فاتحة
يحلم صديقي محمد العرادي – أو هكذا يدّعي أحد أبطال قصصه- أنه سيتغلب على الوحدة وفصل الشتاء، أو الملل المرافق لهما على الأقل، بكتابة فيلم يستمر ثلاث سنوات من دون انقطاع.
لكن بعيدًا عن قصة صديقي، التي أرجو أن ترى النور قريبًا، أحب أن أنبه، قبل حديثي عن السينما في هذا الموسم القارص، إلى أن القارئ سيواجه القليل من السينما والقليل من الخيال، والكثير جدًا من التشكي والتململ من صقيع نجم الشبط. وقد أدركت مؤخرًا أنّ حديثي إلى بعض الأشخاص قد يغريهم بالغوص في حالة مستعصية من الاكتئاب المتولد من الحالة الطقسية. وهذا الأمر يجلب إليّ التعاسة بأشدّ مما لو استمعتُ إلى شخص ما، فجعلَني أفكر في إنهاء الأمور!
رهانات متفائلة
ثمة رهانات متفائلة شائعة عن الحياة، تسوّق لها الأفلام، والمواعظ، والإعلانات التجارية.
يروي أحد الأفلام قصة راهب يلتقي عالمًا مهووسًا بالاحتباس الحراري، في جو شتائي متجمد، ويدور بينهما حوار، فينتحر العالِم، ويتغير العالَم على هذا النحو:
– يتبنى الراهب رسالة المنتحِر.
– ثم يكتشف أن كنيسته على حِلف وتعاقد مع جماعات الضغط المؤيدة لمزيد من تلويث البيئة.
فيحدث الآتي:
– يفكر الراهب في تدمير كنيسته، وتفجير نفسه في حفل ذكرى مرور مئتين وخمسين عامًا على إنشائها، ويهيئ نفسه لذلك، ويجمع المتفجرات، ويستعين بمقاطع اليوتيوب للتخطيط لما يسعى إليه، ويلف جذعه بالمتفجرات، ثم يرتدي فوق كل ذلك زيّه الكنسي.
– يَعْدِل عن ذلك لأسباب عاطفية؛ فيلفّ نفسه بسلك معدني صدئ انتزعه من سور الكنيسة، وعندما يحيط به صدره وظهره وبطنه؛ يظهر شبَه جليّ بينه وبين أشواك إكليل المسيح، ويُعِدّ صاحبنا لإحراق نفسه وسط الكنيسة في المناسبة نفسها، وذلك بأن يتناول كأسًا من الوقود القابل للاشتعال.
– خلال ذلك كله يعاني الراهب من سرطان يسير به إلى الهاوية، ويُتلِفه حينًا بعد حين، ولا يجد هو ما يقاومه به سوى الانغماس في المسكِرات، ومزيد من ذلك.
– لكنّ الراهب يكف عن ذلك كله ويتخلى عن الرهبنة في المشهد الأخير، ويتجه إلى الحُب العاطفي والجسدي، ويُغرَم بزوجة العالِم المنتحر، ثم:
– لا شيء، مشهد طويل من القُبلات، فشريط النهاية.
لكن مسلك الحب العاطفي الذي تؤدي مساربه إلى محراب المرأة الدنيوية المعشوقة – هذا المسلك الذي ما هو في آخر أمره إلا تصالح مع الموقف أو إعراضٌ عنه – ليس مسلكًا يختاره جميع من تنتابهم هذه الأحوال القاهرة، الأحوال التي قد تجعل شخصًا يضيق بالحياة ذرعًا، مهما بدا ذلك غير منطقيّ بالنسبة إلينا.
قائمة افتراضات
سأضرب الآن مثالًا مقبولًا، وأقول إنه مقبول لأني لا أتوقّع أنه يصلح نموذجًا للاستنساخ، وهذا القدر من وجهة نظري كافٍ لتلافي أي خطر لهذه المقالة على ذوي العقول أو القلوب الضعيفة.
لنفترض أن برد الشبط لا يُطاق، على الأقل في هذه البقعة من الأرض، وأن جاري كان يشتكي من البرد فحسب، وأنه كان ينصت إليّ طويلًا ثم يتململ، ويعبّر عن شعوره بطرائق مختلفة، مثل:
– أنه يودّ لو يحرّك أطرافه أكثر.
– أن من الصعب على المرء أن يتمشى عصرًا.
– أنه يتمنى أن يحصل على شيء من الدفء قبل أن يهبط الليل.
– أن السماء ملبّدة بالغيوم.
– أنه يحس بدَعسات سلّم الدرج كأنها زجاج من ثلج.
