قبعة بيسبول، عقد وسوار ثمين، قميص جامعي، حذاء «نايكي» أحمر خاص، جينز… إنه سبايك لي (1957). في سن السابعة والستين، يرتدي ملابس صبي من القرن الماضي، لكنه لا يمكن أن يكون أكثر شباباً ومعاصرةً. إنه أحد أكثر المخرجين طموحاً ونضجاً، متمرّد غاضب على النظام العنصري، يروي، سينمائياً، هشاشة الإنسان والزمن والذنب والألم الجماعي والفردي. اتخذ موقف المراقب الخارجي. نحيف، يرتدي نظارات سميكة، مارق، محبّ وشغوف بكرة السلة، ويجيد التحدث على الشاشة.
أفلامه تدور حول الفظائع التي تقع تحت طبقات من الظلم والخوف والتمييز العرقي والثقافي. سياسي أيديولوجي وناقد ومناضل، فيلموغرافيا سبايك لي، لا تغطي فقط هواجسه الدائمة، بل وجهة نظر ثابتة حول البلد والثقافة والجراح وهياكل المجتمع العنصري غير المستوية التي ولد فيها. مخرج نادر، ملتزم بقضيته عن العنصرية، لم يذهب سينمائياً خارج هذه الحدود التي رسمها لنفسه. تفاوتت نبرات أفلامه: في البداية نفث الغضب من خلالها، واجه العنصرية بطريقته الفجة، لكنه أيضاً مارس نقدًا ذاتيًا على أبناء جلدته.
رمى عنه قليلاً وزر غضبه خلال رحلته السينمائية. ساد اعتقاد أنّه ربما أفسح المجال للمغفرة، تاركاً وراءه الماضي، لكنه كان يعود دوماً بصورة أكثر غضباً ونقمةً. غضب استفحل في فيلميه الأخيرين «BlacKkKlansman» (2018) و«Da 5 Bloods» (2020)، وفي إطلالاته وتصريحاته، يكيل سيلاً من الشتائم بينما لا يغيب لفظ «الزنوج» عن لسانه.
المخرج الأسود الأكثر شهرة في السينما الأميركية، ابن عازف الجاز، نشأ في بروكلين. أسلوبه الشخصي غالباً ما يجعله مثيراً للجدل. بدأ صغيراً جداً، حين كان لا يزال طالباً في جامعة نيويورك، حيث صنع «Joe’s Bed-stuy Barbershop: we Cut Heads» (1983)، فيلم التخرج لشهادة الماستر. مع «She’s Gotta Have it» (1986) و«School Daze» (1988) جذب انتباه النقاد.
فيلمه «Do The Right Thing» (1989)، القاسي للغاية حول مواضيع عرقية، حصل على ترشيح لأفضل فيلم وتم تقديره لأصالته الفنية وإلهامه في التعامل مع الموضوع الحساس.
أسلوب الفيلم السينمائي (الانتقالات المفاجئة، المونتاج السريع، الواقعية المفرطة، موسيقى فرقة «بابليك أنيمي»، الألوان الزاهية) كان له تأثير قوي على اللغة السمعية البصرية المعاصرة (الإعلانات التجارية ومقاطع الفيديو الموسيقية). إن الرغبة في تقديم خطاب معاصر والنظر إلى التاريخ للتوقف والتأمل والشعور بنبض العصر، سمحا للفيلم بالتقاط أحداث معينة أو حتى توقعها.
صدر الفيلم قبل عامين من تعرّض رودني كينغ للضرب من قبل الشرطة، مما أشعل فتيل أعمال الشغب في لوس أنجلوس عام 1992. تبعت ذلك أفلام مثيرة للجدل مثل الفيلم الموسيقي «Mo’ Better Blues» (1990) وفيلم «Jungle Fever» (1991)، الذي يحكي قصة الحب المستحيل بين رجل أسود وامرأة إيطالية أميركية. ثم جاء فيلم «Malcolm X» (1992)، وهو ملحمة حقيقية تروي، بأسلوب وثائقي، القصة المأساوية لزعيم «الفهود السود» الذي اغتيل في نيويورك عام 1965.
