فاصلة

مقالات

سيلفستر ستالون… الرّجل الذي لاكم قَدَرَه

Reading Time: 5 minutes

لم يُظلم في تاريخ السينما أكثر من نجوم سينما الحركة. عضلاتهم المنتفخة، حركتهم الدؤوبة، العرق المتصبّب منهم باستمرار، وقدرتهم اللامنطقية على الإفلات من وضعيات مستحيلة، والحوارات القليلة الممنوحة لشخصياتهم… كلها عوامل تدفعنا لأن ننظر إليهم ككتلة من اللحم المتناسق (والوسيم أحيانا) لكنه من دون ذكاء أو أحاسيس.

توم كروز، أرنولد شوارزنيغر، بروس ويليس، كيانو ريفز… كلهم مروا من هنا، غير أن سيلفستر ستالون (77 عامًا) أكثر من جسَّد سوء الفهم المريع الذي يعتبر أن نوعًا من الأعمال يسمو على آخر في المطلق وأن من يؤدّون أدوار الحركة، هم بالتالي وبالضرورة، جماعة من صغار العقول المتوجهين إلى جمهور من الباحثين عن فرجة الانفجارات المتتالية ومشاهد القتال الرّخيص.

دمٌ افتتاحي

اكتشفت سيلفستر ستالون عند مغيب الثمانينيات، على أشرطة الـ VHS التي كنا نكتريها من نوادي الفيديو أو نتبادلها مع الجيران. كانت أجزاء “روكي” Rocky (المنحصرة في أربعة آنذاك) وأفلام “رامبو” Rambo (الثلاثة عندها) نموذجًا للفرجة المضمونة، بحكم إيقاعها المتصاعد وحماستها المفرطة، واحتشامها النسبي الذي يتوافق مع المشاهدة العائلية المحافظة.

رغم أني لم أكن أستوعب البعد الميثولوجي لصعود رامبو إلى الجبل، عزلته وتحوّله إلى نصف إله غاضب يصبّ سخطه على مدينة هادئة، والاستعارة حول الأثر البليغ الذي تركته فترة حرب فيتنام الطويلة في العقل الباطن لأمريكا، والذي تبدى في دفع فكرة “البطل المضاد” إلى أقصاها مجسّدةً في جندي متمرّد يعلن الحرب على وطنه الأمّ، فإن “رامبو: أول الدماء” Rambo: first blood (1982) لتيد كوتشيف، طبع مخيلتي الطفولية بصور لا تندمل: براعة رامبو في القتال، وقدرته على الانبعاث من العدم، نظراته النارية، التباين بين العنف الدموي والطبيعة الجبلية الخلابة، والخنجر المدبّب الشهير. لكن ما أثّر فيّ بشكل غير واع هو إحجامه على القتل رغم الفرصة المتاحة له للانتقام من أشخاص يبحثون عن تصفيته. في رواية “أول الدماء” لديفيد موريل، يقتل رامبو مثلما يتنفّس، أما في الفيلم، فينتج عن مقاومته الاضطهاد مصرع شخص واحد بشكل أقرب إلى حادثة! هذه فكرة رائعة لم ترد في السيناريو بدءًا، بل تفتّقت عنها بديهة ستالون وحدسه لما يمكن أن يخلق تعاطف المشاهد مع البطل، مانحًا رامبو جاذبية ولمسة من التراجيديا.

لـ”أول الدماء” أيضًا مكانة خاصة في قلبي لارتباطه بطفولتي وبداية عهدي بالأفلام، فضلًا عن أنه يشكل أحد المعابر الذهبية التي يدين إليها كل سينفيلي بالانتقال من الاهتمام الحصري بالممثّلين، إلى تحرّي أعمال المخرجين، ثم الاهتمام بمدارس سينمائية بأسرها، حين عرّفني بالكندي كوتشيف ورائعته “استيقاظٌ في فزع” Wake in fright (1971)، لتنكشف أمامي كنوز الموجة الأسترالية الجديدة.

