فاصلة

مقالات

«سايكو» هيتشكوك… الورطة للجميع

Reading Time: 4 minutes

يبدأ فيلم «سايكو Psycho 1960» للمخرج ألفريد هيتشكوك باستعراض واسع لملامح مدينة فينيكس بولاية أريزونا الأمريكية، تحديدًا في يوم الجمعة، 11 ديسمبر، الساعة 43: 2 بعد الظهيرة.

ذلك التحديد الدقيق من هيتشكوك للزمن يعني أن لحظة البداية ثمينة، وقاطعة، كما هي العادة في الأعمال البوليسية سواء الأدبية منها أو السينمائية. تأخذنا الكاميرا وتقترب من نافذة نصف مفتوحة مظلمة من الداخل، كما يعتقد هيتشكوك في ظلمة النفوس البشرية، التناقض البين بين سطوع النهار في الخارج بعد الثانية ظهراً، وظلمة نفس الممثلة «جانيت لي» ماريون كرين، في الداخل. 

في غرفة الفندق الرخيص تسترق ماريون علاقة حب مع الممثل «جون جافين» في دور سام لوميس الذي يعاني من تراكم الديون وعدم قدرته على دفع نفقة لزوجته السابقة، بينما تطمح ماريون في الزواج من سام، قبل أن تتركه مشوشة لتعود إلى مكتب العمل في الثالثة ظهراً. 

سايكو

يتخلّص هيتشكوك من الماضي دفعة واحدة في المشهد الافتتاحي الطويل، يستعرض لنا ماضي ماريون، وعشيقها سام حتى يترك كل ذلك وراءه ويتفرغ للحاضر، فالماضي عند هيتشكوك ليس معدوم القيمة، بل هو ماض ضرب ضربته قبل زمن الفيلم، ونحن الآن مع آثاره المدمرة، نحن الآن مع الحاضر، والحاضر تحدث فيه الجرائم.      

في مكتب العقارات تتسلم ماريون 40 ألف دولاراً من المال لشراء منزل لابنة كاسيدي، وهو عميل كبير السن، يغازل ماريون بطريقة فظة، ويحدّثها عن أن مبلغ 40 ألف دولار غير كاف لشراء السعادة، لكنه كاف لإبعاد التعاسة. على ماريون أن تضع المال في البنك مؤقتاً، لكنها قررت سرقته، ونفهم من دون إشارة واضحة من هيتشكوك أن ماريون قررن أن ذلك المال من الممكن أن يُبعد عنها التعاسة. قرار ماريون سرقة المال غير واضح، فإذا كانت الصدفة هي التي وضعت المال في طريقها؛ فإن عدم ترددها وتحضيرها السريع لحقيبة ملابسها كي تهرب بالمال، يورّط المُشاهِدين معها في ذنب أخلاقي، وكأننا لا نحتاج أسباباً درامية قوية، لسرقة المال مثل ماريون. أمّا هيتشكوك نفسه، فهو أخلاقي، عائلي، فيكتوري، متحفظ.

سايكو

 ربما فكّر هيتشكوك أيضاً أن الأسباب الدرامية القوية لسرقة المال ستؤدي إلى الميلودراما، بينما سهولة أخذ قرار سرقة المال، يُقرّب ماريون من الدافع النفسي الغامض الذي ينجح في إبطال استباق المشاهدين لأحداث الفيلم.

نعرف من كتاب «هيتشكوك تروفو»، وهو حوار طويل أجراه المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو مع هيتشكوك؛ هوس الأخير بشل قدرة المشاهد على توقع أحداث الفيلم اللاحقة لأطول وقت ممكن. لم يتوقع أحد بعد أربعين دقيقة من بداية الفيلم، مقتل البطلة الشهيرة جانيت لي.

سايكو

أثناء قيادة السيارة تتخيل ماريون الأصوات والمحادثات المستقبلية التي ستتهمها بسرقة المال. يراها شرطي وهي تستبدل سيارتها بأخرى، وتدفع الفرق بدون مساومة. هيتشكوك من عظماء اللقطات القريبة. وجه جانيت لي بعينيها المتسعتين، وأنفها القصير الأنيق، بطاقتيه المرتفعتين الحسيتين. ماريون لا تملك خطة لما بعد سرقة المال. هيتشكوك يبحث عن سبب درامي لزيادة اتساع عينيها. تقود ماريون سيارتها في الليل الممطر. سبب وجيه لزيادة اتساع عينيها. يستمتع هيتشكوك بعينيّ جانيت لي الشبيهتين بفنجاني شاي كلاسيكيين، ماركة روميو وجولييت، فوّهتْهما أوسع من قاعدتهما. 

