إذا ما نظرنا إلى الأدب السعودي، شعره ونثرة سنلاحظ شبه غياب للعلاقة المحورية بين الذات السعودية والآخر، سواء الآخر أجنبيًا أم عربيًا. شبه الغياب هذا قد يوهم بانقطاع العلاقة بين الذات والآخر في المجتمع، وهو وهم يتناقض مع الواقع المُعاش بطبيعة الحال؛ لأن الآخر (وبالأخص الآخر العربي) مشارك فاعل وحقيقي داخل المجتمع السعودي، لكن مشاركته -مع الأسف- لا نجد لها انعكاسًا في المدونة العريضة للأدب المحلي، وسبق أن اطلعت بشكل شخصي على بعض الدراسات الأكاديمية التي اهتمت بهذا المظهر الاجتماعي، وناقشت موضوع انصراف الأديب السعودي عن هذا المكون المشارك في الحياة الواقعية.
هنا تتفوق السينما والدراما السعوديتان في تماسهما مع الواقع الاجتماعي، ففيهما نلحظ حضور هذا الآخر بأطيافه المختلفة، من الآخر الغربي إلى الآخر العربي، وحتى الآخر الآسيوي، ولعل شكل حضور الآخر في السينما والدراما -في الغالب- يأتي بداعي التماهي مع الواقع المُعاش. لكنه مع هذا التمترس خلف ذريعة تصوير الواقع بأمانه، لا نجده يصور مدى تأثير الآخر في الذات؛ أي لا نجده يتغلغل داخل هذه العلاقة.
في فيلم «سلمى وقمر» الفيلم الطويل الأول للمخرجة السعودية عهد كامل، سنلاحظ أن الأمر يخالف الخط التقليدي لاستدعاء الآخر في الأدب والسينما السعوديين، فالثيمة الرئيسة للفيلم، قائمة على معالجة علاقة حقيقية بين الفتاة سلمى وبين سائقها السوداني قمر (الآخر العربي)، الذي يصحبها في رحلة حياة تستمر من فترة دخول سلمى للمرحلة الابتدائية، وحتى لحظة تخرجها من المرحلة الثانوية، اللحظة التي تنتهي فيها مهمة قمر والعلاقة مع الآخر كذلك، والتي يتضح من خلال أحداث الفيلم أنها علاقة هامة وحقيقية في حياة كليهما؛ سلمى وقمر، وهي العلاقة التي تمثل محور الفيلم والعدسة التي ننظر من خلالها إلى الصراعات الدائرة طوال فترة العرض ونلمس قيمتها وأثرها الجوهري في الذات، إلى درجة أن حياة سلمى الطائشة تتحول وتتبدل بسبب الوجود الخَيِّر لقمر في حياتها، خاصة بعد وفاة والد سلمى، مما يؤكد أهمية وجود الآخر في حياة الذات، ومدى تفاعله الجمالي والإنساني والحقيقي أيضًا.
ومن ناحية أخرى يمكن النظر إلى فيلم «سلمى وقمر» من جهة فكرة «ما يعرفه الفنان حق المعرفة»؛ بمعنى أن كل موضوع يصلح أن يكون فكرة لفيلم قد قِيل بالفعل، وتم التعاطي معه بأبهى صورة، فلا يبقى لدى الفنان سوى حياته الشخصية التي يعرفها حق المعرفة، ولديه كامل الحق في تصويرها سلبًا أو إيجابًا، وهذا الشكل في التعاطي مع الفن فيه مساحة جيدة للتعبير الحر؛ أي التحكم في مستوى الواقع ومدى أمانته مع ما كان بالفعل، وهنا يبرز دور المخرجة عهد كامل، التي أهدت الفيلم لروح سائقها، ما يجعلنا نتعاطى مع الفيلم من خلال زاويتها الخاصة، رؤيتها الفنية والإنسانية تجاه الآخر. وأعتقد أن المخرجة نجحت أيما نجاح في ربطنا بواقعها الذي تعاملت معه بأمانة وجمال، سواء من ناحية علاقتها بسائقها الذي ينعكس في شخصية «قمر» أم من ناحية ضغط الأم التي تمثل بدورها آخر عربي، ليس بالنسبة لبطلة الفيلم سلمى بالطبع، بل بالنسبة للمشاهد السعودي، فالأم من أصول فلسطينية، ولديها هم وجودي أثر في حياة الطفلة سلمى، وهذا النوع من العلاقات الاجتماعية هو بالتأكيد محل اهتمام وتساؤل جعل المشاهد في حالة ترقب مستمر للأحداث والصراعات داخل العمل.
واستطاعت المخرجة وكاتبة الفيلم عهد كامل بوعيها الفني وقدرتها العاطفية أن تعالج موضوع الآخر باقتدار، من خلال وجهة نظر شخصية نستطيع أن نصفها بـأنها عرض للسيرة، وكأنها تضع حياتها الشخصية بشجاعة أمام المشاهد، لتقول له: «هذا ما كان مع قمر، وهذا ما أعرفه حق المعرفة».
