فاصلة

مراجعات

جوان هو و«كلب أسود» منبوذا «الحلم الصيني»

Reading Time: 4 minutes

في خطوة إلى الأمام من الجيل الخامس من المخرجين الصينيين، الذين تخرجوا جميعًا من أكاديمية بكين للسينما عام 1982، وأسّسوا حركة سينمائية صينية جديدة، استمرت سنوات عدة، قدموا فيها لغة سينمائية جديدة طليعية، ولكن بالموضوعات الأيديولوجية نفسها للجيل الذي سبقهم، طوّر الجيل السادس طريقة لإظهار الخيبة من النموذج الشيوعي في السياسة، والرأسمالية المتوحّشة في الاقتصاد، مما يديم ويعزز التفاوتات الهائلة في الصين. الجيل السادس المعاصر من المخرجين هم أكثر المراقبين السينمائيين حرصًا على رصد التغيرات المتعددة الأبعاد التي طرأت على وطنهم في السنوات الأخيرة… الصين التي أصبحت الآن مضطرة، من المستوى البشري إلى المؤسساتي، إلى دفع الثمن المتمثل في التغريب السريع.

من ناحية أخرى، أثبت المخرج جوان هو، نفسه في أفلام بعيدة عن روح جيله (الجيل السادس)، فهو مخرج نموذجي لأفلام الحروب والاثارة والمغامرات. حققت أفلامه مثل «السيد ستة» (2015، «Mr. Six»)، و«الثمانمائة» (2020، «The Eight Hundred»)، مئات الملايين من الدولارات على شباك التذاكر. بعد أربع سنوات من فيلمه الأخير، يفاجئنا الصيني الضخم جوان هو (Guan Hu)، بدراما تكاد تكون بسيطة وفقاً لمعاييره، ولكن عظيمة في اقتراحاتها وطريقة تقديمها. «كلب أسود» (2024، «Black Dog»)، الفيلم الذي حاز جائزة «نظرة ما» في مهرجان كان الأخير، والذي يُعرض في مهرجان البحر الأحمر، هو الأكثر تميّزاً في مسيرة المخرج السينمائية. فيلم نقي وجاف، يتقاطع مع تيار خفي من الكوميديا والشعر، في منتصف الطريق بين الواقعية الأكثر رصانة والديستوبيا القاتمة. «كلب أسود» تحفة سينمائية جديدة مؤلمة مليئة بالميلانكوليا. لوحة جدارية على طراز أفلام مواطنه جيا جيا تشانغ كه (Jia Zhangke، الذي يلعب دوراً ثانوياً في الفيلم)، حول التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الهائلة في الصين.

كلب أسود
(2020، «The Eight Hundred»)

في شمال غرب الصين، وعلى حدود صحراء جوبي الواسعة، يعود لانغ (إيدي بانغ)، إلى مدينته، بعد قضاء سنوات في السجن بسبب جريمة قتل وحبّه للدراجات النارية. يجد بيئة بلا حياة، تكاد تموت. لقد أغلقت مدينة الملاهي، وظلت الحيوانات في الحديقة ولكن بدون زوار، وتقع رعايتها على عاتق شخص واحد، والد لانغ، الذي يحتاج إليها بقدر أو أكثر من الكائنات المحبوسة في مرافق عتيقة عفا عليها الزمن. في هذه المدينة، الشوارع مهجورة، والمباني أيضاً شبه مدمرة، لم يكن هناك حرب، ولا كارثة طبيعية، ببساطة قررت السلطة أن هذه المدينة «لم تعد موجودة» ويجب بناء مدينة أكثر حداثة بمصانع كبيرة.

 في هذه البيئة، عديمة اللون، هرب معظم السكان، وتركوا كلابهم، فسيطرت على الشوارع والأراضي الخالية والمنطقة المحيطة بها. يتعرض لانغ للمضايقات من قبل الشرطة، التي يتعين عليها التحكم بتحرّكاته وأنشطته كمدان سابق، ومن قبل أقارب المتوفي الذي يعتبرون أن السنوات التي قضاها لانغ في السجن غير كافية. رغم كل هذا، فإن البلدة في مزاج للترويج الوطني، قبل دورة الألعاب الأولمبية لعام 2008، وللتجميل المتسرع. لذلك، اتُّخذ القرار لإلقاء القبض على جميع الكلاب الضالة التي تجوب المدينة.