– أن الارتجاف يمنعه من الاستحمام.
– أنه لا يستطيع ملامسة الأشياء.
– أنه يحلم بأن تطارده فوّهة قنّاص، وهو يركض ويركض ويركض، ثم تمهله حتى تتعرّق جميع مسامه تمامًا، وتطيح به.
ولنفترض أني كنتُ، ربما بسبب فهمي القاصر، لاهِيًا عنه، وسيّان عندي أن أتحدث في الشيء نفسه أو أشياء أخرى، مثل:
– اضطراب العلاقات الدولية هبوطًا ونزولًا.
– شراء مدفأة كهربائية.
– أن الشابورة تذوب في شاي التلقيمة سريعًا.
– أن فيلم شكل الماء رخيص ويقتات على قضايا ميتة ومنحاز بشدة إلى الشذوذ الجنسي.
ولنفترض أنني كنت مخطئًا؛ لأنه:
– ليس بيده فعل أي شيء يسعف به نفسه.
– لم يكن وهَن عظامه ووجع فكّيه يسمحان له بأن يستوعب حديثي عن العلاقات الدولية.
– ولا الكرب الذي يطن في أذنيه يستقبل اقتراحي شراء تلك المدفأة.
ولنفترض أنها كانت مسألة رياضية خوارزمية بسيطة جدًا، ولكنها فاتتني؛ إذ لم أعرها القدر الذي تستحقه من العناية:
– إن الصقيع يؤذيه.
– والصقيع هو نفسه ما يحول بينه وبين كل ما يمكن أن يحول بينه وبينه.
أعلم أن العبارة السابقة معقّدة؛ وهذا أمر متوقع؛ فهي جُملة حسابية سهلة جدًا بحيث لا يمكن التعبير عنها إلا بصعوبة.
أضف إلى ذلك:
– أنه لم يكن مهيأً للصبر على مصيبته حتى ينحسر الشبط وتشرق الشمس وتخرج الهوام من جحورها.
– أن في منزله حجرة مبلطة خاوية أفرغها من كلّ الأثاث لأسباب باطنة.
– أنه مشغول بألمٍ يمضه في قاعدة ظهره ومشط قدمه وبإيحاءات ارتفاع نسبة حمض اليوريك في دمه.
ولنفترض أن نصف ساعة مضى وأنا:
– أتحدث إليه.
– وينشغل ذهني بين فينة وأخرى بتفقّد رسائل الواتساب.
– وأحيانًا يخيل إليّ أن جديدًا جدَّ على تنبيهات حساباتي الأخرى.
أما هو:
– فحالته المسيطرة هي الشرود.
– والانتباه هو الاستثناء.
– ورفَع بصرَه إلى السماء.
– وبدا لي كأنه يحدّق في طائرٍ أو شبحٍ يهوّم في العلوّ.
ولا شك أنه تذكر شيئًا أدى إلى إنهاء الأمور، مثل:
– أن درجات الحرارة سوف تستمر في الانخفاض.
– وأن الليلة ستكون طويلة جدًا.
– وأن الشمس لن تشرق بدفئها إلا بعد حين من الدهر.
– أن كل ذلك سيقتله ببطء إن لم يبادر هو ليريح نفسه من ذلك.
– أنه ما كان ليقتل نفسه لو لم يقضِ أكثر من نصف ساعة وهو يحاورني، ولكنه الآن قد حزم أمره.
لنفترض أنه قال ذلك لنفسه، لكنه لم يكن قد حزم أمر نفسه بالفعل، بل منَحها فرصة أخرى، وخاض معي جولة أخيرة يائسة:
– فظلّ يحاول لفت نظري إليه.
– غير أني لم أكن أصغي إليه.
– وطفقتُ أنا أهذي له بكل ما يمكن أن يخطر ببالي غير الغمّ المرير الذي كان يتلف أعصابه.
ولنفترض أنه بعد كل ذلك أطلق تنهيدة، وقال:
– أنا مثل دبّ قطبي، أحتاج إلى سبات شتويّ، أو آلة زمنية، إما هذا وإما أن أموت.
ونظر إليّ وهو:
– ينتظر وقع كلامه عليّ.
– ويفرج فمه عن ابتسامة شبه خاوية.
ولنفترض أنه كرّر النظر مرة أخرى ليستوثق.
ولنفترض أني ضحكتُ بملء فمي ضحكةَ مَن يُبدي تفاعله مع طرافة الموقف.
