في الفيلم الذي صار أيقونة من أيقونات السينما الفرنسية، يصيغ كلود ليلوش قصيدته السينمائية من حكاية بسيطة تعيشها شخصيات لا تقل بساطة. في «رجل وامرأة» Un homme et une femme 1966، نتابع شخصيتي سائق سيارات السباق جان لوي ديروك (جان لوي ترينتينيان) المتشائم الذي يبتعد كغيره من سائقي سيارات السباق عن الرقم 13. جان لوي أرمل، وأب لأنطوان الصغير الذي لا يزيد عمره عن سبع سنوات، يتعرف بمصادفة على الأرملة الحسناء آن جوتييه (آنوك أيمي)، أم الصغيرة فرانسواز التي تماثل أنطوان الصغير في العمر وتدرس معه في المدرسة نفسها. ومن خلال ذلك التماثل الانيق والبسيط، تُبنى الحكاية الأنيقة للفيلم الشهير.
جان لوي بنظارته السوداء يبدو للوهلة الأولى رجل أعمال ثري متغطرس، يدخل سيارته المكشوفة مع سائقه الذي لا نستطيع رؤيته ويفتح صحيفة التايمز، ويتردد طويلًا في تحديد المكان الذي ينبغي أن يقضي فيه وقت فراغه: الجولف أم سباق السيارات. يُغيّر رأيه مثل طفل مدلل ومتقلب. لكن هذا ما زال ضمن لعبة عدم رؤيتنا للسائق، وعند تعديل إطار الكاميرا بحركة هينة، نكتشف أن السائق هو ابنه أنطوان الصغير. الأب والابن طفلان يستمتعان بقيادة السيارة أثناء غروب الشمس على شاطئ دوفيل.
في أحد الأيام يفوت آن قطار العودة من دوفيل إلى باريس، حيث كانت تزور طفلتها في مدرستها الداخلية، فتعرض معلمة في المدرسة عليها أن تعود في سيارة جان لوي، ليحدث الانجذاب المُتَبَادَل بين البطلين.
تأتي براعة ليلوش الإخراجية في استخدام التيمة الموسيقية القوية لأغنية فرانسيس لاي «chabadabada» شابادابا، التي التصقت باسم فيلمه إلى الأبد، وهي مثل تيمة موسيقية أخرى التصقت بفيلم «الطيب والشرس والقبيح» 1966، للمخرج سيرجيو ليوني. كما يعتمد ليلوش على جماليات الصمت، واللقطات القريبة لوجه آن وجان لوي مع الابتسامات الخجولة. تستمع آن وجان لوي إلى أغنية من عشرينيات القرن في راديو السيارة، تجعلهما يبتسمان. يقول لها جان لوي، كما تعلمين تلك الأغاني كانت تجعلكِ تبكين في عام 1914.
اتُهِمَ ليلوش بالرومانسية، والرومانسية تُعْتَبَر صفة إدانة أو صفة نقص فني. وحتى لا تكون الرومانسية عارية وتضعه في موضع الصيد السهل للسينمائيين والنقاد؛ حصَّنها ليلوش بسرعة سيارات السباق على الطريق. السرعة والرومانسية مزيج غريب، ومع ذلك يشعر المُشاهِد بانتقال سلس من عنف السرعة إلى رقة الرومانسية، وربما كان هذا المزيج سببًا في نجاح الفيلم وقت إنتاجه، وحصوله على السعفة الذهبية 1966، ثم جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي 1967، وأوسكار أفضل سيناريو 1967.
تطلب آن من جان لوي أن يخبرها سرًا من أسرار مهنته، فيقول لها إن صوت وخفقان المحرك ينتقل إلى جسد السائق مثل الحمى. تحكي آن لجان لوي عن زوجها المتوفي بيير الذي كان يعمل دوبلير (ممثل بديل في مشاهد المخاطرة) في السينما. أمّا زوجة جان لوي، فقد ماتت بعد حادث خطير أصاب جان لوي في سباق السيارات.
تدور نزهات الحبيبين وسباقات السيارات في فيلم «رجل وامرأة» تحت رحمة الطقس الغائم الممطر، وهذا يُناسب الرومانسيين، لكنه يجعل مهمة التصوير أكثر صعوبة. يبدو الضوء الأصفر لكشافات السيارة في الضباب ساحرًا، ولهذا يجعل ليلوش بطله يُضيء الكشافات ويُطفئها أكثر من مرة.
على شاطئ البحر تلاحظ آن رجلًا وكلبه يمشيان بنفس الطريقة، يمشي الرجل بثقل في إحدى قدميه، وكأنه يعاني من عَرَج خفيف، وأيضًا كلبه يمشي بثقل يُشبه العَرَج في قدمه الخلفية. انسجام وحب بين الرجل وكلبه.
أثناء دراستي للسينما 1988 كنتُ أفكر كثيرًا في مَنْ أخذ الخطوة الأولى نحو الآخر، خطوة الحب؛ الرجل أم كلبه؟ هل على سبيل المثال حطّم الرجل ساق كلبه ثم وضع لها جبيرة، ثم نزع الجبيرة قبل موعدها حتى يُصاب الكلب بالعَرَج، فيتحدان في مشية واحدة؟ أم العكس، حطّم الرجل ساقه ووضع لها الجبيرة ثم نزعها قبل موعدها ليُصاب بالعَرَج مثل كلبه؟