سايكو

على الطريق تجد ماريون موتيلاً صغيراً يمتد أفقياً، ووراءه بيت أشبه بقصر، يصعد عمودياً. العلاقة الجمالية بين الموتيل الأفقي، والبيت العمودي، المملوكين للممثل أنتوني بيركنز في دور نورمان بيتس، كانت مدار حديث بين فرانسوا تروفو وهيتشكوك: ماريون الضائعة، الفريسة الهشة، بسلوكها القهري، في الخط الأفقي الضعيف، ونورمان الذهاني، الخجول، ووالدته المُتخيَّلة، الميتة جسدياً، الشريرة، في الخط العمودي القوي. 

المواجهة بين ماريون ونورمان هي نواة الفيلم، والمال كان خدعة هيتشكوك، لصرف النظر عن جريمة القتل. يدير هيتشكوك حديثاً مخيفاً بين نورمان والدته التي يتسرب الشك حول وجودها قليلاً، لكن هيتشكوك ما زال محتفظاً بمفاجآته الدرامية المتطرفة، وهي أن نورمان يُجري الحديث بينه وبين والدته، عبر تغيير صوته لصوت والدته، عندما يحين دورها في الحديث.

والدة نورمان ترى ماريون فتاة رخيصة تريد اختطاف ابنها. يعارض نورمان والدته، ويأخذ الطعام إلى ماريون التي تسمع شيئاً من شجار الأم والابن. تعتذر ماريون لنورمان إن كان بسببها حدث شجار بينه وبين والدته. يشتكي نورمان من طباع والدته، ويورّط ماريون بكلمات ضد والدته، وكأنه يغتصب من ماريون كلمات تبرر له في النهاية صحة كلمات والدته عنها.

سايكو

 في غرفة استقبال الموتيل، ترى ماريون الطيور المحنطة: بومة، غراب، عصفور، التحنيط هو هواية نورمان المفضلة. يقول نورمان بخجل لماريون «أنتِ تأكلين مثل العصفور»، ثم يقول بأكثر الطرق غرابة «إن العصافير تأكل بشكل مروع». ملامح نورمان لا توحي بماذا كان يقصد، هل يقصد وحشية ماريون في تناول الطعام؟ هي لم تأكل بشهية، مجرد قضمات قليلة. لا تفهم ماريون وتنظر لنورمان الذي يبتسم، ويقول مستدركاً خطأه في التعبير «لكنني في الحقيقة لا أعرف شيئاً عن الطيور، إن هوايتي هي التحنيط فقط». نتخيل هيتشكوك أثناء تحضيره للفيلم، وهو يقول «ماذا لو اكتشف المُشاهِد في نهاية الفيلم أن نورمان كان قد حنّط جثة والدته منذ سنوات».  

يتلصص نورمان من ثقب في غرفة استقبال الموتيل على ماريون في غرفتها، وهي تخلع ملابسها. ماريون تحت دوش الاستحمام تبتسم لدائرة ثقوب المياه، ربما سبب الابتسامة، أنها في الغد ستعود إلى مدينة فينيكس، وترد المال إلى صاحبه. من وراء مشمّع البانيو تتقدم والدة نورمان بسكّين. تواجه ماريون طعنات السكّين بصرختها الشهيرة التي رأيناها مئات المرات في كتب السينما. لا يُبالغ هيتشكوك في غزارة الدماء، ويكتفي برعب قطرات الدماء على بلاط القيشاني الأبيض، ودائرة مياه الدوش المفتوحة. لقطة أخرى أشد شهرة. ماريون نصف وجهها ملتصق ببلاط الحمام، وعينها ثابتة في عين الكاميرا، وطاقة أنفها مُشرَّعَة إلى الأعلى، وصوت مياه الدوش سائبة. 

الترسيمة الدرامية عند هيتشكوك في فيلم «سايكو»، هي أن البريء يُنفّذ الجريمة نيابة عن مجرم حقيقي، لكن الجريمة تربط بين البريء، وبين المجرم الحقيقي بحبل لا ينقطع، أي تربط بين مجرم ومجرم حقيقي. والدة نورمان هي القاتلة الحقيقية لماريون كرين، ونورمان بيتس هو فقط قاتل بالنيابة عن والدته، إلا أن والدته لم تقتل بالفعل، ولهذا على نورمان إخفاء معالِم جريمته.

اقرأ أيضا: المرض العضال على سرير السينما

شارك هذا المنشور