بواحدة أم بالثلاث؟
لكن ما الذي قد يدفع شخصًا إلى هذا القرار غير الحكيم، وبهذا الإصرار، وكأنه مسألة كرامة أو إعادة اعتبار، بعبارة أخرى: كما لو كان مسألة هاملتية أو قضية حياة أو موت؟
لقد شاهدت فيلمًا آخر عن رئيس متخيل، طاغوت من طواغيت دول الاتحاد السوفييتي السابق، والذي جعلني أتوقّف عنده هو أن الرئيس قرر أن يكفّ عن النفاذ بجِلده من الثائرين عليه في آخر لحظة؛ فأرسل عائلته بالطائرة وبقيَ يتجوّل هاربًا ومتخفيًا من الثوار والانقلابيين الذين يبحثون عنه في كل شبر ليقطّعوه إربًا إربًا ويحرقوه ويذروه في الرياح.
– هل فعل ذلك بنزعة ماسوشية؟
– أم بسبب شعور طاغٍ بالذنب؟
– أم بميل انتحاريّ باطنيّ؟
– أم بالثلاث جميعها؟
في الثلث الأخير من الفيلم ينضم الرئيس الفارّ إلى بضعة مساجين سياسيين خارجين لتوّهم من غياهب الزنازين وظلمات التعذيب، ويحدُث أن يسقط أحد المعذبين في هذا الشتاء القارص تحت وطأة جراحه المثخنة، عاجزًا عن المشي؛ فيحمله الرئيس الهارب المتخفي على ظهره طوال مسافة الطريق المتبقية. لم يَشْكُ الزعيم من وطأة الشتاء، ولا برودته، ولم يهجس في صدره أن ينسحب، بل كان يمشي ويمشي ويمشي، ويحث الخطى، وهو يتّقد ويشتعل بطاقة انتحاريّة تؤزه أزًّا وتدفعه دفعًا إلى إتمام تغريبة العذاب التي اختارها لنفسه، بعدما ترك عائلته تغادر ناجيةً، وبقي وحده ليتلقى العقاب على جرائر حقبة حكمه ويستوفيه كاملًا غير منقوص.
الكَمال بوصفه إحباطًا
وفي السياق نفسه، وفي فيلم آخر، تكتشف عالمة أمريكية أن حياتها المهنية والزوجية ناجحة ومستقرّة، ولا تعتريها أية منغّصات، فتنجرف إلى الخيانة الزوجية، ثم تحدث ظاهرة كونية غريبة في موضع من البلاد، ويختفي كل من يحاول الذهاب إلى ذلك الموضع إلى الأبد؛ فتتبرع خمس نساء عالمات يرغبن في الانتحار لدراسة هذه الظاهرة، وتمضي الأحداث شيئًا فشيئًا ليتّضح أن هذا الموضع إنما هو استعارة وكناية عن السرطان، ذلك الطارئ العجيب الذي يطرأ على الجسد المنتظم الصحيح من داخل نفسه، ويفنيه عن بكرة أبيه، وكذلك هو الإنسان، يفتّش عن حتفه بظلفه، ويخترق المجهول ويكتشف الطبيعة بشهوة خفية إلى تدمير العالم وتدمير الذات.
أو بعبارة أخرى:
– تلك الرغبة في تدمير الذات والآخرين والعالم قد تكون كامنةً فينا كُمون الفتيل، ولا تحتاج إلا إلى ما يشعلها.
ولنبرهن على ذلك؛ فإن أولَ ما يستحوذ علينا عندما نفقد بعض الأعزّاء هو:
– ذلك الإحساس الطاغي بأن الحياة ما عادت تُطاق.
– بأنّ كل ما نريده هو أن نلتحق بهم.
– بأنّنا نتمنى لو كنّا مكانهم.
– بأننا ما عُدنا نخاف من الموت.
إنه شعور شخص جمَعَه قارب وحيد في البحر بكلّ من يحبهم، ثم لطم الموج القارب، وابتلعهم جميعًا، وأبقاه وحده.
وضوح
إذا أردت أن تتحدث عن شيء هو غايةٌ في الغموض فلتكن كلماتك عنه غايةً في الوضوح.
أدرك الآن أن المرء، أنا أو العرادي أو زيد أو عمرو، أو أي كائن آخر، قد يواجه طقسًا أو وعدًا أو موقفًا غبيًا، ثم يلزمه:
– إما أن يتحمّل، وهذا أمر جيّد، لكنه يهوي به في نوبة من الاستياء.
– وإما أن يُنهي الأمور، وذلك…
– وإمّا أنْ يرحَل، وهذا انتحارٌ معنوي آخر.
اقرأ أيضا: «الباقون» لألكسندر باين… دعوةٌ لفتح العين الثالثة