فاصلة

مراجعات

«حدث ذات مرة في أمريكا».. رحلة النسيان والموت

Reading Time: 6 minutes

في بداية السبعينيات، أراد المخرج الإيطالي سيرجيو ليوني (1929 – 1989) اقتباس رواية «ذا هودز» (1952 – The Hoods) لهاري غراي وتحويلها إلى فيلم سينمائي.

الرواية مثلت ما يشبه سيرة لرجل عصابات غير معروف، أنشأ إمبراطورية كاملة في عصر «قانون الحظر» (قانون فيدرالي يحظر بيع وتصنيع ونقل المشروبات الروحية في الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة الواقعة بين 1920 و1933). ظل ليوني، صانع الأفلام الملحمية عن الغرب الأمريكي، مهووسًا بقصة هذا الرجل لعشر سنوات، كان يتحين خلالها فرصة تصويرها، حتى أنّه رفض بسببها فرصة إخراج فيلم «العرّاب» The god father (1972). 

حدث ذات مرة في أمريكا

 في العام 1975، بدأ التصوير. ليوني على كرسي الإخراج، والإنتاج لألبيرتو غريمالدي، مع جيرار دوبارديو وريتشارد دريفوس في الأدوار الرئيسية، والعديد من النجوم المتعاونين، بمن في ذلك جيمس كاغني وغلين فورد، وجان غابين (أسطورة أفلام العصابات الفرنسية)، وحتى كلينت إيستوود، الذي لم تكن علاقته جيدة بالمخرج وقتها – على الرغم من انه هو من قدمه وأسس لوجوده عبر أفلامه التي أخرجها عن الغرب الأمريكي في الستينيات، (تصالحا في نهاية الثمانينيات، قبل وقت قصير من وفاة ليوني، كما لو كانا يصفيان حسابًا معلقًا). ذهب كل هذا سدى، لأن غريمالدي بدأ يعاني الصداع بسبب فيديريكو فلليني وفيلمه الباذخ «فلليني كازانوفا» (1976، Fellini’s Casanova) حتى أنه أوقف إنتاجه قبل أن يجبره حكم قضائي على استكماله، وهناك شبب آخر أهم، وهو أن ليوني لم يجد تلك المسودة الأولى للسيناريو مثيرة للاهتمام.

 من أجل إعادة الكتابة، جمع سيرجيو ليوني مجموعة استثنائية من كتاب السيناريو الإيطاليين، منهم كيم أركالي (المتعاون الدائم مع برناردو برتولوتشي)، إنريكو ميديولي (كاتب سبع سيناريوهات للوتشيانو فيسكونتي)، وكان على ليوني أن ينتظر حتى عام 1982 لتحقيق حلمه، ليُعرض فيلم «حدث ذات مرة في أمريكا» (Once Upon a Time in America) للمرة الأولى عام 1984 في «مهرجان كان».

 لم يكن ليوني يريد أن يصنع فيلم «عصابات»، بل أراد أن يقدم رؤيته الشخصية لهذا النوع السينمائي، وجزء من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.

في قلب القصة، توجد ذكريات نودلز (روبرت دي نيرو) التي مزقتها آثار الأفيون، مشبّعة بالحنين، ومن المستحيل إعادة سردها وفق ترتيب زمني. لكن «حدث ذات مرة في أمريكا»، ليس سيرة ذاتية، بل ذكرى حياة رجل ظلّ على مدى أكثر من ثلاثين عامًا، يفحص ويعيد فحص وجوده بأكمله، وتفاصيله وأحداثه المحددة، ويتتبع – بقلق شديد- الكلمات والإيماءات، واصداء ماضيه.