سيلفستر ستالون

فنّانٌ نحت نفسه

سيلفستر ستالون من طينة الفنانين المجدّين الذين تشعر أنك لم توفّهم حقّهم حتّى حين تصفهم بالعصامية. ولد لأب من أصل إيطالي يمتهن الحلاقة وأمّ أوكرانية، في 1946 بنيويورك، حي “مطبخ الجحيم” Hell’s Kitchen، حيث يتعايش الفقر مع العنف.

أثناء ولادة صعبة، ينتج عن الضغط المفرط ضررٌ في أعصاب وجهه، فيخرج الرضيع سيلفستر بعينين كسولتين، واعوجاج في الفم، ولسان نصف مشلول. فضلًا عن المضايقات التي يتعرّض لها بسبب هيئته، يُعامل بقسوة من طرف والد غيور وصعب المراس، فتتعمّق عزلته. يجد في قاعات السينما ملجأً، ويتأثّر ب”سوبرمان” وملاحم “هرقل”، وبطل كمال الأجسام ستيف ريفز: “أحببت السينما لأنها مكان مظلم وهادئ. على الشاشة، هناك كل ما تحلم بأن تغدوه يومًا. بوسعك أن تصبح كل ما ترغب فيه مقابل 25 سنت”.

سيلفستر ستالون.

في نهاية الخمسينيات، ينفصل والداه وينتقل مع أبيه في سن الثانية عشرة إلى فيلادلفيا، حيث يتفشى الفقر والبطالة ونمنشر النضالات العمالية التي سيتمثلها في ما بعد في “قبضة”  F.I.S.T (1978). وحدها حلبات الملاكمة جسدت فسحة أمل لواحد من المستضعفين. بحث ستالون الشاب عن شق طريقه في التمثيل عملًا بنصيحة أحد أساتذته الذي رأى فيه شيئًا ما، لكن محاولاته كانت تُقابل بالرفض بسبب نظرته الذابلة ولكنته المتلعثمة، فلم يحصل سوى على بضعة أدوار صغيرة في أعمال مغمورة من بينها فيلم إيروتيكي. 

ذات ليلة، بعد أن شاهد مباراة محمد علي ضد تشاك ويبنر، خطرت بباله فكرة سيناريو، فأغلق على نفسه لثلاثة أيام ونصف ليكتب “روكي” Rocky (1976). وباقي القصة يسجلها التاريخ. 

ثمة تفصيل دال في مسار إنجاز “روكي”: حين تلقت الشركة المفوضة من ستالون للبحث عن منتج إجابات بالقبول من استوديوهات مثل “الفنانون المتحدون” United artists، قالت الشركة إنها أحبّت نص السيناريو وعزمت على أن تجعل منه عملًا يعزّز من شهرة ممثلين متعاقدين معهم من طينة ريان أونيل أو روبرت رِدفورد، رفض سيلفستر ستالون، وأصرّ قاطعًا على لعب دور البطولة، حتى بعد أن فاقت عروض شراء السيناريو 260 ألف دولار: “لم أكن لأبيعه أبدًا. قلت لزوجتي أنّي أفضل أن أدفنه في الحديقة الخلفية وأترك الدّيدان تلعب دور روكي”. عزمٌ فولاذي على أن يخوض فرصته إلى آخر رمق رغم إغراءات المال.

أشياءٌ عكسها سيناريو “روكي” بمنتهى الإخلاص والصّدق، مجسّدًا قصة حب رائعة، وفي الآن ذاته، صعود ملاكم لم يكن يراهن عليه أحد، بمثابة استعارة حول العزم على النّجاح في الحياة رغم عراقيل الأصل وشروط الشكل الخارجي. أن يتسلق المرء المراتب مثلما يصعد روكي الدرجات الـ72 لمبنى متحف فيلاديلفيا للفنون على موسيقى بيل كونتي الرائعة. مشهدٌ آخر رسخ في سجلات سينما السبعينيات.    

