فاصلة

مهرجانات

جولة شخصية وعامة في مهرجانات العام 2024

Reading Time: 6 minutes

«ما هو مهرجانك المفضّل؟»، سؤال طُرح عليّ مرارًا دون أن أجد ردًا مرضيًا. في السنوات الأخيرة، أصبحتُ أختار البندقية للفلفة المسألة، ذلك أن هذا السؤال، في النهاية، لا يختلف كثيرًا عن سؤال «من هو مخرجك المفضّل؟»، مع الفرق أن المهرجانات تُعقد في أماكن، وثمّة ألفة تولد بيننا وبين هذه الأماكن، الأمر الذي لا يتحقق مثله مع السينمائيين مهما تعززت هذه الألفة. 

أكثرنا نزوعًا إلى الحنين، يشتاق إلى هذه البقع الجغرافية التي يعود إليها عامًا بعد عام. فماذا يحس مثلًا الواحد منّا إذا حل منتصف شهر أيار ولم يكن في كانّ؟! لا بل قد يحدث ما هو أبعد من ذلك: بعض المهرجانات تخترق اللاوعي. كم شعرتُ بالارتياح عندما استيقظتُ ذات مرة من النوم لأدرك أننا لا نزال في بداية العام، فيما كابوس حاول إقناعي أن المهرجان بدأ وقد تخلّفتُ عن حضوره.  

لقطات من مهرجان البندقية 81
لقطات من مهرجان البندقية 81

لسبب مفهوم يعيه كلّ من زار البندقية وشعر بسحرها الذي لا يُقاوَم على مسامات جلده، فإن الإقامة لأسبوعين متتاليين محوطًا بكلّ ما صنع مجد هذه البقعة وعظمتها، من جمال عمراني وقنوات مائية وإبحار رومنطيقي على اللاغونا، هي أفضل طريقة لاختتام الصيف ومغادرة اللامبالاة المرتبطة به للدخول في الأشياء الجدية. فالعمل الصحافي اليومي، من مشاهدة الأفلام والكتابة عنها، الذي يُمارَس داخل ديكور أشبه بمتحف في الهواء الطلق، لا يتقاطع بشيء مع العمل داخل الجدران الأربعة. مجرد السير في محاذاة الكورنيش البحري أو ركوب الباص المائي (عندما لا يكون مزدحمًا) للعودة إلى الفندق، ينسيك تعب يوم طويل جراء معاينة معاناة الناس على الشاشة.

 إلا أنه، مهما قلنا وحاولنا الاضطلاع بدور محامي الشيطان لتجريد كانّ من حقوقه المكتسبة، يبقى هو «المهرجان» بالألف واللام. إنه الحصن المنيع الذي يقف في وجه اندثار هذا الفنّ، بل هو قبلة صنّاع السينما ومحبّيها في العالم. لو لم يكن موجودًا لوجب اختراعه. ففي نهاية كلّ سنة، ومع حلول لحظة وضع قوائم لأفضل أفلام العام، نجد أنفسنا أمام حقيقة لا مفر منها: معظم هذه الأفلام شارك في كانّ! 

بمعنى آخر، لا يزال المهرجان الفرنسي، على الرغم من كلّ الانتقادات التي يمكن توجيهها إليه، يمدّنا سنويًا بعدد غير قليل من التحف السينمائية، سواء تلك التي نبشها من أقاصي العالم أو حمل تواقيع مخرجين اعتادوا أن يكونوا جزءًا من عائلة المهرجان. ويخطئ مَن يعتقد أن الحديث عن هذه الأفلام ينتهي مع اختتام كلّ دورة، بل العكس هو الصحيح، إذ أن النقاش في شأنها ينطلق عندما تصبح متوافرة للجمهور العريض، وهي باتت تتوافر بشكل أسرع في ظلّ انتشار القرصنة أو التحميل الشرعي في البلدان المتقدّمة. قبل أن تصبح ملك المشاهدين العاديين، هذه الأفلام تبقى حكرًا على المحظوظين وأهل الاحتراف القادرين على الانوجاد في هذه المنابر وتزوّد أحدث الإنتاجات، ممّا يكفيهم عامًا كاملًا.

