فاصلة

أصوات نقدية سعودية

خمسة أفلام قصيرة من مهرجان أفلام السعودية 11: قراءة نقدية (2)

Reading Time: 7 minutes

من جديد، يرسّخ مهرجان أفلام السعودية، في دورته الحادية عشرة، مكانة السينما السعودية كصوت فني ناضج لم يعد في طور التجربة، بل حاضرٌ يروي حكاياته بثقة ووعي بصري متقدّم. وقد احتضن مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) فعاليات هذه الدورة، التي شهدت عروضًا لأفلام قصيرة وطويلة، روائية ووثائقية، شكّلت مشهدًا ثريًا بتنوع الرؤى والأساليب واللغات السينمائية، مؤكدةً على تنامي وعي صنّاع الأفلام السعوديين، وقدرتهم على التقاط تفاصيل المجتمع المحلي شديد الثراء والتنوع.

وبعد تقديم قراءة نقدية لأفلام المجموعة الثانية من مسابقة الأفلام القصيرة في مقال سابق، ننتقل في هذا النص إلى استعراض وتحليل أفلام المجموعة الخامسة: «ميرا.. ميرا.. ميرا»، «صدفة لقاء»، «شرشورة»، «دينمو السوق»، و«وهم». وقد امتازت غالبية هذه الأعمال ببناء سردي واضح، وأفكار متماسكة وعميقة، إلى جانب جودة إخراجية وإتقان بصري، عكس نضجًا ملحوظًا في أدوات صنّاعها ووعيًا فنّيًا في تقديم الحكاية السينمائية بصيغة قصيرة ومكثفة.

فيلم (ميرا ميرا ميرا- 2024)

«ميرا، ميرا، ميرا» لـ خالد زيدان

يُعد فيلم «ميرا.. ميرا.. ميرا»، من إخراج خالد زيدان وكتابة عبد العزيز العيسى، والمقتبس عن قصة قصيرة للعيسى نفسه، افتتاحًا لافتًا لمجموعة العروض القصيرة في مهرجان الأفلام السعودية. يطرح الفيلم فكرة جذابة وغرائبية، تدور حول رجل يُصاب بحالة غامضة تجعله عاجزًا عن الكلام، ولا ينطق سوى بكلمة واحدة: «ميرا». ومن خلال هذه المفارقة، يخوض رحلة بحث يائسة عن علاج، وسط تحولات تشهدها مدينة جدة مع إزالة الأحياء العشوائية.

سبق للفيلم أن عُرض في المسابقة الرسمية لمهرجان البحر الأحمر السينمائي 2024، ويتميّز برؤيته العميقة والرمزية، إذ لا يتعامل مع «ميرا» كعرض مرضي فقط، بل كمجاز عن الاحتياج غير المفهوم، وعن صدمة التحوّل التي لا نعيها إلا حين نصطدم بأنفسنا. وفي مسار هذا الاضطراب، يستعرض الفيلم سُبل الهروب من الذات، سواء عبر التفسير الطبي أو الغيبي، ليعود بنا في النهاية إلى مواجهة الواقع وجهًا لوجه.

 ورغم أن العمل لا يقدم خلفية تفصيلية لشخصية «إسماعيل حسن»، إلا أن تعامله مع محيطه يكشف الكثير عنها: من العلاقة الهشة مع الزوجة، إلى تواصله مع الجار المقعد، وأخيرًا الرحلة المشتركة مع شقيقه (خالد يسلم) للبحث عن علاج. هذه العلاقات تُبنى بعناية ضمن سرد محكم لم يُخلّ برسالة الفيلم أو عمقه. ما يعزز هذا البناء هو إخراج ناضج يتحكم بالإيقاع بذكاء، ويصوغ الحالة الدرامية بوعي عالٍ. ويأتي المشهد الختامي كذروة فنية وفكرية للفيلم، حيث لا يقدّم إجابة مباشرة، بل يترك المتلقي معلّقًا في مساحة التأمل والتساؤل: هل فهم البطل ما يعنيه أن تختزل كل مشاعرك بكلمة واحدة ترددها دون وعي؟ وهل توصّل فعلًا إلى جوهر أزمته؟

خمسة أفلام قصيرة من مهرجان أفلام السعودية: قراءة نقدية (2)

«محض لقاء» لـ محسن أحمد

يقول نزار قباني في قصيدته المشهورة «الجريدة»:

ودون أن يراني

ويعرف الشوق الذي اعتراني..

