لا شك أن واحد من بين عدد لا نهائي من التحديات التي يواجهها أي مخرج مُقبل على إخراج أو تنفيذ فيلمه هو الإجابة عن سؤال كيف سيروي قصته السينمائية بصريًا؟ وتتضاعف صعوبة الإجابة على هذا السؤال إذا كانت القصة أو على الأقل تيمة فيلمه قد قُدمت من قبل، مما يُزيد من صعوبة مهمته إذ تصبح اللغة السينمائية هي فرصته الوحيدة لتحقيق الفرادة والتميز لعمله خاصة إن كان هو عمله الأول، وهو ما انتبهت إليه المخرجة الكندية كورية الأصل سيلين سونج في فيلمها الروائي الطويل الأول “حيوات سابقة” Past lives.
نجحت سونج ومع بداية المشهد الافتتاحي للفيلم أن تُشعر المُشاهد أنه أمام فيلم مختلف، ربما ليس على صعيد الفكرة والحكاية؛ ولكن على صعيد طريقة حكيها. إذ استخدمت سونج مفردات اللغة السينمائية بشقيها البصري والسردي بمنتهى الذكاء حتى أنها في بعض الأحيان وظفت بعض تلك المفردات عكس التوظيف الشائع لها، فقط لكي تؤدي إلى نتائج مختلفة على الصعيد الدرامي للحكاية كما يظهر في استخدامها للحوارات المطولة بين شخصياتها.
فالحوار السينمائي عادة ما يستخدمه الكتاب والمخرجون كأحد أدوات تعبير الشخصيات عن نفسها ومشاعرها بشكل مباشر، إلا أن سونج استخدمته بطريقة مغايرة، إذ جعلت الحوار يقوم بوظائف مختلفة منها فضح مشاعر الشخصيات وبيان التضاد بين المنطوق والمرئي، فما تقوله الصورة ينفيه الحوار والعكس صحيح، مُستغلة لحظات الصمت ما بين الجمل الحوارية أو في بداية المشاهد وختامها لإعطاء المُشاهد الوقت اللازم لتأمل ذلك التضاد الواضح، وترسيخ تلك الفكرة غير المريحة في ذهنه أثناء مشاهدته الفيلم، وهو الأمر الذي ينطبق على معظم المشاهد التي تجمع ما بين بطلي العمل الرئيسين نورا وهاو سانج، فحتى في تلك المشاهد التي يتفقان فيها شفاهة على الافتراق؛ يشعر المشاهد أنهما غير متفقين، وأن كل منهما يفعل هذا رغمًا عنه. وفي مشاهد اللقاء والوداع التي يتعامل كل منهما فيها بطبيعية واعتيادية شديدة لا يمكن للمُشاهد إلا أن يشعر بمدى معاناة هاتين الشخصيتين وبأن ما يدور داخلهما وما يشعران به هو العكس تمامًا من ذلك البرود الظاهر منهما في حواراتهما وتعاملهما سويًا.
سؤال الشكل
في لقطة افتتاحية تجمع بين تكوين بصري بسيط إلا أنه عميق الدلالة، لم تؤسس سونج لطبيعة العلاقات بين شخصيات فيلمها فقط، ولكن أيضًا لطبيعة الفيلم ككل ولمزاجه العام، فلا شك أن للمشهد الافتتاحي أهمية بالغة في تفسير الفيلم والتعاطي معه إذ يُعتبر بمثابة “عقد المشاهدة” الذي يُبرمه صانع الفيلم مع المُشاهد، وكلما وضُحت بنود هذا العقد – أي العناصر الفنية والسينمائية المكونة للمشهد الافتتاحي- كلما ازدادت قوة العلاقة بين الفيلم ومُشاهده، وأصبح تطورها على مدار أحداث الفيلم أمرًا سهلًا.
