فاصلة

مراجعات

“خيال أمريكي”… عفوًا.. فيلمك ليس أسود بالقدر الكافي

Reading Time: 5 minutes

خلال العقد الماضي، اعتدنا مع بدء موسم الجوائز السينمائية في نهاية كل عام أن يظهر للنور فيلم لمخرج جديد أو مخرجة جديدة من أصول أفريقية، يناقش موضوعًا له علاقة بمعاناة الأمريكيين من أصل أفريقي، لينال الفيلم احتفاءً يأتي أحيانًا في محله؛ وأحيانًا مبالغًا فيه. وفي كل الأحوال يجد الفيلم مكانه ضمن المتوجين بالجوائز. هذا نموذج صار معتادًا لدرجة إنه عندما غاب واحد من تلك الافلام في عام واحد عن ترشيحات الأوسكار، خرجت حملة مقاطعة للجوائز وصفتها آنذاك بأنها “بيضاء جدًا”.

لذا، لم يكن من الغريب أن يعتقد من يتابع الحفاوة المتزايدة بفيلم “خيال أمريكي American Fiction“، أول أفلام المخرج كورد جيفرسون، أنه ينتمي إلى تلك الفئة من الأفلام، وذلك منذ فوزه بجائزة اختيار الجمهور في مهرجان تورنتو السينمائي، فتكوّن اعتقاد أن الفيلم امتداد للسلسلة ذاتها من تقدير بعض الأفلام بهدف ضمان التعددية، وشعور الرجل الأبيض في هوليوود بالذنب تجاه الجماعات العرقية التي طالما تم تهميشها. لكن مشاهدة الفيلم أتت بمفاجأة سارة: الفيلم ليس فقط مغايرًا لهذا التصور، بل إنه صُنع خصيصًا لينتقد هذا العالم ويسخر منه.

بداية صاخبة

ثيلونيوس إليسون، أو “مونك” كما يسميه المقربون منه، كاتب روائي محدود الشهرة من أصل أفريقي، يبدأ الفيلم به في قاعة جامعية يُلقي محاضرة عن الأدب الروائي في جنوب الولايات المتحدة، يكتب على اللوحة عنوان مجموعة قصص قصيرة شهيرة من خمسينيات القرن الماضي هي “الزنجي الصناعي The Artificial Nigger” للكاتبة فلاني أوكونور، لتقاطعه طالبة بيضاء تصبغ شعرها بالأخضر، لتطلب منه مسح الكلمة من اللوحة لأنها كلمة مهينة لا ينبغي أن تظل مكتوبة أمامهم طوال المحاضرة. الطالبة تفعل كأي مراهق من الألفية الجديدة وتغادر المحاضرة غاضبة، لكن العجيب أن إدارة الجامعة تقف في صفها وتقرر إيقاف مونك عن العمل!

لاحظ المفارقة التي تبدأ بها حكايتنا: رجل أسود صاحب خبرة في مجاله يُلقي محاضرة علمية عن أدب منشور بالفعل من عقود، لكنه يتعرض للمقاطعة والإيقاف عن العمل بسبب انطباع مراهقة بيضاء تؤمن بشكل قاطع أن بعض الكلمات لا ينبغي قولها في أي سياق.

خيال أمريكي

هذا الموقف يلخص معاناة بطلنا مونك، فهو يريد أن يصير كاتبًا فقط، يكتب روايات تهمه، ويتم التعامل معها باعتبارها أعمالًا فنية، من دون محاولة لنسبها إلى جذوره العرقية ومحاولة التفتيش داخلها عمّا يمكن استخدامه في معركة نيل جماعة ما لمزيد من الحقوق.

تزداد تعاسة مونك عندما يخبره وكيله أن الناشرين ليسوا متحمسين لروايته الجديدة لأنها “لا تعبر بالشكل الكافي عن جذوره الثقافية”، أي أنها بكلمات أوضح “ليست سوداء بما يكفي”. تتزامن صدمتا الإيقاف ورفض الرواية ليحملهما مونك معه وهو يسافر لحضور مؤتمر أدبي في بوسطن قبل زيارة منزل عائلته، ليكشف الفصل الثاني عن المزيد حول الشخصية والموضوع الذكي الذي يطرحه المخرج والمؤلف كورد جيفرسون في فيلمه المأخوذ عن رواية نُشرت عام 2001 للكاتب بيركيفال إيفريت بعنوان Erasure.

خيال أمريكي

أزمات بيضاء جدًا

بعودة مونك إلى مسقط رأسه نفهم أكثر عن جذوره، فهو ابن عائلة من الطبقة المتوسطة العليا، أغلب أفرادها من الأطباء، يمتلكون منزلًا كبيرًا على الشاطئ، ويعانون مجموعة متشابكة من المشكلات التي تُركت سنوات دون مناقشة أول حل: علاقات مسكوت عنها من الماضي، إحباط بين الآباء والأبناء، فرد يحاول اكتشاف هويته الجنسية، تنافس ممزوج بالحب والغيرة بين الأشقاء، وغيرها.