تناول المعطف من أمامي

وغاب في الزحام

مخلفاً وراءه.. الجريدة

وحيدةً

مثلي أنا.. وحيدة

في واحدة من التجارب اللافتة في المجموعة، يقدّم المخرج والمؤلف محسن أحمد فيلمه المستلهم من قصيدة، مستفيدًا من طبيعتها الجمالية وأساليبها التعبيرية، لا من مضمونها المباشر. وبالرغم من أن قصيدة نزار قباني «الجريدة» لا علاقة لها مباشرةً بالفيلم، إلا أن استدعاؤها هنا يبدو مبررًا كنوع من المقارنة الشعورية، حيث تتقاطع القصيدة مع روح الفيلم في الشعور بالوحدة، والانتظار، والخيبة العابرة في الزحام.

يفتتح الفيلم برقصة امرأة تُؤدى بحرية، كمدخل بصري يعبّر عن التوق والانفلات، ثم ينتقل بسلاسة بين زمنين مختلفين، يُميَّز أحدهما بالألوان الطبيعية، بينما يُعبَّر عن الآخر بلون بصري مغاير، في إشارة إلى تغير الحالة النفسية أو البعد الزمني. في أحد هذه الأزمنة، تدخل امرأة إلى مقهى، تلتقي نظراتها بنظرات رجل جالس على الطاولة المقابلة. تتولد الرغبة من الصمت، ويقرر الرجل التقدّم للجلوس معها، لكن صديقتها تصل فجأة وتجلس معها، فيتراجع ويغادر بخيبة. في المقابل، تبدأ المرأة في تخيّل سيناريوهات أخرى للّقاء الضائع، حيث يُعاد المشهد بمونتاج متنوع يعيد ترتيب الحدث بأكثر من صورة، وكأنها تحاول مقاومة الواقع من خلال خيالها.

يعتمد الفيلم على السرد الصامت والموسيقى، متخليًا عن الحوار لصالح الصورة والإيقاع، إلى أن ينتهي بصوت يُلقي قصيدة تعبّر عن الزمن والأبدية، فتمنح النهاية بُعدًا تأمليًا وشعوريًا مفتوحًا.

محسن أحمد يقدّم تجربة بصرية واعدة، تقترب من القصيدة السينمائية، من حيث الشكل والإيقاع، عبر استغنائه عن اللغة المنطوقة، واعتماده على الصورة في بناء الحالة. وقد استطاع من خلال هذه المقاربة أن يختزل الكثير من المعاني والانفعالات بلغة مرئية مكثّفة، وإن كان من الممكن أن تكتسب مزيدًا من القوة لو تمسكت أكثر بالتكثيف والاقتصاد البصري، وابتعدت عن الشرح والتفسير في المراحل الأخيرة.

خمسة أفلام قصيرة من مهرجان أفلام السعودية: قراءة نقدية (2)

«شرشورة» لـ أحمد النصر

في أولى تجاربه الإخراجية، يقدّم أحمد النصر في فيلم «شرشورة»، تجربة تتقاطع رمزيًا مع أسطورة طائر الفينيق، الذي يولد من الرماد بعد أن يحترق، حاملًا معه دلالات البعث والتجدد والانعتاق. هذا التقاطع ليس إسقاطًا مباشرًا، بل هو عدسة يمكن من خلالها تأمل رحلة البطل «موسى» (محمد عبدالخالق)، التي تبدأ من الموت وتتشكل في الحياة، ثم تعود لتجاور الموت من جديد. يفتتح الفيلم بحادثة صادمة: امرأة حامل تُقدِم على حرق خيمة زفاف تحوي عددًا من النساء، من بينهن العروسة، التي تفارق الحياة متأثرة بالحريق. إلا أن الفيلم لا يقف طويلًا عند هذا الحدث، بل يستخدمه كنقطة انطلاق، كأن الحريق لم يكن سوى شرارة البداية لحكاية أكبر. المرأة تضع مولودها على جثة الزوجة المحترقة، ومنها يُستهل مسار موسى، الذي ينشأ لاحقًا في كنف رجل يقود عربة نقل الموتى، المسماة «الشرشورة»، دون أن يعلم بحقيقته في البداية. فقط عبر أحاديث جانبية مبعثرة، يبدأ منها الغموض بالتكشّف بشكل جلي فيما بعد.

