فاصلة

مراجعات

«رفعت عيني للسما»: أن تجعل الشارع مسرحا لأحلامك

Reading Time: 4 minutes

ضمن مسابقة أسبوع النقاد في مهرجان كان هذا العام، عُرض الفيلم الوثائقي المصري “رفعت عيني للسما” The brink of dreams للمخرجين أيمن الأمير وندى رياض، الذي يشارك في المسابقة نفسها التي احتضنت في الأعوام الأخيرة أفلامًا مصرية مميزة بينها “ريش” لعمر الزهيري و”عيسى” لمراد مصطفى و”فخ” الذي أخرجته ندى رياض من إنتاج أيمن الأمير عام 2019.

هذا ليس الفيلم الأول للثنائي الذي أخرج من قبل “نهايات سعيدة”، الذي عُرض في مهرجان أمستردام للأفلام الوثائقية، لكنه لم يلق مساحة للعرض الكافي في العالم العربي.

في فيلمهما الأول، ناقش الأمير ورياض علاقتهما الشخصية إلى جانب بعض العلاقات العاطفية الأخرى، ونجحا في خلق فيلم يمزج بين العام والخاص، وينقل صورة لجيلهما من خلال قصة حب تحدث في وقت مليء بالتغيرات السياسية والاجتماعية. 

هنا، في فيلمهما الأحدث “رفعت عيني للسما”، ينتقلان إلى متابعة مجموعة من الفتيات المؤسسات لفرقة مسرح شارع في قرية البرشا في محافظة المنيا بصعيد مصر. يكفي قول ذلك لرؤية مدى التحديات التي تواجه الفتيات والمخرجين على حد سواء. فالفتيات الآتيات من قرية صغيرة في الصعيد، تحكمها عادات وتقاليد أبوية وذكورية، تجعل المساحات الموجودة للنساء ضيقة للغاية حتى في أبسط الأمور، فما بالك بمساحة فنية تنتزعها الفتيات في مجتمع مغلق محافظ بدون مساعدة من أحد. 

تجعل طبيعة القصة والمكان مهمة المخرجين صعبة جدًا، إذ أن التواجد في القرية وتصوير الفتيات يعد أمرًا صعبًا من نواح لوجيستية عديدة، ومن نواح فنية متعلقة بمتابعة رحلة الفتيات على مدار أربع سنوات هي مدة تصوير الفيلم. 

رفعت عيني للسما

أسباب عديدة تدفعني للوقوع في حب الفيلم، بعضها أسباب غير فنية، لكني سأبدأ بأكثرها شخصية. نشأت في مدينة في الصعيد أيضًا، ورغم أن وضعي كان أفضل بكثير من فتيات قرية البرشا، إلا أنني لطالما شعرت بثقل المركزية، إذ أنني سكنت في مدينة لم تمتلك دار عرض سينمائية واحدة، ولا مكتبة واحدة تبيع الكتب والروايات.

من أجل الأفلام، كنت أهرب من دروسي في الثانوية، وأستقل القطار إلى القاهرة، من أجل مشاهدة فيلم أو اثنين في السينما، إذا قرأت أمي ذلك الكلام الآن ستحزن لكذبي عليها آنذاك، ولكن كانت هذه هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى السينما، وآمل أن تسامحني أمي على هذه الكذبات البيضاء. أؤمن منذ ذلك أن هناك مشكلة كبيرة متعلقة بالثقافة في مصر، إذ يُنظر إليها كنوع من الرفاهيات، بينما أومن أنها حق أساسي مثل الطعام والشراب.

عرفت الأفلام والأغاني من خلال الإنترنت، وأنا أعتقد أن هذه كانت طريقة فتيات البرشا أيضًا للتعلم عن مسرح الشارع، إضافة إلى بضع مبادرات ثقافية تذهب إلى صعيد مصر المتعطش للثقافة والمحروم منها في آن.

رفعت عيني للسما

السبب الثاني لحب الفيلم، هو أن هناك متعة خاصة في مشاهدة الشجاعة على الشاشة، هؤلاء فتيات مراهقات، يعشن في مجتمع منغلق، يقمن بتجارب الأداء في مكان غير مجهز، يصنعن أزيائهن المسرحية بأنفسهن، يلعبن جميع الأدوار، ثم ينزلن إلى الشارع، فيقومن بخلق حاجز صغير، يقف وراءه الأطفال والنساء والشباب والعجزة، ثم يبدأن في أداء مسرحيات أو اسكتشات قصيرة تناقش حريتهن في لبس الفساتين أو الحب أو غيرها من مواضيع تشغلهن، وذلك وسط تعليقات أغلبها غير مشجع، وبعضها جارح لهن، لكنهن يتجاهلن كل شيء، كممثلات محترفات يقفن على خشبة المسرح.  

رفعت عيني للسما

إذا ما انتقلنا إلى بناء الفيلم الفني، فإننا سنجد أن المخرجين، الأمير ورياض، يخلقان جوًا مليئًا بالأريحية مع الفتيات، حيث لا تشعر للحظة بأي نوع من عدم ارتياحهن لوجود الكاميرا، وهو ما يتطلب مجهودًا كبيرًا لخلق تلك المساحة من الثقة. إلى جانب ذلك، يمكن رؤية أجزاء من الفيلم هي تمثيلية بشكل ما، أغلبها تحدث بين الفتيات وشركائهن العاطفيين، ورغم أن تلك المشاهد يتضح أنها ممثلة إلا أنها تكشف حقيقة ديناميكيات علاقاتهن العاطفية بشكل مذهل. مونتاج الفيلم هو عنصر ثالث يساعد على التنقل بين مشاعر مختلفة، إذ لا وجود لتصوير حكاية الفتيات كمأساة، بل هي مزيج من كل شيء، الحب والمغامرة والنجاح والهزيمة، فقط كأي حياة طبيعية، وهو ما يحسب للمخرجين ابتعادهم عن النظر إلى الفتيات بنظرات إشفاق لطالما تظهر أحيانا في معظم الوثائقيات من هذا النوع. 

نهاية الفيلم أيضًا، تؤكد أن هؤلاء الفتيات بأفعالهن الصغيرة، قد خلقن ما يشبه أثر الفراشة، وهو أثر صغير لا يُرى في وقتها، لكنه بالتأكيد يخلق نوعًا من تغيير كبير في مجتمعهن، ويحرك مياه راكدة، ويجعلنا نحلم بيوم نرى فيه في كل قرية صغيرة في مصر وفي العالم العربي، فرقة مسرحية أو فنية كهذه.

اجمالا أرى في “رفعت عيني للسما” نوعًا من الأفلام الضرورية التي تدافع عن الحق في الثقافة وتثبت مدى أهميتها. لكنه وقبل كل شيء، سيكسب قلوب مشاهديه بعفوية وصدق فتياته ومدى إخلاصهن لأحلامهن. تحية إلى فريق مسرح “بانوراما برشا”، ماجدة مسعود وهايدي سامح ومونيكا يوسف ومارينا سمير ومريم نصار وليديا هارون، ويوستينا سمير مؤسسة الفريق. 

اقرأ أيضا: «أنواع من اللطف»… يورغوس لانثيموس يثبِّت مخالبه!

شارك هذا المنشور