في اللقطة الافتتاحية تظهر الشخصيات الرئيسية أبطال حكاية الفيلم: نورا (جريتا لي)، الفتاة التي غادرت كوريا الجنوبية رفقة عائلتها إلى كندا بحثًا عن مستقبل أفضل، وزوجها آرثر (جون ماجرو) الذي تعرفت إليه البطلة وتزوجا بعد انتقالها لنيويورك، وأخيرا هاو سانج (تيو يو) صديق طفولة نورا الذي يبحث عنها قرابة العشرين عامًا إلى أن يجدها ثم تفرقهما الأيام مرة أخرى ليتقابلا أخيرًا حينما قرر قضاء عطلته بمدينة نيويورك ليقضي معها بعض الوقت.
يجلس الثلاثة في مكان أشبه بالبار وفي تكوين أقرب ما يكون للتكوين المثلث، تحتل فيه نورا قمة المثلث وتتوسط الرجلين بينما يُمثل كل من هاو سانج وآرثر ضلعاه، ويبدو منذ اللحظة الأولى أن العلاقة التي تجمع الثلاثة عبارة عن مثلث حب تقليدي يجمع عاشقين وطرف ثالث دخيل على تلك العلاقة، ليتأكد ذلك الإحساس شيئًا فشيئًا بداية من نظراتهم لبعضهم البعض والطريقة التي ينظر بها آرثر تحديدًا لنورا وسانج وهو يشاهدهما يتحدثان؛ لا سيما أنه ليس جزءًا من حديثهما بل من الواضح جدًا أنه خارج حيز اهتمامهما أصلًا، ثم من الطريقة التي تنظر بها نورا لسانج والتي ينظر بها هو الآخر لها إلى أن نستمع أخيرًا لصوتي سيدة ورجل يجلسان في نفس البار أمامهم يتحدثان عنهم ويحاولان أن يخمنا طبيعة العلاقات التي تجمعهم ببعضهم، فتسأل السيدة الرجل الذي تحادثه عن رأيه في طبيعة العلاقة التي تجمع الثلاثة ولكنه يجيب بأنه لا يعرف فتقول “نعم هذا سؤال صعب”.
من خلال ذلك المشهد الافتتاحي البسيط، أسست المخرجة سيلين سونج وبذكاء شديد لأسلوبها السينمائي أو لمفردات اللغة السينمائية التي ستستخدمها في فيلمها على الصعيدين السردي والبصري، فمن خلال تكوين بصري واضح قدمت شخصيات حكايتها للمُشاهد ومن خلال حيلة سردية ذكية استطاعت أن تجذب انتباهه، بل أن تبدأ معه فيلمها بلعبة تحثه فيها على محاولة الوصول لإجابات على الأسئلة التي طُرحت على لسان السيدة والرجل الذين يشاهداهما.
اقتصاد بصري
جعلت سونج من هذا الاقتصاد منهاجًا سرديًا وبصريًا لها في كل مراحل الحكاية، على سبيل المثال في مشهد واحد مكون من لقطتين متوسطتين نعرف أن “هاو سانج” قد قابل فتاة وارتبط بها بعد أن افترق عن نورا، لقطتان خاليتان من أي حوار أو حكي، إلا من تعليق صوتي لنورا تشرح فيه مفهوم المصطلح الكوري “إين يون” بمعنى القدر والذي يخص بالتحديد العلاقات بين البشر، أي أن الثنائي الذين يجمعهما القدر يكونا قد تقابلا بالفعل في حيوات سابقة، وباستخدام المونتاج الموازي نشاهد بداية علاقة نورا وآرثر الذي يسألها إن كانت تعتقد أنهما قد تقابلا في حيوات سابقة فترفض الفكرة، ثم نعود ونراها تقبلها في تكملة مشهد البار في آخر الفيلم ولكن هذه المرة مع سانج، نراها تسأله نفس السؤال بل تقترح معه عدد من الفرضيات للحيوات التي تقابلا فيها، ففي البداية رفضت عكس ما تؤمن به لمجرد أنه عكس مشاعرها، وفي النهاية أقرت بما رفضته سابقًا لمجرد أن هذا هو حقيقة شعورها.