مع مرور الوقت، يضطر موسى لقيادة «الشرشورة»، بدلاً من والده المريض، فيواجه رعبه الأول من الموت والجثث، لكنه يتجاوز ذلك تدريجيًا، مكتشفًا في المقابل أنه يمتلك قدرة غريبة: الحديث مع الموتى. وهنا تتكشّف أمامه، ومعنا كمشاهدين، سلسلة من الحقائق، التي تعيد ترتيب عالمه، وتمنحه وعيًا جديدًا لذاته، لماهيته، ولمصيره.

 ربط هذه الرحلة بأسطورة طائر الفينيق يبدو ممكنًا، فموسى يولد من رماد، حرفيًا، ويتشكّل من خلال تجربة متواصلة مع الموت، ويبدو أن عليه أن يحمل هذا الثقل الوجودي مثلما حمل سيزيف صخرته. ومع أن الفيلم لا يبدو مشغولًا مباشرة بهذه الرموز، إلا أنه لا يمنع المشاهد من تأملها والانغماس فيها.

مع ذلك، فإن ما يُضعف من أثر الرمزية هو ما يمكن تسميته «بالصدفة المنظمة»، ذلك الشعور بأن يد الصانع حاضرة بشكل مبالغ فيه في كل لحظة من لحظات الفيلم. فكل شيء مرسوم بدقة متناهية: من لحظة ولادة موسى على الجثة، إلى تربيته في كنف سائق الشرشورة، إلى اكتشافه لقدرته الخارقة، وحتى وصوله للحقيقة الكبرى في النهاية. 

هذه السلاسة الشديدة في رسم الخطّ الدرامي تجعل من رحلة موسى رحلة ذهنية أكثر من كونها شعورية، وتُضعف تأثير الفيلم على المستوى العاطفي، لأننا نُدرك منذ البداية أن كل شيء مُسيّر ومُخطط له. ومع ذلك، فإن ما يشفع للتجربة هو صدقها. 

«شرشورة» لا تغرق في الكآبة، رغم اقترابها المستمر من الموت. تروي حكايتها دون أن تتثاقل، وتخلق عالمًا صادقًا في تعامله مع الفقد والبعث، وربما هذا ما يجعلها تجربة تستحق التقدير، لأنها تضعنا وجهًا لوجه مع سؤال الوجود، دون أن تزيف الألم أو تجمّله.  

«دينمو السوق» لـ علي العبدالله

«دينمو السوق» لـ علي العبدالله

في فيلمه الوثائقي «دينمو السوق»، يواصل المخرج علي العبدالله اشتغاله على شخصيات من واقع الحياة اليومية، بعد أن قدّم أعمالًا وثائقية سابقة ضمن مهرجان الأفلام السعودية. هذه المرة، يسلّط الضوء على شخصية «بو وحيد»، الرجل المسنّ ذو الروح الطفولية، والنشاط الدائم، والطاقة التي لا تنضب. بو وحيد يعمل «دلالًا» في سوق الحراج، مناديًا على قطع الخردة والمستعملات، ناشرًا في المكان بهجة لا تخفى على من حوله.

 تأتي تسمية «دينمو السوق» كدلالة ذكية ومباشرة على هذه الشخصية النابضة بالحياة، التي لا تعرف السكون، وكأنها طاقة كهربائية لا تهدأ. وهذا ما يلتقطه الفيلم بحس بصري عالٍ، من خلال الكاميرا المتنقلة التي تلاحق بو وحيد من لحظة بدء يومه حتى غروب الشمس، في إيقاع سريع لا يتيح لحظة راحة، لكنه لا يفقدنا التواصل مع الشخصية، بل يزيد من اقترابنا منها، لنشاركها تفاصيلها، وتعليقاتها، ومزاجها، بل ونغوص في عالمها المتشابك. 