انتقاد سبايك لي لهوليوود بسبب المعاملة التي تخصّصها للفنانين السود، كلفه ترشيح أفضل مخرج. تبع ذلك فيلم «Crooklyn» (1994)، وهو إعادة نظر شاملة في حقبة السبعينيات، وفيلم «Clockers»، وهو إدانة لتجارة المخدرات التي تدمر الحياة في الأحياء الفقيرة السوداء.
ومع أفلام مثل «Get on The bus» (1996) و «Summer of Sam» (1999)، عاد بشكل أكثر صراحة إلى الموضوعات السياسية والاجتماعية، وكما دائماً يبدأ من عالم صغير، للحديث عن شيء أكبر وأكثر جدية.
وليس من قبيل المصادفة أنّ العديد من محطات المخرج تدعو إلى إجراء عملية نقد، سواء في الحديث عن الملذات التي تخدّر المجتمع كما في «Chi-Raq» (2015) الذي يقدّم وصفاً محدداً لعصر البطولة النسائية في الثقافة الأميركية في سنوات ريهانا وبيونسيه، أو في استحضار أساطير أو أمثال من العصور القديمة لرسم أوجه تشابه مع اليوم، مثل الكوميديا اليونانية «ليسستراتي»، الذي كتبها أرسطفان عام 411 ق.م. ويعكس فيلم «Red Hook Summer» (2012) الانتهاكات التي ارتكبتها السلطات الدينية الأميركية، وقد الكشف عنها في هذا القرن.
أفلام سبايك لي تتجنّب الأخلاق وتتجاوز الزمن، لأنها تقارب الصراعات التي تكررت وجعلتنا بشراً منذ الأزل، مثل أفلام «25th hour» (2002)، و«Inside Man» (2006) و«OldBoy» (2013، وهو إعادة لفيلم بارك تشان ووك الياباني الذي يحمل الاسم نفسه). وعلى الرغم من أنه يكرّر المواضيع نفسها، إلا أن سينماه تجمِّد التاريخ باعتباره تراكماً للتجارب.
كانت قضايا الأجيال والوراثة محورية في بداية حياته، مثل «Mo’ Better Blues» الذي يقدّم قصة موسيقي يتعلم عدم نقل الأخطاء الموروثة في تربيته إلى ابنه. ومما يدل على ذلك أنّ هذا الفيلم كان التعاون الأخير بين المخرج والموسيقار بيل لي، والد سبايك، الذي تولّى الموسيقى التصويرية في العمل، قبل أن تتوتر العلاقة بين الاثنين.
لا يصور سبايك لي الصور النمطية أو يندد بمواقف معينة، ولا يقدم أعماله حيث يمنع البطل من الذهاب إلى الحمام أو ركوب الحافلة أو تناول الطعام في مطعم معين. يحتضن لي الاختلاف العنصري، لأنه ثقافة أيضًا. ويذهب أبعد من القول بأننا يجب أن نكون جميعاً متساوين أمام القانون، ليسأل عن التعايش بين الشعوب المختلفة المنقسمة على أكثر من لون بشرة. لذا، فإن إجاباته أكثر تعقيداً، ربما لا تكون إجابات حتى، بل مجرد أسئلة.
لا شخصيات مثالية في أعماله، فهناك بشر يرتكبون الأخطاء وآخرون يفعلون الشيء الصحيح. وفي معظم الأحيان، لا نعرف أيهما هو. لا ينحاز سبايك لي إلى أي طرف، ولا يحكم على الآخرين، بل يصوّر المواقف الاجتماعية المعقدة التي تنتهي بصراعات سخيفة، وربما بخسارة فادحة للأرواح.
