فاصلة

مقالات

ديفيد لينتش… رحيل فنّان شامل سيد تجريب وغموض

Reading Time: 8 minutes

 أمام لحظة رحيله، قد يسأل الواحد منّا نفسه متى اكتشف ديفيد لينتش وفي أي عمر تحديدًا. أتذكّر ان عنوان أحد أفلامه، «رجل الفيل»، الذي كان يتصدّر واجهة متجر فيديو في التسعينات أبهرني قبل أن أتجرأ على مشاهدته، وهذا ما حملني إلى أفلامه الأخرى. على هذا النحو، تسلّلتُ إلى عالمه الغرائبي المشحون بطاقة غموض لا تُقلَّد وأسئلة معلّقة لا تترك المشاهد لا مباليًا تجاهها. أفلامه كانت تجعلك تخوض تجارب، تخضّك وتورّطك في همّ، بعيدًا من المشاهدات الكسولة التقليدية الرتيبة. 

الراحل الكبير عن عشرة أفلام روائية طويلة و79 عامًا، بعد تعرضّه لوعكة صحية مفاجئة، أحد أسياد السينما ما بعد الحداثة، محل إعجاب يمتد من شرق العالم إلى غربه، أسطورة من بين الأساطير الحيّة، هو المعتكف منذ نحو عقدين إذا استثنينا مسلسل «توين بيكس» الذي أعاده إلى الضوء قبل بضع سنوات بعد غياب طويل. 

في لحظة رحيله أيضًا تحضرني روما، عام 2017، يومها استُقبِل استقبال الأباطرة من شباب بعضهم لا يتجاوز سن المراهقة، ومن بينهم مَن كان يحمل ملصقات أفلامه كي يظفر بتوقيع منه. مع ذلك، لم يكن حكواتيًا كبيرًا، بل رجل صورة (وصوت) بامتياز، وهذا ما اكتشفته عند متابعة ندوته ولقاءاته، إذ كان على شيء من خجل الفنّان وعزلته وعدم قدرته على الحديث عن نفسه وفق منطق غب الطلب، لا بل لمستُ عنده فشلًا في الإفصاح عن كلّ ما في وجدانه وترجمة ذلك إلى كلمات مدروسة مختارة بعناية. 

المخرج ديفيد لينتش
المخرج ديفيد لينتش

على المستوى الشخصي، يبدو أنه كان يفضّل العمل بعيدًا من الأضواء، منزويًا في منزله في لوس أنجلوس رفقة شريكة الحياة والمهنة، الكاتبة والمونتيرة ماري سويني، نابذًا كلّ أنواع المظاهر التي توفّرها هوليوود لنجومها. في افتتاحية عدد خاص من مجلّة «دفاتر السينما» مُهدى إليه صدر في منتصف العام الماضي، كتب تييري جوس وماركوس أوزال أنه لا تصح مقارنة لينتش إلا بهيتشكوك وكوبريك. 

نعم، هناك عالم لا بل كوكب يعيش عليه لينتش، أرسل إلينا منه إشارات في عدد من المرات، وقد ضمن لنا طوال السنوات الخمسين الأخيرة سفرات عدة إليه. إنه كوكب من الأحلام والغرائز حيث الجميل يتعايش مع الأقل جمالًا، كي لا نقول الأكثر قبحًا. كوكب تهمين عليه الأحلام والغرائز والاستيهامات والغش ومحاولة فك طلاسم الوجود، هذا كله بلغة بصرية طليعية كان يملك سرها، ودفعها في بعض تجاربه السينمائية إلى أقصاها.  

هذا المولود في مونتانا غداة الحرب العالمية الثانية، أنجز سينما ذات أفكار مبهمة راديكالية شكلًا ومضمونًا. كان فنّانًا شاملًا تولّى الإخراج والإنتاج وكتابة السيناريو والتصوير والتمثيل، وانكب أيضًا على تصميم الديكور والمؤثّرات الخاصة، هندسة الصوت، الموسيقى وكتابة الأغاني. أضحى من أوائل الذين استخدموا فضاء الإنترنت، لا كما فُرض عليه إنما كما كان يحلو له. احترف أيضًا فنّ التشكيل والنحت الذي مارسه، أيضًا وخصوصًا، على نطاق جسد الصورة، فهو نحّات بالمعنى الذي يتحدّث عنه تاركوفسكي في كتابه الشهير.

