في واحد من أشهر المشاهد في تاريخ السينما يتحدث بطلا فيلم «آني هول»، للمخرج وودي آلان والنجمة دايان كيتون، حول قيامها بالتقاط بعض الصور الفوتوغرافية ورأيه فيها، بينما تُكتب على الشاشة ترجمة مغايرة لجمل الحوار، نفهم أنها تعرض الأفكار التي تدور داخل رأس المتحدث، كأن يقول البطل: «الصور رائعة جدًا»، بينما نقرأ أن أفكاره الحقيقية تقول «أنت جميلة جدًا»، وهكذا.
من هذه المساحة الشيقة بين ما يصدر على اللسان وما يدور في الذهن تنطلق حكايات فيلم «دخل الربيع يضحك»، العمل الروائي الطويل الأول للمخرجة نهى عادل والمنتجة كوثر يونس، وهو الفيلم المصري الوحيد المشارك في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الخامس والأربعين، والذي فاز في ختام المهرجان بجائزة الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسي) وجائزة أحسن مخرجة عربية، مبُشرًا بصوت سينمائي مغاير، لمخرجة ومنتجة لا تخافان من تقديم عمل مختلف.
فالبشر عمومًا لا يصرحون بما داخل رؤوسهم من أفكار، وما يقر في قلوبهم من مشاعر تجاه الآخرين. ضرورة اجتماعية يحتمها اضطرارنا أن نعيش معًا، فلو كنا نسمع أفكار بعضنا البعض، لما احتاج العالم أكثر من عدة دقائق حتى تندلع فيه ملايين المعارك التي ستؤدي حتمًا لفنائه. أما في فيلم نهى عادل، تُقاد الشخصيات إلى نقطة ينهار فيها الجدار الاجتماعي بين الأفكار والأقوال، فتندفع الألسنة في صراحة لا يعود العالم بعدها كما كان، على الأقل بالنسبة لهؤلاء الذين شهدوا تلك اللحظة الانفجارية.
قواعد اللعبة
أربع حكايات متتالية، مدة كل منها تتراوح بين 20 و25 دقيقة، تدور كل حكاية في شهر من شهور الربيع، تبدأ بلحظة اجتماع بشري، توجد فيه مجموعة من الشخصيات داخل حيز مكاني وزماني واحد. حيز له طبيعة المجتمع: من فيه غير قادرين على مغادرته لأسباب اجتماعية، عليهم التعايش مع هذا المزيج ممن يحبونهم ومن لا يحملون ودًا تجاههم، فيغلفوا كلماتهم بغطاء من المجاملة والخُبث، محاولين المرور بالموقف إلى نقطة آمنة، لكن الرياح لا تأت أبدًا بما تشتهي السفن.
أول ما يمكن ملاحظته على الحكايات الأربع أن الجامع للشخصيات في كل مرة هو حدث يُفترض بطبيعته أن يكون سعيدًا: زيارة ودية بين جيران، اجتماع لاحتفال بعيد ميلاد صديقة، زيارة تجميلية لمحل كوافير، وحفل زفاف. فلماذا تتحول السعادة المرجوّة في كل الحالات صدامًا عاصفًا؟ تُرجع المخرجة الأمر – بأدب مبالغ فيه – لتقلبات الفصول، ونُرجعها لتقلبات النفوس، ولشعور البشر الأزلي بالحنق لأنهم يعيشون في عالم نادرًا ما يسير وفق رغباتهم.
البشر محكومون بالتعايش طيلة عمرهم مع هذا الحنق، يكبحونه كثيرًا لكنه ينفجر أحيانًا فيدفعهم لقول ما لا يُقال. بطلة «آني هول» أحبت البطل لأنه عندما طرح داخل عقله سؤال «كيف يبدو شكلك عارية؟» حوّلها لسانه لحديث حول أهمية التصوير الفوتوغرافي بين الفنون المعاصرة. لو كان قد صرح بأفكاره لتغير مسار العلاقة كليًا. حسنًا، شخصيات «دخل الربيع يضحك» تحاول فتفشل، وتجعلنا المخرجة شهودًا على هذا الفشل الدراماتيكي وتبعاته في كل مرة.