حدث ذات مرة في أمريكا Once Upon a Time in America 1982

فيلم ليوني ليس فيلم «عصابات» أو «مافيا» بالمعنى الدقيق للكلمة، بل هو فيلم عن الصداقة والولاء على خلفية حياة مجموعة خمسة فتيان يهود (في البداية على الأقل) عرفوا أنهم سيعيشون ويموتون معًا على الجانب الآخر من القانون. إنّها في الأساس قصة جميلة ومأساوية لصداقة نودلز (دي نيرو) وماكس (جيمس وودز)، على مدار ما يقرب 50 عامًا، وقصة الحب المستحيل بين نودلز وديبورا (إليزابيت ماكغفرن). وكما في أفلامه السابقة، يرث ليوني الصمت والأزمنة شبه الأبدية من السينما اليابانية، فيتمكّن من تعليق الحدث في زمن غير دقيق ومتجمد، كما لو كان خرافة أو أسطورة، تفوح منها رائحة الموت والساعة التي تتوقف. مرور الزمن هذا ينعكس على البناء السردي للفيلم الذي نتابع في نسخته اتي سميت بالنسخة الأوروبية ثلاث فترات مختلفة في حياة نودلز، فنراه فتى يافعًا في أواخر العقد الأول من القرن العشرين خلال مراهقته في الحي اليهودي في نيويورك، ثم رجلًا ناضجًا في أوائل الثلاثينيات خلال ذروة عمله الاجرامي، ثم رجل عجوزًا في الستينيات، عندما يعود إلى نيويورك.

حدث ذات مرة في أمريكا Once Upon a Time in America 1982

 عندما انتهى ليوني من تصوير «حدث ذات مرة في أمريكا»، كان لديه ما يقرب 8 إلى 10 ساعات قابلة للعرض. فقرر أن يصدر الفيلم على ثلاثة أجزاء مدة كل منها ثلاث ساعات تقريبًا. لكن الفكرة رُفضت واضطر لصنع نسخة واحدة تبلغ مدتها أربع ساعات عرضت في «مهرجان كان» واستقبلت بحفاوة كبيرة. إلا أن الفيلم كان له مصير مختلف على الجانب الآخر من العالم. في أمريكا الشمالية: ذبح الموزعون الفيلم وحددوا مدته بـ 139 دقيقة، وما زاد الطين بلة أنّهم غيّروا السرد من خلال ترتيب الأحداث ترتيبًا زمنيًا تصاعديًا. قال ليوني عن هذه النسخة: «لقد عملت كثيرًا لصنع فيلم جيد، وقد نزعوا عنه كل جوهره». تخيل أنّ العرض الأول في الولايات المتحدة، كان سيء التنظيم إلى درجة أنهم نسوا إضافة موسيقى إنيو موريكوني! كان لدى المنتجين المهارة اللازمة لتحويل «حدث ذات مرة في أمريكا» إلى كارثة في شباك التذاكر، لكن ليوني لا يزال يتمتع بالعبقرية لجعل العمل في ذاكرة الفن السابع بعد أربعين عامًا.

حدث ذات مرة في أمريكا

السيناريو كان نصًا معقدًا، كتبه ليوني مع خمسة متعاونين مختلفين، مع قفزات في الزمن ذهابًا وإيابًا لنرى ذكريات الماضي وقفزات إلى المستقبل، وخيط روائي كان من شأنه أن يربك أي شخص إلا ليوني، المتخصص في إخبارنا عن مرور الزمن. جسّد سيرجيو ليوني تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مثالي من خلال فيلمين: «حدث ذات مرة في الغرب» (1968 – Once Upon a Time in The West) و«حدث ذات مرة في أمريكا». فيلمان يحملان عنوانين متطابقين باستثناء الكلمة الأخيرة: «الغرب» و«أمريكا». قصتان خياليتان لتصوير منطقة بشكل مثالي من خلال نوعين سينمائيين أمريكيين متألقين: فيلم «الغرب الشرس» (Western) و«العصابات» (Gangster). حتى ذلك الحين، لم تكن المواضيع الاجتماعية جزءًا من طموح ليوني السينمائي، ركزت أفلامه بشكل كبير على المواجهات بين رجل وآخر في الغرب القديم، لا سينما في ثلاثية الدولارات (Dollars Trillogy)، التي تضمنت، «حفنة من الدولارات» (1964، A Fistful of Dollars)، «من أجل مزيد من الدولارات» (1965 – For a Few Dollars More)، «الطيب والسيء والقبيح» (1966 – The Good, The Bad and the Ugly).