ماذا بعد بلوغ القمة؟

بعد انتصار “روكي” الماحق، لم يكن من السهل على ستالون العثور على نغمة النجاح قبل ظهور “رامبو”. الأكيد أنه ركب أحصنة خاسرة قبل ذلك وبعده، فاستخلص من تجاربه درسًا فحواه أنك كلما كنت مخلصًا لذاتك وجاعلًا من أفلامك مرآة تعكس التساؤلات التي تعبرها في حياتك، كلما كنت أقرب إلى قلوب المشاهدين. ولعل أبرز مثال على ذلك هو الفارق الكبير بين الجزء الخامس من روكي (1990) الذي خرج باهتًا ومخيّبًا للتطلّعات (ولستالون نفسه) والجزء السادس (2006) حيث لا يغشّ حول عمره متيحًا للمشاهد فرصة استشفاف ما يمور في دواخله، ومعيدًا الوصل مع الإخراج بعد عقدين كاملين.

هكذا، استرجع بفضل جرعة الصدق التي ميزت “روكي بالبوا”، واستعاد الطاقة الاستثنائية للفيلم الأول رغم أن نبرتيهما تختلفان جذريًا في الظاهر، لكنهما وجهان لعملة واحدة في العمق: حماسة الصعود الصّاعق وغير المتوقّع في الأول، وميلانكوليا التّردّي المنتظر والبطيء فيما يعتبره معظم محبي الساغا الجزء الختامي، بغض النظر عن حضور الشخصية في حلقات “كريد” الثلاث التي تلته على شكل Spin-off.  

يحلو للصوابية النقدية، وفق ميلها الراسخ إلى احتقار كل ما هو جماهيري، أن تعتبر سيلفستر ستالون ممثلًا من الدرجة الثالثة. النقّادٌ الذين يعطون به المثال في سوء التقمّص، لم يسبق لهم أن شاهدوا أفلامًا له ربما تكون متوسطة فنيًا، لكنها تستأثر بسحر خاص، أتاح لها مراكمة صيت أفلام الـ Cult، مثل “كوبرا” Copra (1986) حيث يجسد شخصية جذابة تمزج بين ديرتي هاري وسنيك بليسكن في عمل يقبض، رغم هنّاته، على قبس من روح الثمانينيات. مقدّمًا مشاهد حركة ومطاردة بالسيارات لا تخلو من أصالة وإثارة.

سيلفستر ستالون

في “كوبلاند” Cop land (1997)، مثّل شخصية رئيس وحدة شرطة ضعيف الشخصية وأصمّ جزئيًا. نوعًا من نظير معاكس لرامبو، يمتص الصدمات والإهانات، قبل أن يشكل مشهد مواجهة شهيرة مع روبيرت دي نيرو منقلبًا إلى النقيض.  

أما بخصوص سيلفستر ستالون، كاتب السيناريو، فحدّث بسوء التّقدير ولا حرج. هل من الصدفة أن يكون الرجل ثالث ممثل يرشح لجائزة أوسكار أفضل سيناريو أصلي عن “روكي”، بعد شارلي شابلن وأورسون ويلز؟ رفقةٌ ليست سيّئة كثيرًا! علاوة على تأليف أجزاء ناجحة من سلسلتي “روكي” و”رامبو”، كتب نصوصًا أصلية ومتماسكة إلى حد ما لـ”كليف هانغر” Cliffhanger و”فوق القمّة” Over the top، وخرج في 2010 بواحدة من أجمل أفكار إسداء التكريم لحقبة كاملة من السينما، حين جمع كوكبة من أبطال أفلام الحركة في الثمانينيات والتسعينيات، ليكتب ويخرج سلسلة The Expendables. وهو عملٌ تختلط فيه عذوبة النوستالجيا المخدّرة بالمرارة المنبعثة من النجوم الآفلة.

اقرأ أيضا: «الإعدام شنقًا»… للموت ألف وجه

شارك هذا المنشور