باختصار، عاش مونك حياة مختلفة تمامًا عما يتصوره العالم عندما يرى رجلًا من أصل أفريقي. حياته مليئة بالمشكلات والعلاقات المعقدة التي تصلح أن تكون مادة لأعمال أدبية، لكنها أزمات “بيضاء جدًا”، يُمكن أن تدور بحذافيرها داخل أي عائلة من أي عرق أو خلفية، وهو ما يجعلها مادة غير مرحب بها في مجتمع ثقافي وفني يزعم في كل لحظة انتصاره للتعددية ومنحه مساحة لكل الأصوات، لكنه يمارس في الوقت نفسه نوعًا غريبًا من العنصرية، بأن يُنمّط حياة السود ويجعلها مقتصرة على الفقر والجريمة والمعاناة مع الشرطة وغيرها من الثيمات المعتادة.

لا يصدق مونك احتفاء الوسط الأدبي بكاتبة درست في أكبر جامعات العالم ثم عملت في دار نشر شهيرة، لم تعان يومًا واحدًا في حياتها، لكنها تكتب رواية عن معاناة أسرة سوداء، وتكتب الرواية بإنجليزية ركيكة باعتبارها اللغة التي يستخدمها أبطال روايتها، حتى أن عنوان الرواية “We’s Lives In ‘Da Ghetto” هو “عشنا في الجيتو” مع ثلاثة أخطاء لغوية في العنوان وحده، بينما الكل يحتفي بالكاتبة وشجاعتها في التعبير عن المهمشين.

يقرر بطلنا أن يُقدم على فعل اعتراضي، بكتابة رواية رديئة تنتمي لنفس النوعية، يملأها بكل الصور النمطية عن حياة السود وعنف الآباء والجرائم والمخدرات، يُقدمها للناشرين باسم مستعار كي يُعبر عن ازدرائه لاختياراتهم، وكما يُمكن أن نتوقع جميعًا: تنال مسودة الرواية إعجاب الجميع، ويتنافس الوسط الثقافي والفني على نشرها والترويج لها، بل وتحويلها فيلمًا سينمائيًا!

خيال أمريكي

هذه ليست كوميديا

إلى هنا تبدو حكاية “خيال أمريكي” ملائمة تمامًا لفيلم كوميديا لاذعة، تسخر من المؤسسات الثقافية والفنية، وتعبر عن وجهة نظر المخرج كفنان أمريكي من أصول أفريقية، يدافع عن حقه في أن يعبر عن نفسه بالطريقة التي يُفضلها، وألا يتم حصره في لون بشرته وإجباره على أن يكون مناضلًا في معركة لم يخترها. لكن ما يُميّز الفيلم وما يجعله أكثر من مجرد اعتراض كوميدي هو اختيارات كورد جيفرسون الإخراجية.

يحتفظ الفيلم بالنبرة الكوميدية التي تخلقها حكايته، لكنه لا ينجرف في طريقها للنهاية أبدًا، بل يتعمد أحيانًا أن يتغاضى عن مشاهد متوقعة يُمكن أن تكون مصدرًا للضحك، حفاظًا على مستوى من الكوميديا الرزينة التي لا تجعل المشاهد يتوقف عن التفكير فيما يراه. يمزج جيفرسون ذلك بنبرة أخرى درامية، بل ميلودرامية، مصدرها علاقة مونك بمن حوله، شقيقته وشقيقه وأمه وخادمتها والمرأة التي يقابلها فيقع في حبها. تُبنى هذه الخطوط الدرامية بعمق يتفهم تعقيد النفس البشرية، ولا يخشى الفيلم من عرضها في زمنها اللائق، ليكون لدينا ما يشبه فيلمين متوازيين: فيلم واقعي عن حياة مونك، وآخر هزلي عن المغامرة التي دُفع لدخولها.

لا يكتفي الفيلم بهذا التوازن، بل يزيد من قيمته بمنح مساحة لرؤى تتجاوز وجهة نظر مونك وحده، فيمنح الكاتبة الشهيرة التي كتبت “عشنا في الجيتو” مساحة للتعبير عن رأيها في عملها وعلاقته بالوسط الثقافي في مشهد كُتب بذكاء بالغ ليضعها ومونك في مناظر مباشرة، دون أن يجعلنا ننسى أنهما في النهاية على متن قارب واحد اسمه حياة الأمريكيين من أصل أفريقي.

يمتد منح المساحات للمشاهدين أنفسهم، عندما يُقرر المخرج ألا يضع نهاية واحدة قاطعة لفيلمه، بل يخلق من رحم الحكاية طريقة عضوية لتقديم ثلاث نهايات مختلفة، لكل منها معنى وتفسير مختلف، ويترك حرية الاختيار أمام كل متفرج ليقارن ويقيّم ويرى النهاية الأكثر منطقية لما شاهده في الفيلم.

يأتي “خيال أمريكي” كمفاجأة سارة في عام 2023 الذي كان مليئًا بالأفلام المنتظرة التي جاء بعضها مستحقًا للانتظار، وأحبط أغلبها المتابعين. لم يترقب أحد فيلم كورد جيفرسون قبل عرضه، لكنه جاء ليقدم صانعه كموهبة تستحق الاهتمام، سينتظر الكل أفلامها اللاحقة.

اقرأ أيضا: عام عودة العمالقة والكائنات الخرافية… هذه الأفلام تنتظرك في 2024

اقرأ أيضا: “مجتمع الجليد”… من يدفع الثمن الغالي للنجاة؟

شارك هذا المنشور