ديفيد لينتش
المخرج ديفيد لينتش

يصعب فصل شغله البصري والجمالي عن البحوث المعمّقة التي أجراها في مجال الصوت والتشكيل مستلهماً هوبر وبولوك. فرض نفسه كمجرّب كبير، وهنا ملعبه الأوسع؛ يختبر بلا أدنى خشية من الفشل، صاحب أفكار لمّاحة ومخيلة خصبة وأنماط ملتوية لقول أبسط الحكايات، وذلك في رغبة حقيقية لمخالفة السير المنطقي للزمن. انشغل كثيراً بسؤالي: ما هو الزمن وما هي الحقيقة؟ عقله معشّش في الرمزية والاستعارة (الميتفاور)، شأنه شأن بونويل، لكن في تطلّعه اليهما، يفضّل المستوى الأول، رافضًا التأويل وأي شيء قد يُصنَّف باعتباره شرحًا. شيء آخر برع فيه: البُعد النفسي الذي منه تخرج الشخصيات، دونما رغبة في تحويل هذا البُعد إلى دراسة أكاديمية. ومثلما تحمل أعماله هامشًا من التجريب، هي أيضًا أرض للتخريب. الأول لا ينفصل عن الثاني.   

في بداية وعيه بالفنون، أراد لينتش امتهان الرسم، وخلافًا للكثير من أبناء جيله الذين نصبوا خيمهم في الصالات المظلمة، لم يكن سينيفيليًا بالمعنى الكلاسيكي. روى ذات مرة أنه فضّل مراقبة الحشرات في حديقة منزل عائلته. السينما الأميركية لم تعنِ له الكثير، أقلّه في تلك المرحلة من حياته، لكن عندما انتسب إلى معهد الفنون انبهر ببرغمان، بعدما شاهد «ساعة الذئب»

«Hour of the Wolf»، 1968
«Hour of the Wolf»، 1968

منذ مشهد الافتتاحية، شعر بشيء مختلف، ذلك الإحساس بالقلق وعدم الارتياح الذي كان تأسيسيًا لعمله المقبل. من المعروف أيضاً شغفه بـ«ساحر الأوز»، الذي له تأثير عميق في أفلامه، ويمكن مع بعض المبالغة المحاججة بأن معظم ما أنجزه هو نسخة للراشدين من هذا الفيلم، ذلك أن البراءة تعانق أسوأ ما في الطبيعة البشرية. 

الرسم هو الذي حمله إلى الشاشة يوم اكتشف أن اللوحة، مهما تكن، ستبقى صورة جامدة، أي عصيّة على مخاطبة حاستّي السمع والنظر في وقت واحد. في 1976، كان لينتش في الثلاثين وكانت هوليوود وقتها قد غيّرت جلدها منذ أقل من عقد، فابتاع صديقنا كاميرا 16 ملم وانطلق من دون أن يعرف الكثير عن السينما. وبعد ثلاثة أفلام قصيرة، انتهى من تصوير «رأس ممحاة»، عمل هجين شديد السوداوية لم يكلّف سوى عشرة آلاف دولار استدانها من معهد الفيلم الأميركي. وقد يستاء البعض، إذا قلتُ وشددتُ أن باكورته هذه ستبقى أكثر فيلم يعبّر عن الحالة «اللينتشية»

Eraserhead (1977)
Eraserhead (1977)

سينجز المعلم أعمالًا كثيرة من بعده، بعضها تحف، لكن لن يكون أيٌّ منها بهذه الخصوصية وهذا التجديد وهذه البراءة، ولو لم ينجز غيره لكان كافيًا لاعتباره سينمائيًا كبيرًا. هذا الفيلم الذي جعل كوبريك يتمنّى لو أنجزه، تجربة أشبه بكابوس، رغم أنه أُنجز في ظروف بدائية صعبة، لكن ترك تأثيرًا عميقًا في تاريخ الفنّ السابع. 

رجل عادي (جون نانس) يعيش حياة عادية مثل الملايين، إلى أن تضع زوجته مولودًا لا يستوفي شروط الكائن البشري، أي أنه أقرب إلى المسخ منه إلى الإنسان. محور القصّة هو دورة الحياة مع كلّ ما تتضمّنها من إعادة إنتاج، عقم، تشويه… لا يتوانى لينتش في تصوير لقطة لتحلل جثّة المولود في مشهد واقعيّ مروع.

