتب.
تهديد السجين الآخر كان على مرأى من “ديفاين جي” و”مايك مايك” المسؤولان عن تعيين الأعضاء الجدد، تكمن أهمية هذه الجزئية في إظهار تصالح السجناء مع واقعهم، فكلارنس ليس تائبًا من حياة الإجرام، بل لا يزال يمارسها على مرأى من الجميع؛ هناك إذن انقسام واضح في الهوية ما بين ما يحصل داخل أسوار السجن وما يحصل داخل أسوار المجموعة، لا أحد يسأل عن جرائمك وماضيك، لكن هذا الانقسام الذي يولد سلامًا لحظيًا لا يستمر طويلًا. الواقع القاسي يفرض سلطته ويطل بوجهه البشع ليطارد كل بوادر الأمل كي يجتثها من جذورها.

كولمان دومينغو الذي يؤدي دور البطل (ديفاين جي) يقدم أداءً مدهشًا، فهو يبدأ كشخص مثالي وصادق يحظى باحترام كل زملاءه السجناء من داخل المجموعة وخارجها، لكن دخول كلارنس في الصورة يغير من الأمور بشكل تدريجي، ويبدأ ديفاين جي بفقدان السيطرة على عالم كان يُحكم قبضته عليه في السابق بدون أي معاناة. يخسر ديفاين جي أدواره واقتراحاته لكلارنس الذي لا يبدو أنه يبذل مجهودًا حتى. يظهر وجه جديد كليًا بعد انهيار عالمه الصغير، ويصبح الشخص الوحيد البريء من أي جريمة في هذه الدائرة الفنية الصغيرة، أكثرهم عنفوانًا وغضبًا ورغبة بأذية من حوله. فهو يهاجم أداءات زملاءه على خشبة المسرح ويهاجم نظام العدل الأمريكي المعطوب ويهاجم حتى أمه في المكالمة الهاتفية الوحيدة التي أجراها طوال الفيلم.
يقدم لنا هذا العمل النهاية السعيدة التي نتوقعها، ولكن ليس قبل أن يستحقها ويبتعد عن أي نوع من الابتذال فيها. وسبب نجاح استقبال هذه النهاية يعود إلى تقديم الشخصيات بدون تلميع صورها، فكلارنس تاجر مخدرات داخل السجن ولن يتوانى في ارتكاب جريمة للحصول على مبتغاه، وديفاين جي يرى نفسه في درجة أعلى فنيًا/ إنسانيًا من بقية زملائه، مهما حاول أن يظهر بمظهر المتواضع. وتدفعنا حقيقة أن بعض الممثلين في الفيلم هم فعلا من السجناء الذين شاركوا في تلك الورشة المسرحية لتصور أن هذا الفيلم تجسيد حقيقي للفن الصادق الذي كان السجناء يلاحقونه في محاولاتهم الشكسبيرية.
اقرأ أيضا: «النور»… أرواح سورية وثلوج تفتتح البرليناله