في أول أفلامها الروائية “سانتوش” Santosh، تغوص المخرجة البريطانية الهندية سانديا سوري في ظروف وفساد مجتمع بدا أن النساء هن الخاسر الأكبر فيه. الفيلم يحمل اسم بطلتها “سانتوش” التي دفعت بها ظروف مأساوية لتكون في قلب شبكة متداخلة قاتمة من العنف والعنصرية. رحلة هذه البطلة في العالم القاسي من حولها والذي لم تختبره بهذه الحدة من قبل، والخيارات التي عليها مواجهتها، تجعل دراما هذا الفيلم تهز الرائي بالغضب أحيانا، فيما يبدو تغيير الواقع حلمًا بعيدًا.
عرض الفيلم في الدورة الماضية لمهرجان كان السينمائي الدولي ضمن المسابقة الرسمية، وهو الروائي الأول لمخرجته بعد سلسلة من الأفلام الوثائقية القصيرة، وفيه تتكثف خبرتها في العمل التطوعي في عدة منظمات إنسانية في الهند، وهو ما يفسر الحمل الإنساني الذي يتكثف في الفيلم من خلال الهموم الاجتماعية التي يناقشها والروح النقدية التي يطرح تلك الهموم من خلالها. بيد أن الفيلم لا ينجر إلى المواعظ الأخلاقية أو الإصلاحية، ويبقي حكايته وأجواءه شائكة ومتعددة الطبقات وقريبة دائمًا من الإنفجار.
تختصر المشاهد الافتتاحية من الفيلم حال البطلة “سانتوش”، التي نراها في المشهد الأول تركض مفجوعة وبلا هدف، قبل أن تتوقف في شارع هندي مزدحم وتتصل بأمها وتبدأ في البكاء. البطلة الشابة فقدت زوجها الشرطي للتو. تُبيّن المشاهد اللاحقة أن الحياة بدت تضيق عليها، إذ لا تقبلها عائلة زوجها الراحل، وحياتها في بيت أهلها ليست سهلة على الاطلاق، وهي لا تملك وظيفة يُمكن أن تساعدها أن تكون مستقلة عن أهلها، وحتى الشقة التي تعيش فيها تعود ملكيتها للشرطة الهندية.
لا يسهب الفيلم كثيرًا في تبيان ملامح شخصية البطلة والتجارب التي مرت بها والتي جعلتها المرأة التي نراها في الفيلم. هناك إشارات لشخصية قوية متمردة كما تصفها أم زوجها قاصدة إهانتها. والبطلة تزوجت عن حب، وهو أمر لا يبدو أنه يشيع كثيرًا في الطبقة الاجتماعية التي أتت منها. كل ذلك جعل الطريق الجديد الذي اخذته البطلة، محفوفًا بالغموض والرهبة أحيانًا.
تستفيد البطلة من قانون جديد يسمح لأرامل رجال الشرطة أخذ وظائف أزواجهن، وتبدأ في التدرب لتصبح شرطية. لتدخل عالمًا ذكوريًا بالكامل، رغم أن هناك نساء كثر يعملن في الشرطة. تصطدم “سانتوش” سريعًا بفساد الشرطة، في واحد من المشاهد المعبرة يضع شاب كانت البطلة على وشك القبض عليه مبلغًا من المال بيدها. كان ملمس المال والموقف برمته صدمة لها، إلا أن عينيها سرعان ما تلاقتا مع عيني زميلة لها رأت كل شيء وابتسمت بتواطؤ.
تواجه الشرطية الجديدة التحدي الأكثر جدية وقسوة في عملها الجديد عندما تجد نفسها في وسط تحقيقات مقتل فتاة في الخامسة عشر من طبقة فقيرة للغاية. سيأخذ الفيلم انعطافة درامية عندما يبدأ في التحقيق (هناك عناصر من قصة الجريمة في الفيلم حدثت فعلاً في الواقع)، ويتخذ منحنى يجعله فيلم إثارة بجودة عالية. كما يأخذ التحقيق الجنائي بطلته إلى وجهات معتمة كثيرًا، ويختبر ويسائِل قيمها ومُثلها. التحقيق أيضًا سيقود البطلة إلى جرح فقدان زوجها المفتوح، والذي قتل بحجارة أصابت رأسه أثناء احتجاجات شعبية، ولم يتم التوصل للجاني.
في موازاة خط التحقيق في جريمة القتل والذي تتصاعد أهميته في النصف الثاني من الفيلم، نجد اهتمامًا متزايدًا بالتفاصيل الحميمة الصغيرة التي توفر خلفية مهمة لفهم الشخصيات وردود الأفعال والبيئة التي تجري فيها الأحداث. من المشاهد المعبرة نرى والد الفتاة المقتولة الذي يجلس على الأرض عندما يدخل إلى مركز الشرطة في إشارة إلى تدني طبقته الاجتماعية وشعوره بالضعة إذ يدرك مكانه في الهرم الاجتماعي شديد الطبقية في المجتمع الهندي.
من التفاصيل الأخرى، التي تلفتنا للوضع البائس الذي تتحرك فيه البطلة هي التعامل مع جثمان الفتاة المقتولة بقسوة ولا مبالاة من قبل جهاز الشرطة. فالشرطة المسؤول يرفض اصطحاب جثمانها للمشرحة، ويرشح البطلة لكي تأخذ جثة الفتاة المغطاة بقماش متسخ ويطير فوقها الذباب. تصور الكاميرا راس البطلة وهي تجلس في الشاحنة المكشوفة، وعندما يفتح باب الشاحنة يتضح أن الشرطية وضعت رأس الفتاة الميتة على رجلها، في مشهد شديد التأثير. وحتى في المشرحة كأن على البطلة أن تصارع حتى تحظى الجثة بمعاملة إنسانية.