يسأل جان لوي حبيبته إن كانت تعرف النحات الفرنسي جياكوميتي؟ ترد آن بالإيجاب، فيقول جان لوي: لقد قال جياكوميتي جملة استثنائية: لو أن هناك حريقًا وعلي ان أختار بين إنقاذ لوحة لرامبرانت أو قطة، سأختار القطة. ترد آن بابتسامة فيواصل جان لوي: «وسأترك القطة تذهب بعد ذلك». بين الفن والحياة يختار ليلوش – بسذاجة الرومانسي وبراءته- الحياة. تفلت من ليلوش إشارة ربما كانت أكثر جاذبية من حكاية رامبرنت والقطة، وهي أن جياكوميتي كانت له مشية مميزة، بخطوة ثقيلة، متقدمة، كان من الممكن مقارنتها بمشية الرجل وكلبه في الفيلم، طالما الأمر يتعلق بالأقدام، سيما وأن منحوتات جياكوميتي معظمها تُخلّد تلك الخطوة الثقيلة.

يبقى شيء في قلب آن لزوجها بيير، الممثل البديل الذي توفي في حادث أثناء التصوير، لدرجة أنها تتحدث عنه كما لو كان لا يزال على قيد الحياة. إنه شخص ساحر وفريد من نوعه؛ رجل يتمتع بنزاهة عالية، شغوف بالناس وبالأفكار كما تقول. يستخدم ليلوش لقطات الفلاش باك بين آن وبيير، ومن وجهة نظر آن، بالألوان، كما لو كانت حياتها معه أكثر وضوحًا، هذا هو أقصى تأويل ممكن لانتقال ليلوش من الأبيض والأسود إلى الألوان، لكن على العموم تبقى حقيقة انتقال ليلوش من الأبيض والأسود إلى الألوان، أو العكس، جمالية، شكلية بحتة.

