فاصلة

مراجعات

«خمسين»… عندما تكون البساطة فخ

Reading Time: 5 minutes

تُعتبر الأفلام القصيرة مساحة مثالية للتجريب والإبداع، حيث يتحرر صانعها من التحرر من قيود السوق التجارية ويركز على تقديم رؤيته الفنية الخاصة. هذا النوع من الأعمال يمنح المخرج فرصة لإعادة صياغة أدواته، واستكشاف طرق جديدة للتعبير بعيدًا عن ضغوط شباك التذاكر أو العائدات المالية. 

يختار بعض مخرجي الأفلام القصيرة صناعة فيلمه بشكل بأسلوب «السهل الممتنع»، حيث يبدو العمل بسيطًا على السطح، لكنه يحمل في طياته عمقًا فكريًا وإبداعيًا يترك أثرًا لدى المشاهد. بينما آخرون يفضلون تقديم أعمال مليئة بالرمزية والأفكار المعقدة، والتي تُثير تساؤلات وتحفّز الخيال، مما يدفع المتلقي لإعادة التفكير وتحليل العمل في ذهنه بعد المشاهدة، محاولًا فك شفراته وفهم مغزاه. كل هذا بالطبع يعتمد على تنفيذ العمل بجودة عالية، وضمن رؤية واضحة وملفتة على مستوى التصوير، أو الإخراج، أو الإنتاج. فالفيلم القصير الجيد ليس مجرد تجربة عابرة، بل هو قطعة فنية مركزة تحمل رؤية واضحة قادرة على جذب الانتباه وترك بصمة مميزة لدى الجمهور.

فيلم ( خمسين - 2024)
فيلم ( خمسين – 2024)

في الفيلم الذي أخرجه وكتبه «عبدالله رويس»، والذي شارك ضمن برنامج مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في فئة سينما السعودية الجديدة للأفلام القصيرة، حاول المخرج تقديم عمل بسيط يعتمد على المفارقة الكوميدية كأداة أساسية. فالفيلم كان يهدف إلى خفة الطرح وسهولة التلقي، لكنه واجه تحديًا كبيرًا يتمثل في غياب العمق والمغزى الذي يمكن أن يترك أثرًا لدى المشاهد.

ورغم أن بساطة الأفلام ليست عيبًا بحد ذاتها، فإنها تحتاج إلى صياغة مدروسة تضيف قيمة فكرية أو عاطفية. هنا، جاء الطرح سطحيًا إلى درجة التبسيط المفرط الذي اقترب من السذاجة، مما أدى إلى افتقار الفيلم لأي بصمة أو تفاعل حقيقي مع الأحداث. يخرج منه المشاهد بدون أن يحتفظ بأي فكرة ملهمة أو لقطة مؤثرة يمكن أن تعلَق في ذهنه. حتى المفارقة الكوميدية في نهاية العمل، التي كان يُفترض أن تكون ذروة الفيلم، جاءت مفتقرة إلى التأثير المطلوب.

فيلم ( خمسين - 2024)
فيلم ( خمسين – 2024)

يقدم الفيلم قصته من خلال توقف أحد الشخصيات ( الممثل كريم) الذي لا نعرف هدفه في البداية، أمام أحد المنازل بهدف مراقبة عائلة تستعد للسفر، بعد أن تتحرك العائلة يترجل الشخص من السيارة متوجهًا نحو البيت لغرض ندرك بالبديهة أنه السرقة، بعد قطع سريع من النهار إلى الليل، يدخل السارق للمنزل، لكنه بدلًا من سرقته مباشرة يتوجه ناحية التلفاز ليبدأ في متابعة الفيلم المعروف «وحيد بالمنزل» Home alone 1990، بعدها بوقت قصير يخرج شخص كبير بالسن (الممثل محمد الزريق) وهو يهلل ويسبح الله، عندها فجأة يرفع المسن سلاحًا موجه نحو السارق، فيدور جدل بينهما، ينتهي بأن يشترط المسن على السارق أنه  سوف يتركه حيًا إذا ما فاز السارق عليه في لعبة «الكيرم وإذا خسر سيقتله، وفجأة كذلك تخرج عاملة بطلب من المسن ويخبرها أن تعد الفطور، هنا يبدأ كلاهما باللعب في لعبة الحياة والموت بالنسبة للسارق، وبعد عدة مشاهد من محاولة الاستحواذ على السلاح، يُطلق النار من السلاح عن طريق الخطأ ويقتل العاملة التي تحمل الفطور. وعندها، يعود كلاهما لاستئناف اللعبة من جديد، بهدف أن من يخسر سوف يحمل تهمة القتل.

