فاصلة

مراجعات

خمسون سنة على «المحادثة»… جوهرة كوبولا المخفيّة

Reading Time: 5 minutes

كانت السبعينيات هي عِقد المخرج فرانسيس فورد كوبولا (1939 – الولايات المتحدة الأميركية) بلا منافس تقريبًا، لأسباب عديدة من بينها «القيامة الآن» (1979 – «Apocalypse Now») وبالطبع «العراب»The god father بجزئيه (1972 – 1974).

إلا أنه وفي فترة بينية تخللت تلك الأفلام الثلاثة الرائعة، أخرج كوبولا عملًا حُجب بشكل غير عادل، ربما لأنه توسط صدوره فيلمي العرّاب، أو ربما لأن قصته وبطله لم يجذبا الأنظار بشكل كاف. مهما كان الأمر، هناك شيء واضح وصريح، هو أنّ «المحادثة» The Conversation(1974)، يستحق مكانته بين هذه الأفلام. فهذه الجوهرة المخفية التي تحتفل بعيدها الخمسين هذه السنة، لا تقل بأهميتها عن أقرانها.

الفيلم، الذي كتبه وأخرجه كوبولا بنفسه تعود فكرته إلى عام 1966. كان كوبولا وقتها قد انتهى للتو من قراءة رواية «ذئب السهوب» Steppenwolf(1927)، للروائي الألماني السويسري المعروف هرمان هيسه. وهي رواية فلسفية عن الطبيعة المتناقضة للذات، عن الفرح والحزن، المعاناة واللذة، الكياسة والغريزة الحيوانية، الرغبة في الحياة والشعور بتدمير الذات، والأهم طبعًا الوحدة.

في ذلك الوقت، كان الخوف من العزلة والخسارة العاطفية لكل ما يربطك بالعالم الحقيقي، موضوعًا متكررًا وجد طريقه إلى السينما أيضًا. تأثّر كوبولا بهذه المفاهيم، وبفيلم «بلو أب» Blow up(1966) لمايكل أنجلو أنتونيوني، وبمحادثة بينه وبين زميله المخرج إيفرين كيرشنر (1923 – 2010)، حيث أكّد الأخير له أن الدردشة مع شخصين وسط حشد من الناس، لا يمنع تسجيل المحادثة بصوت نقي وواضح.شرع كوبولا في كتابة قصة عن رجل ذي مظهر بارد، بعيد عن الجميع وبداخله عقل صاخب. شخص يسكن عالمًا يعتبره معاديًا، لا يستطيع أو لا يريد الهروب منه. قصة عن المشاعر المكبوتة لرجل يتجسّس على أسرار الآخرين، لكنه يحرس حياته الخاصة بغيرة. حياته عبارة عن ذهاب وعودة مستمرة بين المعاناة الناتجة عن عدم الثقة بالعالم، والخوف من الوحدة التي يبدو أنّه لا مفرّ منها أحيانًا. وهكذا بدأ بصياغة القصة التي كان يكتبها بشكل متقطع من عام 1966 إلى عام 1969، وهو العام الذي أنهى فيه المسودة الأولى للفيلم.

في ذلك الوقت، خارج السينما، كان الشارع يغلي بحرب فيتنام، وقضية «ووترغيت»، التي كانت إحدى أكبر الفضائح في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، وكانت أسس المجتمع الأميركي تهتز، إذ فقدت الطبقتان الوسطى والعاملة الثقة بحكّامها. الخداع والأسرار والتستُّر التي أُخفيت تحت سجادة مكتب الرئيس الأمريكي لسنوات، بدأت أخيرًا تطفو على السطح. أثّر كل هذا على السينما والمخرجين، مما أدّى إلى موجة من الأفلام، اكتسب فيها اليأس والوحدة والانحطاط الأخلاقي أهمية أكبر من أي وقت مضى. احتفظ كوبولا بسيناريو «المحادثة» في أحد أدراجه لسنوات، وعدّل عليه مع كل صدمة مجتمعية جديدة. عرضه على عدد من شركات الإنتاج، على أمل أن يرغب أحد في إنتاجه لكن من دون جدوى. فالفيلم جديد على هوليوود، وأوروبي للغاية بالمعنى الأسوأ للكلمة بالنسبة إلى منتجي هوليوود. انتظر كوبولا النجاح الهائل الذي حققه الجزء الأول من فيلم «العراب»، كي يشرع في إنتاج ما سيصبح إحدى أعظم روائع السينما الأميركية الجديدة في السبعينيات.