مهرجان كان السينمائي 77
مهرجان كان السينمائي 77

لا أفوّت فرصة للتذكير بأن حضور ثلاثة مهرجانات كلّ عام، أي كانّ والبندقية وبرلين (والترتيب وفق الأهمية في نظري)، كاف لتكوين فكرة شاملة عن أحوال السينما في العالم أجمع وتلقّف اتجاهاتها الجديدة. بقية المهرجانات لها دور الداعم أو المساهم في نشر الثقافة السينمائية في أماكن مختلفة من العالم لا يصل إليها التقدّم أحيانًا. تجد فيلمين مهمين هنا وثلاثة هناك، والحقيقة أن معظمها يشكّل فرصة لنشاهد فيها ما فاتنا في المهرجانات الكبرى، أو مناسبة لنحاور سينمائيين يصعب لقاؤهم في مهرجانات تزدحم بآلاف الصحافيين. وعندما أقول البقية، أستثني مهرجانات مثل لوكارنو وروتردام وسان سيباستيان، وهي مهرجانات لها تاريخها وحضورها واستراتيجيتها، ولو إن خيار السينمائيين الكبار لا يتّجه إليها كمحطة أولى.  

في كانّ، هناك شيء ما للجميع، من أراد اللهو والبصبصة ولقاء الناس والسهر سيجدها حتمًا، أما مَن يبحث عن سينما راقية متطلبة فكانّ وجهته، وأحيانًا سيجد طلبه داخل الأقسام الموازية بعيدًا من المسابقة الرسمية. هذا، رغم أن الأفلام التي يعرضها كلّ عام محدودة العدد وأقل من غيرها من المهرجانات، كونها تتجاوز المئة بقليل. ومع أن العديد من هذه الأفلام لا تهتف إليه قلوب النقّاد، فمن المضحك أن ننكر حقيقة أن كانّ يأتي بزبدة الأفلام من حول العالم. وطبعًا، مستوى الدورات متفاوتة بين عام وآخر، وفي هذا الصدد ثمة فخ يقع فيه النقّاد الذين يتسرعون في إطلاق الأحكام وتقييم كلّ دورة بناءً على مشاهداتهم المحدودة من حيث الكمّ، إذ لا يمكن ان تتجاوز الـ30 أو 40 فيلمًا في كلّ دورة. فأحيانًا، نحتاج إلى سنة كاملة لندرك أهمية دورة فائتة، بعد أن نكون قد عاينّا البرنامج كاملًا، الموزَّع على أقسام وفقرات تقع تحت عناوين وتصنيفات مختلفة. 

أفضل أفلام 2024
Anora (2024)

في دورته الأخيرة، السابعة والسبعين، قدّم المهرجان أعمالًا بديعة، سواء في المسابقة أو خارجها: بدايةً مع «أنورا» لشون بايكر الذي نال «السعفة» و«ميغالوبوليس» لفرنسيس فورد كوبولا الذي كنّا من القلة التي أُتيحت لنا مشاهدته داخل صالة (العرض التجاري في نهاية الصيف كان محدودًا).  وفي كانّ شاهدنا أيضًا أحد أكثر الأعمال الآسيوية التي نالت إعجاب كبّار النقاد: «كلّ ما نتخيّله كضوء» للمخرجة الهندية الشابة بايال كاباديا التي أعادت السينما الهندية الغائبة عن المسابقة منذ سنوات، إلى الصرح الفرنسي وذلك من أوسع بوابة. وماذا يسعنا أن نقول عن آخر أعمال أحد زعماء السينما الذي يدفع بالفنّ إلى أقصاه؟ أقصد البرتغالي ميغال غوميز وفيلمه «جولة كبرى». 

دائمًا في المسابقة، أدهشني كذلك «ليمونوف» للمخرج الروسي كيريل سيريبرينيكوف الذي ظُلم بعض الشيء، ولم يظهر على لائحة جوائز لجنة التحكيم التي ترأستها المخرجة والممثّلة غريتا غرويغ (أثار إسناد هذه المهمة إليها انتقادات لاذعة من جانب البعض). والظلم طال أيضًا أحدث أفلام «ميغالوبوليس» الذي أضحى حديث المهرجان طوال فترة انعقاده، ولكنه أحدث انشقاقًا في صفوف النقّاد، إلى درجة أن مجلّة «دفاتر السينما» لم تضعه في لائحة الأفلام العشرة المفضّلة، رغم أن رئيس التحرير كان من المدافعين عنه، وهذا يدل أن الإعجاب به ظلّ فرديًا. أخيرًا، ما كان المهرجان ليكتمل لولا مشاركة الإيراني محمد رسول أف بـ«بذرة التين المقدّس» الذي كلّفه أن يخرج من بلاده هربًا فيلجأ إلى ألمانيا حيث يقيم الآن. 

Megalopolis (2024)
Megalopolis (2024)

في البندقية، ثاني أهم المهرجانات السينمائية، أمسكني «الوحشي» للأميركي برادي كوربيت من يدي إلى حيث الدهشة. كم كان أساسيًا لتذكيرنا بأن السينما لا تزال بألف خير طالما أن الطموح حليفها، وذلك وسط أفلام تتكرر وتتشابه. وإذا استطاع المخرج البرازيلي والتر ساليس أن يسحق قلوبنا مع «لا أزال هنا»، فإن «عايشة» للتونسي مهدي البرصاوي، جاء كدليل على أن السينما التونسية في صدارة السينمات العربية، خصوصًا إذا ما أخذنا في الاعتبار عدد الأفلام المنجزة. في الدورة الماضية من البندقية، كنت أيضًا من المتحمّسين لـ«كوير» للإيطالي لوكا غوادانينو، وهو الفيلم الذي ينسينا فيه الممثّل دانيال كريغ دور جيمس بوند تمامًا. 