يتكرر التاريخ دائماً، ومن وقت إلى آخر، تنفجر طنجرة الضغط الاجتماعي الأميركية في احتجاجات مثل حركة «حياة السود مهمة». وفي الوقت نفسه، يتبع سبايك لي، الذي يفهم مسار التاريخ ويستوعبه، خطة موضوعه الخاص على مدى ما يقرب 40 عاماً.
يمكن التعرف بسهولة على أفلام لي من خلال التشنجات اللاإرادية في الأسلوب (السفر مع الشخصية وهي تنزلق نحو الهاوية، القطع المتسارع لمحاكاة إيقاع موسيقي، اللقطات المتكررة لتعزيز السرد)، وأيضاً من خلال الخطاب الذي يحلل به الخصوصيات من الداخل، أي أميركا السوداء، ويعيد سياقها.
تبدأ أفلامه من وجهة نظر ناضجة جداً، تأخذ الأكوان الصغيرة كنقطة انطلاق (سواء كانت مشاريع الإسكان في بروكلين، أو التقاطعات العنيفة في جنوب شيكاغو) لصياغة مناقشة أوسع لرؤية العالم حول الجنس والعنف والعجز والعدالة والأسرة والوراثة.
بعبارة أخرى، لا تهتم سينما سبايك لي ببلورة الهوية الأميركية الأفريقية، بل بالبحث في الأسباب التي تجعلها معقدة وقابلة للتغيير. علاوة على ذلك، فإن الواجهة التي يعرض بها سبايك لي الجنس والعرق ويناقشه، تظهر بالفعل استعداد أفلامه للحوار، بصراحة متحرّرة لا تحتوي على أي من الأخلاق التي تتعامل بها السينما الأميركية بشكل عام مع هذا الموضوع.
تمر السنوات، وسبايك لي غاضب. وبعدما كان رئيسًا للجنة تحكيم «مهرجان كان» عام 2021، ويستعد ليكون رئيس لجنة التحكيم في «مهرجان البحر الأحمر» هذه السنة، لا يزال كذلك، لأنه كما يظهر في خاتمه فيلمه الأخير «BlacKkKlansman»، لا يزال هناك الكثير مما يجب القيام به.
لقد مرّت 35 عاماً منذ «Do The Right Thing» الذي يميزه أكثر من غيره كمخرج وناشط. كان ذلك في عام 1989، وكانت هناك شخصية تدعى سمايلي، مكرّسة لتذكّر مالكوم أكس ومارتن لوثر كينغ، تقول «كلاهما مات ولكن لا يزال علينا الاستمرار في القتال. في عام 2024، لا تزال هذه العبارة صحيحة، فنحن نعلم مدى غضب سبايك لي من السينما الأميركية التي تتحدث عن العنصرية، ومدى غضبه من فيلم «Driving Miss Daisy» (1989) وفيلم «Green Book» (2018).
فاز كلاهما بجائزة أفضل فيلم في الأوسكار. كلاهما مثال جيد على البيان العنصري المريح الذي تستوعبه هوليوود وعامة الناس. بإخراج من البيض، ينتهي بهم الأمر إلى تحويل الظلم إلى نكات لطيفة مع منعطفات درامية صغيرة، مما يجعل الجمهور مرتاحاً للمشاركة في هذا الاحتجاج العنصري الخامل.
سينما سبايك لي هي العكس تماماً، و«Do The Right Thing» هو أفضل مثال على ذلك. لهذا، بعد كل هذه السنوات، لا يزال عملاً مثيراً للجدل وغير مريح ومعقد، ولا يزال تأثيره حاضراً. مع الطاقة اللامحدودة لحركة روزي بيريز (التي وقعت عين سبايك لي عليها بعد رؤيتها ترقص في ملهى ليلي قبل وقت قصير من تصوير الفيلم)، على صوت فرقة «Public Enemy» وأغنية «Fight The Power»، نكون أمام إحدى أجمل الشارات الافتتاحية في تاريخ السينما.