 «رأس ممحاة» نصّ ثوري صادم ظلّ يُعرض في إحدى الصالات الأميركية لنحو أربع سنوات، قبل أن يرتقي إلى مصاف القداسة الفنية. وهذا بالرغم أن لا أحد آمن فيه في البداية. من خلال متتاليات بصرية تبعث الاضطراب والقلق في النفوس، فهم لينتش أهمية العمق النفسي في السينما، وكيف يمكنه أن يضعنا أمام ذواتنا، أي مقابل مخاوفنا ولاوعينا وهواجسنا. أما المناخ الضاغط المتواصل طوال الفيلم فيربطنا بكابوس تكاد مفاعيله تنتقل إلى أطرافنا، في حين تلعب الموسيقى دورًا كبيرًا في بث هذا الشعور وتعزيزه والحفاظ عليه. هذا الشريط الصوتي الغني راح يبلوره لينتش فيلمًا بعد فيلم، بعدما أدرك أهميته وتأثيره في المتلّقي، سواء كتجربة فيزيائية أو عقلية.     

المخرج ديفيد لينتش
Eraserhead (1977)

«الرجل الفيل» (1980)، امتداد لفيلمه السابق، لكن من دون أن يشكّل استمرارية. فعلى مستوى النمط السينمائي، الاختلاف كبير. كانت حكاية الرجل المشوّه، جون ميريك، التي أرعبت الصحافة في إنكلترا الفيكتورية، بحاجة إلى سينمائي من خامته. كيف لا، وكلّ التيمات التي اشتغل عليها لاحقًا، بدءًا من الهوية وصولًا إلى الغموض، حاضرة فيه. مدير التصوير فريدي فرنسيس جاء إليه بأجواء معتمة تعبيرية ضاغطة، أما الصورة باللونين الأسود والأبيض فهي فائقة الجمال. في حين منحت الديكورات احساساً بالكلوستروفوبيا.

رفع «الرجل الفيل» أسهمه في البورصة، إلى درجة انه كُلِّف منذ فيلمه الثالث اقتباس إحدى أشهر كلاسيكيات أدب علم الخيال، «كثيب» لفرانك هربرت، خالصًا، للأسف، إلى النتيجة التي نعرفها: نبذه الجمهور وسخر منه النقّاد بأحط الأوصاف. لولا وقوف منتج من طراز دينو ديه لورنتيس خلف هذا الفيلم الملعون، لما كان ممكنًا إنجازه، ذلك أنه كلّف الملايين. الفيلم أنكره لينتش، لكنه علّمه أن يبقى خارج الآلة الهوليوودية الطاحنة التي لا ترحم، حفاظًا على نفسه وفنّه.

المخرج ديفيد لينتش
The Elephant Man (1980)

عاد ونهض من الانتكاسة مع «مخمل أزرق» (1986)، لا بل وجد معه طريقه. إنه الفيلم الذي حدّد مساره. في طريقه إلى كارولاينا الجنوبية لزيارة والده الذي خضع لعملية جراحية، يكتشف جفري اكتشافًا سيقلب وجوده رأسًا على عقب… مجددًا، الأجواء الغامضة هي التي تتولّى صناعة الفيلم الذي ينطوي على ما سيصبح عند لينتش عدة الشغل: دسائس، بطل أرعن يغويه الشر، سادومازوخية، مثلية، وطبعًا الكثير من الفحش. هذا كله أراده المعلّم تحية على طريقته الخاصة إلى سينما الأربعينات الهوليوودية. وكيف ننسى طبعًا اللقطات القريبة المدعومة بموسيقى أنجلو بادالامنتيه على وجه إيزابيلا روسيلليني؟

مع بداية التسعينات، انخرط لينتش في التجربة التلفزيونية. فكان «توين بيكس»، الذي يتمحور على مقتل فتاة تُدعى لورا بالمر. تحوّل المسلسل إلى ظاهرة من ظواهر الشاشة الصغيرة ثم تدريجًا إلى أيقونة، وهذا كله قبل عقود من انتشار المسلسلات التشويقية التي تحبس الأنفاس بأسرارها وغموضها. التعقيدات التي تعتري الحبكة لم تجعل المشاهدين يستسلمون، لا بل تحلّق حولها عدد غير قليل من المشاهدين المتشدّدين بحبّهم وشغفهم لهذا العمل، فكرمهم لينتش عبر تحويله إلى عمل سينمائي سمّاه «توين بيكس: الفيلم» (1992) وصاغه بأسلوب بصري جدير بهيتشكوك، وأوصله الى ذروة فنّه. 