المحادثة

قليلة هي الشخصيات السينمائية التي ظهرت في أفلام هوليوود في تلك الحقبة وكانت عظيمة مثل هاري كول “جين هاكمان”، رجل انطوائي يمشي مثل الشبح المنعزل في شوارع سان فرانسيسكو، مرتديًا نظارات نصف إطارية ومعطفًا رماديًا واقيًا من المطر، ويفعل الشيء الوحيد الذي يبدو أنه يجيد القيام به في الحياة: التجسّس على محادثات الآخرين. فهو أفضل تقنيي التنصت على المكالمات الهاتفية (Wiretapping). هاري شخص انطوائي، يكسب عيشه من خلال التطفّل على شؤون الآخرين، ولكن لا أحد يدخل حياته. فقط هو والساكسوفون يتواجدان داخل جدران منطقته الحميمة. يستأجره أحد العملاء، بهدف تسجيل محادثة بين شخصين أثناء سيرهما في شارع مزدحم. عند الاستماع إلى المحادثة مرات عدة، أدرك أنها تحتوي على أدلة صوتية حول مؤامرة قاتلة محتملة ضد الاثنين. بعد أن يطارده ذنب تواطؤه السابق في مأساة عنيفة، يقرر هاري معرفة هوية الذي يحاول قتل الشخصين، وهو ما يتناقض بشكل صارخ مع فلسفته الخاصة بعدم التدخل والاهتمام. هو صاحب مقولة «لا أعرف شيئًا عن الفضول»، لكن كما اتضح، ما لا يعرفه هاري يمكن أن يقتله.

تمكن كوبولا من خلق تعايش بيننا وبين هاري. عندما يشك هاري في شيء ما أو شخص ما، فإننا نفعل الشيء نفسه. وعندما يبحث يائسًا عن طريقة لإنقاذ نفسه وتصحيح أخطائه، نتعاطف معه. ومع تزايد جنون العظمة لديه وتقلّص عالمه، نشعر بنفس الشيء ونفس الخوف من الأماكن المغلقة الذي يشعر به.

يتلاعب فيلم «المحادثة» بعقولنا، ويعرّفنا على عالم من الرسائل المشفرة، حيث لا شيء واضح، فكل شيء يخضع لخيال هاري والمحادثة التي سجلها؛ وبالتالي خيالنا وما بين أيدينا.

كوبولا دقيق عندما يتعلق الأمر بتصوير عملية الاستماع إلى المحادثة مرارًا وتكرارًا واستخلاص معنى كل جملة، لأنه في نهاية الأمر، نشهد نحن المشاهدين نسخة تلك المحادثة التي دارت بين الشخصين، بناءً على المعلومات التي يملكها ويسمعها هاري، وليس لدينا شرف معرفة أكثر مما يعرفه. كل ما نراه ونسمعه هو من منظور هاري، الذي نعتبره حقيقة، لأنه في نهاية المطاف البطل والأعظم في مهنته. لكن كوبولا، لا يريد منا الاستسلام لهذا، فيزيد الشك في عقولنا، من خلال الهوس في تكرار المحادثة، والمعنى الذي يتغير مع كل لقطة وسماع جديد. كلما تعمقنا أكثر في ذلك، كلما أصبحنا غير قادرين على رؤية ما يحدث. وفجأة ينهار كل شيء، وسرعان ما نكتشف أن المهم في هذه القصة ليس ما تظهره، بل ما تخفيه أمام أعيننا ومسامعنا وإدراكنا.