«في كل مرة» وصف يقودنا للحديث عن واحدة من مشكلتين كبيرتين سيواجههما الفيلم للتفاعل مع الجمهور الكبير، وهي مشكلة النسق المتكرر pattern في الحكايات الأربع، فهي وإن اختلفت كليًا في التفاصيل والشخصيات والمشاعر، تكاد تتطابق في المسار التصاعدي: بداية هادئة تُغلفها عبارات المجاملة التي تُخفي داخلها بذور الشقاق، عبارة أو موضوع يتسرب للحوار فيكشف طبيعة المشاعر المتبادلة، ثم انفجار تتبادل فيه الشخصيات كلمات أشبه باللكمات. تُقدم الحكاية الأولى هذا النسق بهدوء وذكاء مفرط، ثم لا نحتاج أكثر من دقائق في بداية الحكاية الثانية لنتوقع أن النسق نفسه سيتكرر، وهو ما يحدث بالفعل في كل مرة، دون أي مخالفة للتوقعات تحرر الفيلم قليلًا من ذلك الشعور بالتكرار.
عودة الطبقة الضالة
غير أننا سنظلم الفيلم وصانعته إذا ما لم نؤكد أن التكرار يقتصر فقط على النسق الشعوري، أما الحكايات نفسها فتدهشنا في كل مرة بقدرتها على الإمساك بتفاصيل مدهشة تخص حياة الشخصيات المصرية، وتحديدًا الشخصيات التي تنتمي إلى مساحة طبقية بعينها: الطبقة الوسطى الراغبة في الالتحاق بما هو أعلى. سكان المعادي والمهندسين وباقي الأحياء العريقة التي هجرها كل يمتلك القدرة المالية على الانتقال لمجمع سكني على أطراف العاصمة، بينما ظل فيها مزيج ممن يعيشون على أطلال ماضٍ كانوا فيه أفضل حالًا، ومن هاجروا حديثًا لتلك الأحياء للتأكيد على سير رحلتهم الطبقية في الاتجاه الصحيح.
وبينما تبدو السينما المصرية خلال القرن الحالي مهمومة في أغلب إنتاجها بالتعرض لطبقتين متناقضتين: عالم الأثرياء الذين لا يُشكل المال لهم أزمة تُذكر، وعالم الفقراء الذين تقف الحاجة في وجه مسار حياتهم الطبيعي، فإن أفلامنا نادرًا ما تتعرض بهذا العمق لطبقة تمتلك علاقة مغايرة بالمال، أكثر تعقدًا إن جاز لنا التعبير، فهم ليسوا في حاجة تهددهم بيولوجيًا وفيزيائيًا بالجوع أو التشرد، لكنهم في احتياج نفسي واجتماعي لا يتوقف ليس فقط على جمع المال، وإنما يمتد لاستخدامه في التباهي الطبقي.
المال هو ما يدفع مصاريف المدارس الدولية للأبناء حتى يكبروا فيسخروا من الإنجليزية الرديئة التي نحدثهم بها، وهو ما يشتري فيلا الكومباوند وشاليه الساحل الشمالي والخاتم الألماسي، ويدفع تكاليف مصوّر فوتوغرافي يأتي خصيصًا ليصوّر استعداد العروس لزفافها. نلاحظ هنا أن قيمة النقود وأثرها الطبقي حاضران في كل فصول الفيلم، حتى فيما يبدو منها خلافًا شخصيًا لا علاقة له بالماديات، لو دققنا فيه وحللنا عناصره، سنجد المال ينتظرنا كمحور رئيسي لصدامات تندلع بين بشر لا يدرك أغلبهم أنه العنصر المحرك داخلهم.