آن الجميلة الغامضة المترددة، تبدي العاطفة الآن لجان لوي بمهنته الخطرة، كما كانت مهنة بيير الممثل البديل خطرة أيضًا. وُصف أحيانًا مونتاج كلود ليلوش الأنيق، وألوانه الجذابة الفارغة وعدساته القريبة جدًا من وجه أنوك أيمي في فيلم «رجل وامرأة»، بأنه يُشبه مونتاج إعلانات رائعة للعطور الفرنسية الشهيرة.
يذكرنا ليلوش مرارًا وتكرارًا بتمكنه التام من عمل عدسات التصوير، فيتطفل بإلحاح على وجه أنوك أيمي، وتتحول اللقطات القريبة إلى غاية في ذاتها، لكن وجه آن الجميل الهادئ لا يُرْتَوَى منه. إن حيوية اللقطات القريبة المُبهرة تُحوِّل قصة الحب الصغيرة إلى حقيقة كونية لا حدود لها، وهكذا يُصبح الفيلم الحيوي البسيط، مجرد شكل من أشكال الفخر والابتعاد بذواتنا الفارغة، والتحليق الشاعري لشخصيات في الهواء كما في لوحات شاجال. على طريقة جان لوك جودار في «سينما المؤلف»، يصف ليلوش سينماه بأنها «سينما المؤلف الشعبي».
يذهب جان لوي إلى حلبة السباق التي تجري فيها اختبارات السرعة. ليلوش هنا بوجه آخر أكثر جدية. تراك اختبار سرعة السيارات بانحناءاته المهيبة وارتفاعه في المنحنيات، تبدو فيه السيارة أثناء اجتيازها للمنحنى مائلة تمامًا. ليلوش في حلبة السباق بقدرات بصرية مصقولة، ووثائقية صارمة، لا كلمات، لا موسيقى شاعرية، فقط صوت محركات السيارات. يرتفع صوت المحرك إلى الذروة بتناغم مع تغذيته بالوقود، ثم يتراجع الصوت مع تخفيف تغذيته بالوقود، ثم يعود ويرتفع مرة أخرى، موسيقى من نوع آخر تقوم على الانسجام والتوازن بين قدم السائق على دوّاسة الوقود، وهندسة صناعة المحرك، ومنحنيات حلبة السباق.

يشارك جان لوي بسيارة فورد موستاج 145 في رالي مونت كارلو، بينما تبعث له آن برقية تقول فيها إنها تحبه. يعود جان لوي مباشرةً إلى باريس بفعل البرقية، وفي طريق العودة يخترع مونولوج للتأكد من أفضل طريقة لإخبارها أنه أيضًا يحبها. لو واصلت السير بنفس السرعة سأصل باريس في السادسة والنصف، ستكون نائمة في السادسة والنصف، ماذا سأفعل؟ أستطيع الذهاب إلى المقهى وأحادثها بالتليفون. عندما ترسل لك امرأة برقية تقول فيها: أنا أحبك، يجب أن تذهب لتراها، لكنني لا أدري في أي طابق تسكن، سأكون مضطرًا لإيقاظ حارس العقار، حارس العقار سيقول: ليست موجودة، أو ليس بإمكانك الصعود. عندما يصل جان لوي بالفعل لمسكن آن تقول له حارسة العقار: ليست موجودة، ولا تعرف أين هي. يقول لها جان لوي أنه بوليس، فتدلي حارسة العقار على الفور بمكان آن، ذهبت إلى دوفيل لتزور ابنتها.

على رصيف الميناء بعد قليل من المدرسة الداخلية، وفي سيارة سباق 184، يجد جان لوي ديروك حبيبته آن جوتييه، ومعها الطفلان أنطوان وفرانسواز. تعود التيمة الموسيقية الشهيرة ويُقلّب جان لوي كشافات السيارة، الضوء الأصفر الساخن يمتزج بالضباب الرمادي البارد. يسمح ليلوش للضوء بالتغلغل في الصورة كاشفًا عن شاطئ دوفيل المشع، وكما لو كان الشاطئ خارج الزمن.
أضاف ليلوش هنا زائدة درامية لا معنى لها، وهي أن بطلتنا تذكرت زوجها الراحل عبر لقطات الفلاش باك، ومع أن ليلوش لا يستخدم الفلاش باك بطريقة تقليدية، إلا أن كثرته قرب نهاية الفيلم بين بيير وآن، يشي بأن الدراما لا تسعفه. تتردد آن في علاقتها بجان لوي، وهنا يتسكع ليلوش بالكاميرا قليلًا، ما زالت قوته البصرية حاضرة، لكنه يتهاوى دراميًا، وكأنه لا يستطيع وضع نهاية للفيلم. يحاول إضافة المزيد من التعقيد، إلا أن المُحَاوَلَة تُظهر خفته أكثر، ويطفو على السطح مرة أخرى الشبح النقدي القاسي الذي طارد سينماه، وهو أنه مخرج إعلانات أنيقة، وعطور شهيرة. يعود ليلوش إلى النهاية السعيدة، وتتغلب آن على ذكرى زوجها، وتحتضن جان لوي في محطة القطار.