فيلم ( خمسين - 2024)
فيلم ( خمسين – 2024)

في القصة القصيرة «النائبات حين تؤخي» للكاتب الأمريكي المعروف أو. هنري، قدم قصة تدور حول سارق يدخل منزل أحد الأشخاص ثم تتحول عملية السرقة إلى حوار إنساني عميق، حيث يكشف كل من السارق وصاحب المنزل عن أوجاعهما وهمومهما المشتركة، مما يجعل القارئ يشعر بتقاطع مشاعره مع القصة. بينما في الفيلم، فقد تسربت المشاهد دون أن تترك أثرًا واضحًا لدى المتلقي، حيث بدت أقرب إلى استعراضات تصويرية أشبه بإعلان، منها إلى فيلم يحمل رسالة أو مغزى.

كانت هناك فرصة كبيرة للفيلم ليمزج بين البساطة والكوميديا من جهة، والعمق الإنساني من جهة أخرى. من بين هذه الفرص الضائعة، الحوار الحاد بين السارق والعجوز حول سبب ترك العائلة للأخير وسفرهم بدونه، بدعوى أنه أصبح عالة عليهم. هذه النقطة تحديدًا كان يمكن استثمارها بشكل أفضل لإضفاء بعد إنساني للشخصية، وجعل المشاهد يتعاطف معها. ولكنها مرت مرور الكرام بدون أي تعمق، كما ضاعت معها لحظات أخرى كان يمكن أن تُثري العمل. 

ومن المهم كذلك الإشارة إلى أمر مهم قد يغفل عنه البعص، ألا وهو العنوان، إذ يعتبر العنوان ركيزة أساسية ومدخل مهم لفهم الفيلم، إما أن يوضح فكرة العمل بشكل مباشر، أو أن يقدم ظلًا دلاليًا يُفهم معناه الكامل بعد مشاهدة الفيلم. 

فيلم ( خمسين - 2024)
فيلم ( خمسين – 2024)

وفي فيلم «خمسين»، يبدو العنوان بعيدًا عن المعنى الأساسي للفيلم، مما يضعف ارتباطه بالقصة ويقلل من تأثيره. فالعنوان على الأرجح يشير إلى شخصية الرجل المسن، والذي يُفترض أنه في الخمسينيات من عمره بناءً على الاسم، لكن ذلك يتناقض مع مظهر الممثل الذي يبدو أكبر سنًا (ما بين الستين والسبعين) ومع سياق الفيلم الذي يجعله يبدو جدًا يعيش مع عائلة أحد أبنائه أو بناته، وهو ما لم يتم توضيحه بشكل صريح. الإشكالية هنا تكمن في عدم ارتباط العنوان بقلب القصة أو بمحورها الأساسي.  فالجد الخمسيني ليس هو أساس الفيلم والذي يحمل معناه، بل هو أبعد من ذلك، على عكس فيلم «وحيد في المنزل»، الذي كان يشاهده السارق داخل القصة، حيث يعبّر العنوان بشكل مباشر عن حالة بطل الفيلم. العنوان هنا بسيط، ولكنه فعال، يعكس بوضوح مضمون الفيلم ويُسهّل على المشاهد ربط الأحداث بالعنوان. في فيلم «خمسين»، كان يمكن اختيار عنوان أكثر دقة وارتباطًا بالقصة أو بالفكرة المحورية. ربما لو تم استلهام العنوان من مفارقات القصة.

كذلك يعاني التنقل بين المشاهد في فيلم «خمسين» من ضعف التواصل بين التصوير والمونتاج، ما أضعف منطقية السرد. على سبيل المثال، الانتقال من النهار إلى الليل بمشهد قطع سريع بينما الشخصية واقفة في الشارع يفتقر للتبرير، إذ من غير المعقول أن يبقى الشخص واقفًا إلى 12 ساعة، بينما لو تم تصويره في السيارة أو باستخدام لقطات وسيطة تُظهر مرور الوقت لأصبح أكثر منطقية. بالإضافة إلى أن القطع المتوازي بين مشهد لعبة الكيرم ومشهد الطبخ، جاء بلا رابط درامي أو رمزي واضح، مما جعل المشهدين أقرب إلى استعراض بصري عشوائي. كان من الأفضل تعزيز التماسك بين المشاهد عبر خلق ارتباط نفسي أو رمزي بينها، لتجنب تحولها إلى مجرد لعب مونتاجي.

تتيح فرص إنتاج الأفلام القصيرة لصناعها صياغة وإبراز أصواتهم الخاصة، كما تتيح افقًا من الحرية في الابتكار والتجريب.  وفيلم «خمسين» قدم نموذجًا للنجاح في العديد من الجوانب من انتاج وتمثيل وتصوير، إلا أن ما كان ينقصه بالإضافة إلى بعض التفاصيل البسيطة التي ذكرناها في هذا المقال، هو العنصر الأساسي الذي يعطي العمل طعمه الخاص: النص. النص المعالج بشكل جيد ومرتبط بشكل متسق، بدءًا من العنوان وصولًا إلى الخاتمة.

اقرأ أيضا: «إلى عالم مجهول»… العالم لا يزال «ليس لهم»

شارك هذا المنشور