تعيد نهى عادل هذه الطبقة إلى الشاشة بصدق نادر، انعكس في الضحكات التي انفجرت في الصالة في كل مرة تقوم شخصية بدس تعبير انجليزي أو فرنسي داخل عبارة متوترة. ضحك لا ينبع من سماع توظيف لغوي عجيب (على طريقة أفلام الكوميديا المعتادة)، ولكن منبعه الرئيسي أن في حياتنا من يتحدث بنفس الطريقة، إن لم نكن أنفسنا مدانين بنفس الاتهام!
هذا الشعور بالألفة، بالنظر إلى الذات وإدراك ما فيها من غرابة مضحكة، قد يكون المنبع الرئيسي لأصالة “دخل الربيع يضحك”، والذي ساهم فيه قرار المخرجة بتوظيف طاقم تمثيلي كامل من الهواة، وجوه لم نرها من قبل على الشاشة، لكنها مألوفة لأنه تشبهنا، نرى فيها الأهل والأصدقاء والمعارف، بما في مظهرهم من عيوب ماكياج ومبالغة في التظاهر وطرق تعبير غير اعتيادية. المخرجة منحت ممثليها مساحة حرية في ارتجال الحوار الذي جاء في مجمله واقعيًا هو الآخر، بما يحمله الواقع من صخب وتدافع وتداخل عبارات، ومواقف محرجة وكلمات تُقال في غير مواضعها، كلها أمور منحت الفيلم خصوصيته، وكرّست في الوقت نفسه للمشكلة الثانية في تلقيه من قبل الجمهور العريض.
معضلة حوارية
«دخل الربيع يضحك» فيلم حواري بامتياز، لو تم تفريغ حواره في نص مكتوب سيكون حجمه على الأرجح ضعف الحجم المعتاد لأي سيناريو فيلم مدته مائة دقيقة، تلعب الكلمات فيه دور البطولة في كل شيء: في تقديم الشخصيات، والتفريق بين سماتها، وتحريك الصراعات فيما بينها وصولًا لنقطة الانفجار. عمومًا، لا ضير في الحوار طالما كان بارعًا، ولنضع جانبًا النصائح المعتادة عن ضرورة تعبير السينما بالصورة لا بالكلمة، فكثير من الأعمال العظيمة حوارية بطبيعتها، والمخرجة اتخذت هذا القرار واعية، وعملت على دعمه سينمائيًا بتقديم حوار فيلمها الممتد بمعالجة بصرية ملائمة.
غير أن جانب كبير من قدرة المُشاهد على تقييم جودة الحوار تعتمد على عنصري القدرة على المتابعة وفهم الإحالات الثقافية، أن يتمكن الجمهور من اللحاق بسباق العبارات اللاهث فلا يفوته شيء، وأن يعرف المعنى الخافت الذي تحمله كل جملة، ويُقيّم حضورها داخل سياقها، فالعبارة قد تكون لائقة بشكلٍ مُجرد، لكنها مقتحمة أو مضحكة أو كارثية إذا ما قيلت في هذا الموضع تحديدًا، من هذه الشخصية بعينها.
يخلق هذا الاختيار الفني وضعًا مُربكًا، يكاد اكتمال تجربة تلقي الفيلم والاستمتاع به تقتصر على مجموعة محدودة من البشر: مصريون من أبناء الطبقة الوسطى أو من المتعاملين معها، نشطون قادرون على ملاحقة الحوار والتفكير فيه وفهم مراميه. إذا فقد المُشاهد أيًا من الصفات السابقة يفقد تلقائيًا قدرًا من المتعة، قدرًا يتراوح بين فقدان القدرة على المتابعة برمتها، أو الاكتفاء بمتابعة تطور القصة والشخصيات دون فهم الديناميكيات التي تحكم علاقتها أو تذوق الطرافة في الحوار بينها.
