جورج لوكاس (1944- ) يحبّ الأفلام، يحب التفكير فيها، يحبّ مشاهدتها. لكنّ الأهم من ذلك كلّه أنه يحبّ تجاوز حدود الإبداع، يتحدّى نفسه باستمرار لإضفاء حيوية بصرية وسمعية لا يمكن تصورها على أفلامه. وإذا تخيل شيئًا، فسوف يصوّره.
غيّر لوكاس تصوّرنا لمدى انتشار السينما وقوتها. أرسلنا إلى «زمن سحيق في مجرد بعيدة، بعيدة جدًا…»، من خلال دفع نفسه وزملائه إلى مستويات لم يكن ممكنًا تخيّلها. أنشأ ظواهر ثقافية سينمائية لا حدود لها، وحاول في أعماله «خلق مشاعر من خلال تقنيات سينمائية، وليس بالضرورة من خلال السرد» وفق ما قال مرةً.
نشأ لوكاس في موديستو في كاليفورنيا، والده رجل أعمال عصامي في قطاع الورق، وأمه نزيلة دائمة على المستشفيات بسبب صحتها المعتلّة. كان قارئًا نهمًا لقصص المغامرات الكلاسيكية مثل «روبنسون كروزو» لدانيال ديفو، و«جزيرة الكنز» لروبرت لويس ستيفنسون، ومقتنيًا متعطشًا للكتب المصورة، وطالبًا متحمّسًا للتاريخ، وعاشقًا لسلسة أفلام «فلاش غودون». لقد كان أيضًا مهووسًا بسباق السيارات حتى تعرض لحادث شبه مميت في سن الثامنة عشرة أقنعه بالتخلي عن هذه الرياضة. كما تخلّى عن فكرة دراسة الأنثروبولوجيا، ليصبح صديقًا للمصوّر هاسكلويكسلر، الذي كان قد صوّر للتو فيلم «الرجل الأفضل» (The Best Manـــ 1964)، للمخرج فرانكلين شافنر من بطولة هنري فوندا.
بدأ لوكاس تصوير الأفلام بكاميرا 8 مم، بما في ذلك تصوير سباق السيارات، وأصبح مهتمًا بالأفلام التجريبية، وعشق السينما الأوروبية، خصوصًا الفرنسية والإيطالية. انتقل إلى كلية الفنون السينمائية في جامعة جنوب كاليفورنيا، التي كانت واحدة من أولى الجامعات التي تشتمل على مدرسة مخصصة للأفلام. وتشارك السكن مع المخرج راندال كليسر. وجنبًا إلى جنب مع زملائه والتر مورتش وهال باوورد وجون ميليوس، أصبحوا زمرة طلاب سينما معروفين باسم The Dirty Dozen. كما أصبح صديقًا لستيفن سبيلبرغ.
تأثر لوكاس بالتعبير السينمائي الذي التي كان يدرّسه المخرج ليستر نوفروس، وركّز على العناصر غير السردية للصورة السينمائية مثل اللون والضوء والحركة،والصوت والمكان والزمان. كما كان مصدر إلهامه الآخر المحرر الصربي (وعميد قسم الأفلام في الجامعة)، سلافكوفوركابيتش، وهو منظّر سينمائي كبير عمل مع أهم الشركات الهوليوودية. درّس فوركابيتش الطبيعة المستقلة للفن السينمائي، مركّزًا على الجودة الفريدة للحركة والطاقة الديناميكية الكامنة في الصور المتحركة. تخرج لوكاس عام 1966، وكانت لديه أفكار لصنع أفلام طليعية، فأنجز فيلمًا قصيرًا جاء بمثابة سيمفونية عن الإنسان والتكنولوجيا بعنوان «1:42:08».
أصبح لوكاس شغوفًا بعمل الكاميرا والمونتاج، وعرّف عن نفسه بأنّه صانع أفلام Film makerوليس مجرد مخرج. كطالب دراسات عليا في الجامعة، حصل على منحة دراسية من شركة «وارنربراذرز»، وفي ذلك الوقت، التقى ايضًا بفرانسيس فورد كوبولا فصارا صديقين «منذ اللحظة التي التقينا فيها» على حد تعبيره.
خلال تلك الفترة المحمومة والمثمرة في السينما الأميركية، دعمه مخرج أفلام «العراب» The Godfather على الرغم من الاختلافات في شخصيتيهما، وأيضًاسبيلبيرغ. وقد اتسم لقاء الكواكب هذا بمصير مشترك هو تغيير وجه السينما الأميركية إلى الأبد.