 يتم تشكيل فرق، وينضم لانغ على مضض إلى واحدة منها، ولكن بدلاً من إظهار روح الفريق، يساعد معظم الكلاب على الهروب. تنشأ اسطورة الكلب الذي لا يمكن اصطياده، والذي يعض أي شخص يحاول القيام بذلك، فيصبح التوازي بين لانغ والكلب الذي يحمل عنوان الفيلم واضحاً، فكلاهما مهمش، يعيش بمفرده. وهكذا، عندما تأمر البلدية بمكافأة إضافية لمن يصطاد الكلب الأسود، يحاول لانغ جاهداً، فيلتقي تلك العضات، وعندما يحقق هدفه، يفضل التخلي عن المكافأة ومحاولة استرضاء الكلب المتمرد ليجعله صديقه، لأن كلاهما يتعرفان على بعضهما في الهزيمة.

كلب أسود
(2024، «Black Dog»)

قد تبدو فكرة الرجل الوحيد الذي يجد رفيقاً في كلب برّي ومهمش بنفس القدر، كأنها أكثر القصص المتكررة سخافة، وفي كثير من الحالات، ربما تكون كذلك، ولكن هذا ليس الأمر في «كلب أسود». إن الجانب الحساس التي خرجت منه هذه العلاقة إلى النور، لا يمكن أن تحدث بطريقة فظة أو تلاعبية مفرطة، كلاهما «منبوذا الحلم الصيني»، الذي يعلن عن نفسه دائماً من خلال الإعلانات الإذاعية والأخبار التلفزيونية. هذه هي إشارة جوان هو المباشرة نحو سينما واقعية – مختلفة عن أفلامه حتى الآن – مع مجازات رمزية، بالإضافة إلى إشارات اجتماعية.

«كلب أسود» ذو سرد مختصر وجاف، مجرد من كل الزخارف أو الحيل النفسية، ينتهي به الأمر ليصبح بمثابة استعارة قاسية لبلد دمره تقدمه الافتراضي. شخصية لانغ قليلة الكلام، بالكاد تتمكن من النطق أربع أو خمس جمل في الفيلم بأكمله، مع لمسة من الحزن مليئة بالعاطفة. إن استخدام أغاني فرقة «بينك فلويد» الشهيرة تعزز هذه النغمة، مع الكثير من التوتر والفكاهة والحنان. في عالم تتدهور فيه الإنسانية بشكل واضح، ويعاني من غياب التضامن، يسعى جوان هو إلى روابط الصداقة الصامتة، بصور حادة وواضحة، وخالية من التصنع، ينبع جمالها، وكذلك قبحها، مما يصعب إخفاؤه، من المناظر الطبيعية والخراب الحضري. لا تتخذ كاميرا جوان هو، وجهة نظر محددة. بالكاد نرى وجه الكلب أو لانغ عن قرب، بل يعرض الفيلم صوراً بانورامية أكثر من اللقطات القريبة، مما يضعنا في موقف مراقب لكل ما يحدث.

كلب أسود
(2024، «Black Dog»)

في «كلب أسود»، نواجه فيلماً يعتمد على الاستعارة المستمرة حول عوالم تتغير بسرعة كبيرة وبلا معنى. يتم تجسيد الكحول والمقامرة والملل باعتبارها البدائل الوحيدة لأولئك الذين يرفضون مغادرة المكان، ولكن لن يتمكن أحد من المقاومة وسينتهي الأمر بالجميع بالانتقال إلى مكان جديد، أو سيموتون مهجورين وكبدهم متآكل. إن قتل الوقت في الفيلم ليس أكثر من تحضير المرء لموته بحركة بطيئة، ولانغ الذي يتسم باللباقة والذكاء سوف يتحمّل كل ما يفرضه عليه شعوره، وسوف يظل متمرداً وذكياً مثل صديقه ذي الأرجل الأربعة، غير قادر على البقاء بين بقايا شبابه أو قبول الانتقال القسري إلى بيئة حديثة زائفة.

اقرأ أيضا: «قصّة سليمان».. عن لاجئ له اسم

شارك هذا المنشور