 بعد هذه النجاحات المبكرة، اتسعت رؤية ليوني لتشمل البعد الاجتماعي لأمريكا. على الرغم من أن أحدهما لم يكن مشهورًا مثل الاثنين الآخرين، إلا أن المخرج صور ثلاثة أفلام ستُعرف فيما بعد باسم «ثلاثية حدث ذات مرة»، وستشكل فيما بينها نظرة عميقة على الديناميكيات الاجتماعية التي أثرت على المجتمع الحديث الأمريكي:

 1- «حدث ذات مرة في الغرب» Once upon a time in the west، عبارة عن نظرة ضمنية على الطريقة التي أدى بها انتشار التصنيع – ترمز إليه السكك الحديدية- وكيف أدى إلى تغيير نظرة الشركات إلى الغرب الأمريكي، الذي كان يتمحور إلى حد كبير حول الفرد.

2- «داك، يو ساكر!» (1971، Duck, You Sucker!)، أو «حدث ذات مرة… الثورة»، يركز على الأسس الفكرية التي تدعم النبضات الثورية الحديثة.

3- «حدث ذات مرة في أمريكا»، هو تحليل لصعود الجريمة المنظمة في أمريكا وتحولها إلى مؤسسة Syndicate.

 في «حدث ذات مرة في الغرب»، هناك تصور مفاده أنّ النزعة الفردية الوحشية، والهمجية في كثير من الأحيان، التي ميزت الغرب الأمريكي القديم، تفسح المجال لشكل أكثر تحضرًا وتنظيمًا للتفاعل الاجتماعي. وقد تم ذلك من خلال امتداد خطوط سكك الحديد باتجاه الغرب، مما سهل إدخال وربط الطرق ببعضها البعض، مما أدى إلى تفاعل أكبر بين الناس. وهكذا، كان توسيع سكك الحديد يعني تراجع الغرب القديم، وبمعنى آخر تحول وتطور المجتمع الأمريكي، بشكل إيجابي. في «ذات مرة في أمريكا»، هناك إشارة إلى أن مفهوم الجريمة تم تنظيمه تدريجيًا، وأنه يرتبط ارتباطًا مباشرًا بأشكال الاتحادات في المجتمع الأمريكي، ومن المفارقات أن هذا الاتحاد كان ناجمًا عن إلغاء «قانون الحظر» في عام 1933، مما دفع بعض القادة المجرمين إلى توسيع وتنظيم العمل الاجرامي. والحقيقة أن الولاء والأخوة قد انخفضا بسبب عمليات الانضمام إلى «الجريمة المنظمة»، التي غيّرت المجتمع الأمريكي بطريقة سلبية.

حدث ذات مرة في أمريكا Once Upon a Time in America 1982

في «حدث ذات مرة في أمريكا»، فيلم ليوني الأخير، تجتمع العصابات والواقعية والإثارة والميلودراما، في رحلة نحو النسيان والموت. نكتشف ببطء – ضمن هذه العظمة السينمائية- يأس ومعاناة نودلز، ذلك الشخص المنفي الذي لم يعد يستطع العودة إلى وطنه، لأن الوطن موجود فقط في ذاكرته، في مكان يتم تأجيل كل شيء فيه، ويظل كل شيء غير قابل للتغيير، في أمريكا التي لم تعد البلد الذي تتحقق فيه الأحلام. من خلال مراقبة الأحداث والزمن وتطور المجتمع الأمريكي وفحص شخصياته؛ يصور ليوني مرة أخيرة الأساطير البشرية، بكل غموض وجودها وموتها. إن ابتسامة دي نيرو المنتشية التي لا تُنسى في خاتمة الفيلم هي خيانة للتقاليد السينمائية، لكنها أيضًا نتيجة منطقية لفيلم اعتبره ليوني «نوعًا من رقصة الموت عند ولادة أمة، حيث كل الشخصيات تحدق في وجه الموت». وجه دي نيرو المبتسم هو المشهد الأخير في سينما ليوني. توفى سيرجيو في عام 1989، بينما كان في المنزل يشاهد فيلم روبرت وايز «أريد أن أعيش» (1958 – I Want to Live).

اقرأ ايضا: «سيناريو حلم»: هل تخترق التكنولوجيا أحلامنا يوماً؟

شارك هذا المنشور

أضف تعليق