يدفع الاهتمام الإعلامي بقضية الفتاة البطلة إلى بذل اهتمام أكبر في العثور على الجاني أو الجناة. تذهب مع رئيسة لها إلى القرية التي تعيش فيها الفتاة للتحقيق من هناك. يوفر التفاعل بين البطلة ورئيستها نافذة فعالة على عمل الشرطة الهندية. تفهم الشرطية القديمة والمحنكة ذات الشخصية الكاريزمية عالم الشرطة الذي تعمل فيه منذ سنوات عديدة ولا تتحداه، بل تسير فوق قوانينه غير المكتوبة.
ولعل الفيلم والرحلة التي قطعتها البطلة مع رئيستها في العمل، يقتربان من أفلام الطريق السينمائية، وحتى قبل الرحلة، كانت البطلة تقابل يوميا أثناء عملها أناس غرباء، لكل منهم قصته الخاصة التي يتم المرور عليها في الفيلم. يترك كل من مر في الفيلم أثرًا نفسيًا مهما بسبب البناء الواعي والبحث الموسع للمخرجة، واهتمامها بكل الشخصيات، سواء تلك التي حجزت وقتًا طويلًا على الشاشة أو التي ظهرت لدقائق قليلة.
صور الفيلم المصور السينمائي الهولندي لينرت هيليج. ما أضاف للفيلم كثيرًا، إذ بحث المصور عن جماليات وتركيبات للمشاهد لم نألفها في السينما الهندية، وربما يعود ذلك إلى أن عين جديدة تطالع هذه الأجواء. يسحب المصور الألوان في مشاهد معينة لتقترب الصورة من الشحوب، ويعكس من خلالها الحيرة والوحدة اللتان تشعر بهما البطلة، فيما يضاعف من قوة الألوان في مشاهد أخرى عامة، ليزيد من تركيز جرعة الحياة الصاخبة التي تميز البيئة الهندية.
المخرجة نفسها تعيش لفترات طويلة خارج الهند، وهي الأخرى تنظر من الخارج إلى الداخل الهندي، وتلتقط دواخل الشخصيات وطابعها الحميم، كما تلتقط تفاصيل صادمة داخل هذه البيئة التقليدية التي ألفها أصحابها. هناك وعي وحساسية خاصين في الفيلم لا شك أن لهما علاقة بتجارب المخرجة وانفتاحها على ثقافات أخرى، ونظرتها للواقع في بلدها ومكانة النساء فيه.
تصوغ المخرجة فيلما قسوته لا تتوقف إلا لدقائق قليلة لالتقاط الأنفاس. في هذه الاستراحات القليلة تمرّ المخرجة بحساسية نسوية كبيرة على وحدة البطلة. تخفض المخرجة مثلًا من شريط الصوت حتى يكاد الصمت أن يحكم المشاهد التي نرى فيها البطلة وحدها في البيت أو الطريق. في تلك المشاهد الحميمة كنا بالكاد نسمع ما كان يجري في الشارع المزدحم، على عكس المشاهد العامة، التي كانت تعج بأصوات ضجيج الشارع.
توسع المخرجة حكاية فيلمها وتتصدى لذكورية مستحكمة وعالم مضطرب، لكنها كانت تعيد ترتيب السيناريو لتكون “سانتوش” في بؤرة التركيز والاهتمام. وتعيد كل مرة الاهتمام بقصة هذه المرأة التي وجدت نفسها تخوض صراعات لم تستعد لها. كما وازنت المخرجة بين استعراض العالم الخارجي المليء بالقسوة وعالم البطلة الحميمي الخاص الذي لا يخلو أيضًا من القسوة والوحشة، وهذا توازن ستتبين صعوبتة وتعقيده عندما تبلغ الحكاية حدودًا غير مسبوقة من القسوة.
تدير المخرجة بثقة كبيرة مشهدين شديدي الصعوبة، الأول مشهد تعذيب جماعي طويل لشاب على يد الشرطة الهندية، وهو المشهد الذي يبدأ عاديًا قبل أن يتحول إلى مشهد معقد يكشف عن السقوط الأخلاقي الجماعي الذي يلتحف بالشعارات المقدسة الرنانة. والمشهد الآخر عندما تذهب “سانتوش” إلى مجموعة من رجال القرية التي قتلت فيها الفتاة، والحوار المبطن العنيف الذي خاضته معهم، والذي كشف في النهاية المناخ العام السائد وصعوبات التغيير.
لا تتهيب المخرجة أيضا من لمسّ عصب الصرعات الدينية الحساس في الهند، وتقدمها كما هي بدون تجميل، أي كتفصيل من تلك التفاصيل التي تشكل هوية الأفراد والمجتمع. بيد أن هذا هذه الصراعات الدينية لن تتحول إلى قوة تحرك هذا الفيلم، بل تبقى كما هي؛ انعكاس لتردي الحال العام.
الخط السردي في تتبع القاتل أنقذ الفيلم من أن يكون فيلمًا سودويًا خالصًا، كما ساعد في إعطاء أبعاد جديدة لشخصية البطلة “سانتوش” وساعد في رسمها كبطلة مهزومة تتورط في الحياة بينما تراقبها، وفي الوقت نفسه تظل على الهامش. بطولتها الأساسية نابعة من محاولاتها الحفاظ على بوصلتها الأخلاقية في وسط تحديات الظروف العامة واشتراطات المجتمع المنهار. والشخصية الرئيسية ذاتها هي التي ستمنح الفيلم بعض الأمل عندما فتحت كوة من الضوء وسط كل ذلك الظلام الذي كان يحيط بها.
افرأ أيضا: شارولاتا.. سيمفونية العواطف الصامتة