في مشهد لاحق في المطار ومن خلال عدد محدود من الأسئلة نعرف بمرور اثنتا عشرة عامًا على فراق نورا وسونج ها كما نعرف بزواجها من أرثر ومن ثم حصولها على الجنسية الأمريكية، حيلة سردية ذكية أخرى وعدد محدود من الأسئلة واجابات مقتضبة اختصرت مشاهد ومشاهد من الحوار والحكي.
سؤال المضمون
ما سبق كان حديثًا عن الشكل أو كيفية تقديم الحكاية سينمائيًا ولكن ماذا عن المضمون أو الحكاية نفسها؟
سبق وذكرنا في السطور السابقة أن الحكاية هي حكاية تقليدية بعض الشيء عن مثلث حب، عاشقان ودخيل، قصة قدُمت مئات المرات على الشاشات الصغيرة والكبيرة، فما الجديد الذي أتت به سيلين سونج؟
في وجهة نظري لم تأت سونج بجديد على صعيد المضمون، فقد تمحورت حكايتها – إلى جانب مثلث الحب- حول طرح السؤال الأزلي لمعظم البشر في الحياة: ماذا لو؟ بدون محاولة الإجابة عليه، ماذا لو عاد بي الزمن؛ هل كنت أختار نفس الاختيار أم أختار اختيارًا آخر؟ هل أختار نفس مجال عملي أم أعمل بوظيفة أخرى؟ هل أرتبط بنفس الشخص أم ارتبط بشخص آخر؟ هل أرحل، هل أبقى؟… عدد لا نهائي من الاختيارات والقرارات التي يتخذها الإنسان بشكل يومي، فتؤثر على يومه وحاضره ومستقبله.
بالعودة للماضي القريب نجد أن نفس تلك التساؤلات طرحها مخرجون آخرون من قبل. على سبيل المثال طرح المخرج الأمريكي داميان شازيل نفس هذا التساؤل من خلال فيلمه الأشهر “لا لا لاند” إنتاج عام 2016 ولكن في إطار فيلم موسيقي، بينما طرحه النرويجي يواكيم تراير من خلال فيلمه “أسوأ شخص في العالم” إنتاج عام 2021 ولكن من خلال قالب درامي كوميدي، بينما طرحته سونج في قالب درامي رومانسي. كل فيلم من الثلاثة له منهجه ولغته السينمائية المختلفة. جميعهم يتفق في المضمون ولكنهم يختلفون تمام الاختلاف على صعيد الشكل، وهو بالضبط ما جعل كل منهم على قدر عالي من الفرادة والتميز.
كما تتفق الأفلام الثلاثة في أمر آخر أجده غاية في الأهمية، وهو قرارات صانعيها فيما يخص نهايات الحكايات، والتي تعبر عن موقفهم من العالم وفهمهم الواعي للواقع القاسي الذي يعيشه البشر، فلم ينتصر أي منهم للنهاية الكلاسيكية السعيدة التي رُسخت في أذهان المشاهدين على مدار عقود، ولكنهم انحازوا لواقع عالم اليوم المُتسارع، اللاهث، وسماواته المفتوحة على مصاريعها.
في بداية “حيوات سابقة” ترِد على لسان والدة نورا عبارة ترُد بها على والدة هاو سانج حينما سألتها عن سبب اتخاذها وزوجها قرار الهجرة إلى كندا، فقالت “ما ضحى المرء بشيء إلا وعُوض خيرًا منه” وهو بالضبط ما تنفيه نهاية الفيلم، فتضحية نورا بوطنها وحبها وحبيبها لم تضمن لها السعادة ولم تحقق لها حتى النجاح المهني التي هاجرت عائلتها من أجله، ثم هاجرت هي لأجله ثانية فيما بعد، فلم تصبح أشهر كاتبة مسرحية، ولم تحصل لا على نوبل ولا على البوليتزر ولكنها قابلت آرثر وتزوجته. ومن يعلم فربما تحقق أحلامها يومًا ما، فلا أحد يعلم ما يخبئ له القدر أو ما تخفي له الأيام، ولكن اليقين الحقيقي أننا لا نكف أبدًا عن طرح هذا السؤال.
اقرأ أيضا: “خيال أمريكي”… عفوًا.. فيلمك ليس أسود بالقدر الكافي