اللافت في الفيلم أنه لا يكتفي بتوثيق الشخصية، بل يصنع من خلال حضور بو وحيد المتفرد حالة كوميدية أصيلة، استطاعت أن تملأ القاعة ضحكًا طوال مدة الفيلم، التي لم تتجاوز 12 دقيقة. تعليقات بو وحيد اللاذعة، وطريقته في الحديث، وسرعة بديهته، بالإضافة إلى بساطة المكان وصراعاته اليومية، كل ذلك صاغ لوحة صادقة عن سوق الحراج، دون تزييف أو افتعال. وعلى الرغم من أن الفيلم يروي يومًا واحدًا فقط من حياة بو وحيد، إلا أنه كان كافيًا ليُشكّل صورة متكاملة عنه، وعن طبيعة المكان وروحه. لقد نجح الفيلم في جعله «دينمو» ليس فقط للسوق، بل للمشهد الوثائقي الذي قُدم في القاعة. تجربة قصيرة زمنيًا، لكنها كبيرة في أثرها، جعلت من الضحك والدفء الإنساني أداة لفهم واقع شعبي يعج بالحياة والتفاصيل.

«وهم» لـ عيسى الصبحي 

يُقدِّم الفيلم العماني «وهم» للمخرج عيسى الصبحي تجربة سينمائية متفردة، وُصفت في منشور المهرجان بأنها «تجريبية»، رغم اختلافي مع هذا التصنيف. فالفيلم، برغم أسلوبه المختلف، لا يستند إلى خصائص «الفيلم التجريبي» بالشكل المعروف، بقدر ما يعتمد على الرمز والدلالة في تقديم فكرته، ويقترب أكثر من التعبير الرمزي التأملي منه من التجريب الفني البحت. تقوم بنية الفيلم على فكرتين أو حالتين متجاورتين، تربط بينهما خيوط دقيقة من الرغبة في الانعتاق والتخلّص من عبء الحياة المدنية وضوضائها، مقابل اللجوء إلى الطبيعة كملاذ للهدوء والصفاء الداخلي. 

في الحالة الأولى، نتابع طبيبًا يعاني من اكتئاب وانسحاب من المجتمع، لينتقل بعدها إلى قرية جبلية هادئة، حيث تستعيد روحه حيويتها ويعود إلى الحياة والبسمة، عبر بساطة العيش واتساع الأفق الطبيعي.

أما في الحالة الثانية، التي تدخل الفيلم إلى بعد رمزي أكثر عمقًا، يتعرّف الطبيب على شخص محلي يؤمن بخرافة محلية مفادها أن من يمر من باب صدئ موضوع في الطريق، يموت بعد فترة. في لحظة تمرّد، يقوم الطبيب بإسقاط الباب أرضًا، ثم يغتسل في النهر، في مشهد يبدو طقسيًا، كمحاولة تطهّر من الخرافة والانفكاك عنها. لكن المفارقة التي تنهي الفيلم تعيدنا إلى التساؤل من جديد، حين يظهر باب آخر فوق قمة جبلية، يقترب الطبيب منه ويدخله، مغلقًا إياه خلفه. 

هذه النهاية تُشير بذكاء إلى أن الوهم لا يُهزم كليًا، بل يعاود التشكل في صور جديدة، وأن الهروب من الخرافة قد ينتهي بباب آخر يقودنا إليها من زاوية مختلفة. ورغم ما قد يبدو من تباعد سردي بين الفكرتين، بل وكأننا أمام فيلمين مختلفين، إلا أن الترابط الرمزي بين الحالتين يمنح العمل وحدته الداخلية. فالبطل ينتقل من شخص يُقاوم لاكتشاف ذاته، إلى شخصية تلامس دورًا شبه «نبوي»، في سعيها لكسر أصنام الفكر وتحرير العقل من القيود. هذا التحوّل وإن بدا مفاجئًا، إلا أن قوة الرمزية والفكرة تساعدان في تجاوز هذا الانقطاع السردي، وتفتحان المجال أمام المشاهد لتكوين تصوّرات وتفسيرات متعددة، تتجاوز الحكاية نحو تأملات أعمق عن الخلاص والوهم والبحث المستمر عن الحرية.

اقرأ أيضا: ستة أفلام روائية من مهرجان أفلام السعودية 11: قراءة نقدية

شارك هذا المنشور

أضف تعليق