لا أقول إن هذا عيب فني، ففي النهاية لا يجب أن يكون كل فيلم مصنوعًا للجمهور الكوني، بل أني انحاز بشكل شخصي للأفلام المحلية، المنتمية بصدق لعالم صانعها دون موائمات أو توازنات. وعلى الصعيد النقدي، أزعم أنني أكتب مقالاتي لقارئ يُشبهني، ينتمي لثقافة مُقاربة ويستمتع بما استمتع به، دون التفكير في أن المقال قد يُترجم للغة أخرى، أو قد يقرأه أكاديمي سفسطائي يُفضل لغةً أكثر تقعرًا، أو قارئ مبتدئ يحتاج لغةً أكثر تبسيطًا. لن أُحرِّم على نهى عادل إذن ما أحلّه لنفسي، لكني أشير فقط أنه اختيار يجعل محبي «دخل الربيع يضحك» من الطبقة الوسطى المصرية أكثر من خارجها، ومن المصريين أكثر من غيرهم، ومن العرب أكثر من الأجانب، وهكذا دواليك.
عن الانقباض والتجاوز
صحيح أن الحوار وما يكشفه حول الشخصيات هو العنصر الرئيسي في «دخل الربيع يضحك»، إلا أنه لم يكن ليحقق الأثر المرجو منه ما لم تتمكن المخرجة ببراعة من التعامل مع هذا القدر الضخم من العناصر الإشكالية: ممثلون غير محترفون، جمل حوارية لا تُعد، مشاهد طويلة مليئة بالشخصيات والحوارات المتداخلة يُعد كل منها اختبارًا لقدرة المخرج على فرض التواصل البصري والأدائي، وبالطبع المواقف المتصاعدة التي تطلب من الممثلين التعبير على طيف كامل من المشاعر دون أن تهرب منهم الشخصية أو يسقطوا في فخ المبالغة.
تنجح نهى عادل وفريقها ببراعة، ليس فقط في عبور مأزق المهمة المعقدة، بل وإنجازه بنجاح يستحق التحية، سواء في إدارة فريق الممثلين والخروج منهم بأداء لا يأخذ من الهواية إلا طزاجتها، أو في توظيف الكاميرا المحمولة واللقطات الضيقة للحفاظ على شعور دائم بالتوتر. هذا فيلم انقباضي، مشدود بإحكام ضاغط للأعصاب، لا يمنح مُشاهده مساحة لالتقاط الأنفاس إلا في الثواني المعدودة التي تنتهي فيها كل حكاية بتصاعد أغنية كلاسيكية بصوت واحد من الأساطير الموسيقية التي تهدي المخرجة الفيلم في نهايته إليهم.
هذا التناقض بين التوتر الدائم والمتصاعد داخل الحكايات، وبين الهدوء الحالم لنهاية كل منها، يضيف شيئًا لرؤية الفيلم لشخصياته وواقعهم. صحيح أنهم يتصادمون بشكلٍ عاصف نشعر معه وكأن العالم قد انتهى، لكن الواقع يخبرنا إن ثمّة طريق للعودة دائمًا، يبدأ عندما تنتهي فورة الغضب ويشرع كل شخص في التفكير فيما قاله وفعله. فمن منّا لم ير صراعًا يظن أن أطرافه سيصيرون أعداءً للأبد، ثم يفاجأ بعد زمن بعودة المياه بينهم لمجاريها؟
تكتمل تلك الرؤية التصالحية بالفصل الختامي القصير الذي تنهي به نهى عادل الفيلم، وكأنها تربت على كتف شخصياتها معلنة تسامحها مع كل ما جرى منهم، ففي النهاية كلنا بشر، لنا الحق في الحسابات الخاطئة، في التجاوز قليلًا بحق بعضنا البعض، ثم في تجاوز كل ذلك واستكمال حياتنا، تمامًا كما يمر الربيع بخماسينه الترابية ويعود الهدوء للأجواء.
«دخل الربيع يضحك» فيلم فريد، يُبشر بموهبة إخراجية ذات ذائقة خاصة، قد لا تكون الذائقة الكونية التي يُجمع عليها الكُل، لكنها تُخاطب جمهورًا بعينه، سيجد ضالته في هذا الفيلم الذي يعود بفئة غائبة إلى شاشة السينما، فيقدمها بصدق نادر لا يخلو من الطرافة والمحبة.
اقرأ أيضا: «أرزة»… بحث عن ملاذ في دراجة نارية