ففي عام 1969، شارك لوكاس في تأسيس ستديو American Zeotrope مع كوبولا، على أمل خلق بيئة لصانعي الأفلام تحرّرهم من السيطرة القمعية لنظام ستديوهات هوليوود. هذه الاستقلالية سيتمكّن لوكاس من تحقيقها فيما عجز عنها كوبولا. أجبر كوبولا لوكاس على الجلوس وكتابة أول فيلم طويل له بمساعدة والتر مورتش، فلوكاس «لم يحبّ الكتابة ابدًا». في عام 1971، تمكّنوا من إنتاج أول فيلم روائي طويل للوكاس بعنوان «THX 1138»، وهو ديستوبيا مستقبلية شاركت في قسم «أسبوعي المخرجين» في «مهرجان كانّ السينمائي الدولي».
الفيلم عبارة عن قصة خيال علمي بائسة، صمّمت بخبرة بصرية وعاطفية، يسعى فيها البطل روبرت دوفال الذي يحمل الفيلم اسم شخصيته، إلى الهروب من مجتمع يحرّم الجنس والعواطف. يأخذنا الفيلم نحو المستقبل، وغرق الإنسانية في المفهوم «الأورويلي» (جورج أورويل)، لتقليص النزعة الفردية. إلا أنّ اهتمام الفيلم المبكر بالكفاءة التقنية وتعامله مع موضوعات الخيال العلمي، جعله يقابل باستجابة فاترة من قبل النقاد والجماهير.
بعد ذلك، أنشأ لوكاس شركته الخاصة، Lucasfilm, ltd، وشرع بإنتاج فيلمه الثاني. رُفض سيناريو «زخرفة أميركية» (American Graffiti – 1973) من قبل شركات عدة. تدخل كوبولا لإنتاج الفيلم بعدما أخرج أوّل أفلام «العراب»، مما اعطى مصداقية اقتصادية للمشروع، فوافقت شركة «يونيفرسال بيكتشر» على تمويله.
لقد فاجأ نجاح «زخرفة أميركية» كثيرين، إذ كانت الاحتمالات تشير إلى فشل الفيلم، خصوصًا أنّه لا يحتوي على حبكة روائية تقليدية. يحمل الفيلم الكثير من النوستالجيا، إذ صوّر لوكاس قصة مجموعة من الشباب في مدينة مودستو، في كاليفورنيا (مكان نشأة لوكاس)، في ليلة واحدة في صيف عام 1962، وهم يتجولون بسيارتهم ويخوضون مغامراتهم في الشوارع. الفيلم أسهم في تدشين موجة أفلام الشباب في السبعينيات، وأثّر بشكل كبير على ثقافة السينما الأميركية. حقق الشريط 140 مليون دولار على شباك التذاكر، فيما بلغت ميزانية إنتاجه 777 ألف دولار فقط، وكان دليلًا على قدرة لوكاس على التواصل مع الجمهور السائد.
كانت «القوة دائمًا معه» (May The Force be With You)، ومعها جاءت سلسلة «حرب النجوم» (StarWars) وموجة الهوس العالمي بها. عندما بدأ لوكاس بالترويج لـ«حرب النجوم»، لم تأخذه شركات الإنتاج على محمل الجد. القصة التي تجمع بين ثلاثة أنواع متباينة: الأساطير وأفلام الوسترن وأفلام الساموراي في قصة خيالية حديثة، لم تكن جذابه بما فيه الكفاية. لقد تطلب الأمر إيمان أحد المسؤولين التنفيذيين في Twentieth Century Fox، الآن لاد جونيور، بلوكاس ليمنحه الفرصة. وفي عام 1977، ولدت تجربة جديدة لمشاهدة الأفلام. أسر «حرب النجوم: أمل جديد» (Star Wars: A New Hope)، الجماهير بمؤثراته البصرية والاستثنائية وتصميم الصوت، وأيضًا بنظرة لوكاس الفريدة إلى ثنائية الخير والشر الكلاسيكية، مع الشغف بالتاريخ والأنثروبولوجيا وكتابات جوزيف كامبل. وإلى اليوم، نواصل استكشاف حيوات لوك سكاي ووكر، والأميرة ليا، وهان سولو وآخرين.
أخرج لوكاس ستة أفلام روائية فقط، وأنتج أكثر من ثلاثين فيلمًا طوال مسيرته التي امتدت لما يقارب خمسة عقود، وهي أكثر من كافية لرفعه إلى منصة الأساطير الحية. لوكاس، الذي سيمنح «سعفة كانّ» الذهبية الفخرية في الدورة 77 من «مهرجان كان» (14 – 25 أيار/مايو المقبل)، ابتكر أشهر ملحمة في تاريخ السينما، وإحدى أشهر الشخصيات السينمائية، إنديانا جونز.
في سنوات شبابه، غازل السينما التجريبية (تشهد على ذلك العديد من أفلامه القصيرة خلال الستينيات)، ليرى نفسه يتحول إلى مثال يحتذى به، تنبعث منه رائحة روح هوليوود.