المحادثة

الحقيقة والكذب، كل شيء متشابك إلى درجة أنّنا لم نعد نستطيع الثقة حتى في بطلنا المفترض. علاقة الراصد والمرصود تتغير مع تقدم الفيلم، حتى نصل ويصل هاري اخيرًا إلى الكابوس، إلى أسوأ مخاوفه، إذ يصبح هو المُراقَب بدلًا من أن يكون مراقِبًا. الرجل الذي دافع عن عدم الانخراط مطلقًا فيما يسمعه، دفع ثمن خرق مبادئه، فأصبح رجلًا ضعيفًا عرضه للتجسس وبالتالي فقدان خصوصيته.

في نهاية الفيلم، نرى هاري محبوسًا في شقته مثل حيوان مفترس يدمّر كل شيء بحثًا عن ميكرفون لا يظهر ابدًا وربما لا يكون موجودًا. يلعب بنا كوبولا مثل الدمى بينما نبحث مع هاري عنه الميكروفون، اعترف هو بنفسه بأنه لا يعرف مكانه، لأنه لم يتمكن من تأكيد وجوده.

يعد «المحادثة» درسًا مكثفًا عن تحرير واهمية الصوت في السينما. العظيم والتر مورتش، محرّر الصوت الاستثنائي، مشارك كبير في هذا العمل. أصداء الصوت في الفيلم ليست صوتية فحسب، بل سردية ايضًا. كوبولا يعرف كيف يحيط نفسه بالأفضل، والفيلم ما كان ليكون بهذه العظمة لولا مورتش. يتمتع هذا الرجل بالمعرفة والحسية اللازمة للجمع بين طموح المخرج ومنحه الأدوات اللازمة لتحقيق النجاح. بالإضافة إلى الصوت، لدينا موسيقى غير عادية لديفيد شاير، في مقطوعة كاملة على البيانو، تشبه موسيقى شوبان ممزوجةً بموسيقى الجاز، التي توفر الأناقة والهدوء الخادع.

يلعب جين هاكمان هذه الشخصية بعبقرية، ويبدو مثاليًا في ضبط النفس والرصانة، بينما يمزج بين الهشاشة والذكاء والانغلاق وقوة ارادة الشخصية. فنحن نشاهد أحد أرستقراطيّي هذه المهنة، وبجانبه جون كازال (الرائع مرة أخرى في أحد أدواره السينمائية القليلة في حياته المهنية القصيرة للأسف)، وايضًا هاريسون فورد وروبرت دوفال المهيبين. لا يعكس هاكمان بشكل مثالي الطابع المعقد للشخصية، بل يعكس ضعفها أيضًا، مع العيوب الصغيرة التي يتم الكشف عنها تحت هذا المظهر البارد الهادئ. في النهاية، هاري كول إنسان، لا يمكنه إلا أن يتورط في شظايا الحياة التي تمرّ عبر مسامعه.

إن الشعور بالضعف وانعدام الحماية في مواجهة عدو غير مرئي وموجود في كل مكان هو بلا شك الجزء الأكثر نجاحًا في الفيلم. شيئًا فشيئًا، نشهد كيف ينفصل هاري عن كل شيء وكل من حوله، معتقدًا، مثلنا، أنه في عزلة منزله سيجد الأمان الذي يتوق إليه كثيرًا. إذا عزلت نفسك عن العالم، فلن يستطيع إيذاءك، أليس كذلك؟ كذب. لا يزال هناك اقوى عدو على الاطلاق قادر على تدميرك، هو عقلك.

يتشابك الواقع والخيال في هذه القصة حول أهمية الخصوصية كقيمة جوهرية للبشر. وإن كان «المحادثة» يعكس روح عصره، فإنه لا يزال يحمل معاني صالحة وكاشفة حتى بعد خمسين سنة. ففي القرن الحادي والعشرين، أطاحت التكنولوجيا بأي مطالبة مشروعة بالخصوصية.

اقرأ أيضا: ليوس كاراكس وإعادة اختراع الدهشة

شارك هذا المنشور