أما من الناحية التقنية (الفنية) فالمخرجة لم تحاول أن تبالغ في استعراض قدراتها البصرية، ولعل ذلك عائد إلى الطبيعة الدرامية للفيلم، فالأفلام التي تميل إلى البعد الدرامي في العادة تهتم بالمكتوب أكثر من الكوادر وزوايا التصوير.
وبالإحالة إلى النص الذي كتبته المخرجة نفسها، أجد أن العمل من ناحية الكتابة كان من أبدع ما يكون؛ سواء من ناحية كتابة المشاهد أم الحوارات، فلم يكن في الحوارات بين أبطال العمل الكثير من الادعاءات أو المبالغات الدرامية.
أما بالنسبة لكتابة المَشاهد، فقد كانت عهد كامل أمينة للواقع ولا تفترض أي رؤى بصرية خارجة عن المُشاهد بالنسبة للحقبة الزمانية لحكاية الفيلم، والتي تقع في الثمانينيات والتسعينيات الميلادية، أما رسم الشخصيات، فقد جاء سلسًا ولطيفًا عبر أحداث الفيلم، بشكل بسيط وعفوي أحيانًا، ومقنع في الوقت ذاته، فعلى الرغم من طبيعة شخصية سلمى التي تبدلت أكثر من مرة خلال مدة عرض الفيلم، إلا أنها بدت منطقية وغير متكلفة، فظهرت وهي طفلة صغيرة بشكل لطيف، ولعبت الدور باقتدار الطفلة الرائعة تارة الحكيم، ثم وهي شابة بشكل استثنائي من خلال الممثلة الرائعة والتي أتوقع لها مستقبلًا باهرًا رولا دخيل الله.
وهنا لا تفوتني الإشارة إلى الدور الكبير والمحكم الذي أداه الممثل السوداني الجميل مصطفى شحاته، الذي قام بدور السائق قمر بكل اقتدار. وأعتقد أن قدرًا كبيرًا من نجاح الفيلم واللطف الذي ظهر به جاء بسبب اندماج الشخصيتين المحوريتين، سلمى وقمر، فلولا قدرات الممثلين رولا دخيل الله ومصطفى شحاته لظهر الفيلم بشكل مختلف تمامًا، فهما اللذان حملا العمل على كتفيهما فنيًا، وبطبيعة الحال لا يتيح للمثلين هذا الاندماج والتفاعل سوى مخرج متمكن، وفريق عمل ممتاز، وقد انعكس إبداع الطاقم وظهر من خلال اندماج هاتين الشخصيتين.
أخيرًا يجب أن أنوه إلى أمر في غاية الأهمية لاحظته في «سلمى وقمر»، وهو استثمار الجانب الشعري في الصوت البشري الخام والخالي من الموسيقى المصاحبة، هذا المكون الصوتي هو في الأساس جزء أصيل في صناعة السينما، ورغم ذلك قد لا يحسن استثماره كثير من المخرجين، وفي تصوري كان هذا المكون الصوتي من أبرز وأجمل ما قدمته المخرجة عهد كامل في فيلمها لسببين؛ الأول لأن هذا المكون دفع بالعمل باتجاه البعد الشعري الرهيف، والسبب الثاني يكمن في الطاقة الجمالية لهذا البعد الشعري والذي أضاف للعمل نوعًا من الصدق الإنساني في العلاقة بين قمر وسلمى، وهذا الصدق الإنساني لم يأت بشكل فج ومقحم، بل جاء مبررًا بسبب اختيار الغناء الصوفي، الذي يمثل أحد أجمل مكونات الغناء لدى الآخر المتمثل في السائق السوداني قمر. وعبقرية المخرجة تأتي في استثمارها لهذا المكون كأداة للمصادقة على واقعية القصة، وكان باستطاعتها أن تجعل هذه المصادقة من خلال الصوت الأصلي للأغنية الذي ظهر في نهاية الفيلم، لكنها آثرت أن تقدمه في ثنايا العمل من خلال صوت شخصية قمر، لتتأثر بها سلمى بعد ذلك، وأن تجمع الصوتين في نهاية الفيلم كما لو كانا يحتضنان بعضهما البعض. وقد أحسنت عهد كامل إذ فعلت ذلك، لأنها من خلال هذا الفعل الفني تكون قد أعطت لعملها السينمائي تلك الطاقة الشعرية التي تتسرب إلى وجدان المتلقي دون كبير عناء، وبلا استعراضات سينمائية، ما جعل من الفيلم علامة متميزة وفارقة في موضوع الالتفات إلى وجود الآخر في حياة الذات.
اقرأ أيضا: كل ما تريد معرفته عن الأفلام السعودية الطويلة في الدورة الرابعة لمهرجان البحر الأحمر