مفاجأة أخرى كان لها وقعٌ معين: «تنصّل»، فيلم من جزئين وكلّ جزء من حلقات عدة، للمكسيكي الكبير ألفونسو كوارون، عمل في منتهى الذكاء، كان طوله عقبة أمام انتشاره وعرضه في الصالات وظلّ داخل منصّات المشاهدة. أما «الأسد الذهبي» فذهبت إلى بدرو ألمودوفار عن «الغرفة المجاورة»، أول أفلامه بالإنكليزية، ويمكن المراهنة أنه نالها كتحية عن مجمل أعماله، نظرًا إلى أنه لم ينل يومًا أرفع الجوائز في أي من المهرجانات الثلاثة الكبرى.

Dahomey (2024)
Dahomey (2024)

على عكس كانّ والبندقية اللذين رفضا إلى حدّ ما الانصياع الكامل للصواب السياسي و«سياسات الهوية»، أخذ مهرجان برلين (ثالث التظاهرات السينمائية من حيث الأهمية في تقديري) من هذه القضايا عدة شغله، وصولًا إلى الدورة «الكارثية» التي قدّمها العام الماضي وتُوِّج في نهايتها فيلم وثائقي عادي، «داهوميه» لماتي ديوب، بـ«الدبّ الذهبي». وجاءت تداعيات «طوفان الأقصى» لتجعل من المهرجان ساحة صراع بين الواقفين في صفّ إسرائيل ومناصري القضية. المهاترات الكثيرة امتدت حتى إلى داخل الإدارة، فساهم هذا كله في الآخر بإطاحة مدير البرليناله الفنّي كارلو شاتريان، لتخلفه في منصبه تريشا توتل بدءًا من الدورة المقبلة. 

رغم تخبطّات كثيرة، يبقى برلين أكبر مهرجان من بين الثلاثة، من حيث عدد المشاهدين، وهو مهرجان جماهيري غير محصور بالمهنيين يُعقد في مدينة ضخمة، ولا مقارنة ممكنة مع بلدة كانّ الساحلية أو جزيرة الليدو في البندقية. أما عدد الأفلام فهو عادةً أكثر بكثير، رغم أنه تم تقليصه في السنوات الأخيرة. صحيح أن مستوى المسابقة كان ضعيفًا، لكن هذا لم يمنعنا من أن ننتشل عددًا من الأعمال الممتازة، من بينها: «لغة أجنبية» لكلير برغر، «الأمبرطورية» لبرونو دومون، «احتضار» لماتياس غلايسنر، «ماء العين» لمريم جعبر، «ذاكرة جسد محترق» وغيرها.

مهرجان برلين 74 
مهرجان برلين 74

وخلافًا لكانّ والبندقية اللذين يجريان في مناخ معتدل وديكور خلاّب، لا يوفر برلين أيًا من هذا. طبيعة المدينة ونبذ المهرجان لمظاهر الاحتفالية والبرد القارس، هذا كله يساهم في تحديد ملامح هذا الحدث الشتوي، فلا يمكن المغامرة خارج حدودها. لكن، علينا الاعتراف أن الأجواء الشتوية لها جمالياتها أيضًا. الجلوس في عتمة الصالات ودفئها لبضع ساعات ثم التجمّع في حانات تحت ضوء خافت، نوع آخر من الارتقاء بمهنة تغطية المهرجانات. ثم إن برلين ساحرة إذا استطعتَ أن تتغلغل فيها وفي عالمها السفلي… لكن هذه حكاية أخرى!

لا يسعني إنهاء هذا المقال من دون أن آتي على ذكر مهرجانين لا أتصوّر حياتي المهنية من دونهما: كليرمون فيران المعروف لكونه «مهرجان كانّ الفيلم القصير»، وهو فعلًا كذلك؛ ومهرجان لوميير في ليون المتخصص بالكلاسيكيات المرمّمة وهو حدث سينيفيلي بالغ الأهمية. كلاهما مدعومان من جمهور غفير. الأخير هو الذي يصنع سحرهما، جاعلًا من المدينة مكانًا تلمس فيه حبّ الشاشة وضرورتها الاجتماعية في كلّ زواية. 

اقرأ أيضا: كان 77.. المهرجان السينمائي

شارك هذا المنشور