المخرج ديفيد لينتش
Twin Peaks: Fire Walk with Me (1992)

عام 1990، فاز لينتش بـ«سعفة» كانّ عن «وايلد أت هارت» الذي اختلف النقّاد حوله. مخدّرات، روك (كريس أيزاك)، جنس، كلها مكوّنات أجازت صنع كوكتيل بصري نابض بالحياة والموت والقلق والاضطراب الوجودي. قد يكون هذا من الأعمال التي تستحق اعادة الاكتشاف في ضوء الزمن الحالي. 

«الأوتوستراد الضائع» (1996) ذروة أخرى في مسيرة لينتش، لا سيما في قدرته على فرض مناخ ذهني معقّد. حيك العمل على شكل جوارير، بحيث جرّ ما يُعرف بالفيلم «النوار» إلى مناطق جديدة، ولا بد من اعتباره نوعًا من جردة شاملة لكل من مراكز القوة والضعف في عمله. كلّ ما يمكن أن نقوله عن القصّة هو أنه ينطلق مع وصول شرائط غامضة إلى منزل زوجين، تحتوى على مشاهد من داخل منزلهما. 

المخرج ديفيد لينتش
Wild at Heart (1990)

«قصّة مستقيمة» (1999)، نقيض كلّ أفلام لينتش، إنه أبسطها وأكثرها رقّة ومحاولة لفهم الإنسان من زاوية أخرى. بسيط إلى درجة أن لينتش صرّح بأن تصويره كان الأصعب والأكثر تعقيدًا في مسيرته. طوال الفيلم، سنتعقّب رجلًا في الثمانينات يسافر على متن قصّاص عشب لزيارة شقيقه الذي خاصمه ولم يره منذ سنوات. فيلم باهر، متقن الصنع، يأتي بصفعة على وجوهنا، لكنها صفعة حبّ دافئة.

«مولهولند درايف» (2001) فرضه مجددًا كأحد كبار صانعي الصورة في العالم، وأدخله الألفية الثالثة من بابها العريض. ريتا، ذات الجمال الأسمر الغامض، تخرج بصعوبة من سيارة كاديلاك مسحوقة، وتبدو في حالة سليمة ظاهريًا. فقدت ذاكرتها وتجهل أن الحادث الذي أودى بقاتلين انطلقا في ملاحقتهما، قد أنقذ حياتها. تهبط إلى مولهولند درايف، هذه الطريق الاسطورية المتعرجة المشرفة على بيفرلي هيلز، كي تذهب لتضيع في محيط أنوار لوس أنجليس، وهي مضطربة وفاقدة الوعي. بدلًا من إبراز المعالم التي تشي بسحر عاصمة كاليفورنيا، حوّلها لينتش في مرأى منا إلى كابوس بغيض. على غرار ما كان يفعله عندما يبرز خفايا الجشع والجنون الإنساني في بعض من أعماله السابقة. كثر يضعون هذا الفيلم على رأس فيلموغرافيا لينتش، ويُنظر إليه، عن حقّ، كفتح من الفتوحات السينمائية. 

Mulholland Drive (2001)
Mulholland Drive (2001)

«إمبراطورية إينلاند» (2006)، اختتم مسيرة لينتش السينمائية. شكّل ولادة ثانية له في زمن الرقمية والإنترنت وكلّ ما يتيحه عصر التكنولوجيا من قلق وجودي ومراقبة، كما أنه يوفّر للفنّان حرية اعتقاد وتجسيد لهذا الاعتقاد. هذا أكثر فيلم له يلقي نظرة على المظاهر القائمة، لا سيما الهوليوودية منها، وعلاقة المخرج بها المبنية أساساً على الاجتذاب والنفور. 

لقطة بعد لقطة، دفع لينتش سيدتين إلى الغرق في أعماق الحيز الذي يفصل الواقع عن الحلم، حيث تتيهان فيه تدريجًا إلى حد الابتلاع. للمرة الألف تخلّى عن التقاليد المتّبعة في السينما الأميركية ذات السرد الخطي التقليدي، ليتأمل في واقع مستجد، مشبّعًا بلغة بصرية رؤيوية وعالم صوتي خاص جدًا. إنه ذروة أخرى في سجلّ لينتش يحمل ما يمكن اعتباره وصية، مما يشرح أنه لم ينجز أي فيلم روائي طويل للسينما من بعده، رغم ما يُحكى عن أنه لم يعثر على تمويل لما كان سيكون فيلمه المقبل. 

اقرأ أيضا: مايكل مان شرّع باب الأسرار إلى عالمه في جدة

شارك هذا المنشور

أضف تعليق