فاصلة

مقالات

«جنينة الأسماك».. نداءٌ للذات المختبئة رعبًا

Reading Time: 5 minutes

وعندما تقف «ليلى» وظهرها للحائط، وسط إضاءة حمراء، تصرخ بدون صوت ويديها حول وجهها ورقبتها، سأفهم الفيلم. سأفهمه كضربة خاطفة أسفل البطن.

ألم تكن صرخة ليلى الصامتة هي نداء للذات المختبئة رعبًا في الداخل؟

ليلى، المختنقة بصمتها وحياتها التي حولتها لسر كبير مغلق، تسمع في برنامجها الإذاعي «أسرار الليل» أناسًا خائفين ومختنقين من الدنيا والحكومة والجنس والمرض والحب، بلا وجوه وبأسماء مستعارة يحكون لشخص صوته دافئ وعاقل، لا يعرفون وجهه. بأصوات مكبوتة يتكلمون، وما تفعله ليلي هو أن تكون العقل المنضبط الذي يعيد مَوْضَعة شعورهم التائه، تسألهم لتضغط على مواضع المرض والألم، تنصحهم بمشاعر باردة، ومن داخلها خراب. هو الخراب نفسه الذي سيجعلها تبكي بدون سبب عندما تصل للشقة المعروضة للإيجار، لتجرب إذا كان من الممكن أن تعيش حياة جديدة بعيدة عن أمان العائلة: أحكام أمها القاطعة على كل شيء، وأخوها المُختبئ في ظلمة الصالة حتى لا تراه. لا تُزيف ليلى كلامها في البرنامج، لا تتمركز في موقع أخلاقي متعالٍ على الآخرين، بل تتكلم من واقع خبرة مُعاشَة. ما يفوتها هو أن تكون قادرة على الاشتباك مع نفسها. فما هو بعيد عنها، في العام، نراها تصطدم معه بقوة، لا تعيش الجُبن كحالة عامة، وهو ما يدفعها مثلًا لخوض معركة كبرى حتى تُذاع مكالمة مريض الإيدز، رغم الوصم والعار المجتمعي.

فيلم جنينة الأسماك (2008)
فيلم جنينة الأسماك (2008)

لن تحكي ليلى شيئًا عن نفسها طوال الفيلم، سنعرف عنها من الهوامش، من شخصيات ثانوية تحكي لنا أطراف كلام وتغيب. وليلى هي ظلام «جنينة الأسماك» في الزمالك، ومخابئها السرية، وسورها الذي يحيط بكل هذا الخوف ويلف حوله يوسف في جولاته الليلية.

يوسف الطبيب، بكل ما يحمله الأطباء من برودة، وبياض الموت والمرض، كأنهم عاشوا موتهم كثيرًا، وجاءوا ليخبرونا عنه، عن أسبابه وأعراضه بعيون ميتة وعقل علمي هادئ، كان من النذالة أن يضحك على صديقه في سيارته وهو يحكي أسراره لـ(ليلى) في برنامجها. يوسف الذي يخاف جنينة الأسماك وظلامها، يتلذذ بالاستماع لأسرار الناس في البرنامج وأسرار المرضى وهو يخدرهم قبل العمليات. المرضي الضعفاء والأكثر شجاعة على القول والإدانة وإلقاء اللوم، ينامون على الأسِرّة منتظرين مشرط الجراح ليُقطع فيهم، وقبل الغياب المؤقت عن الدنيا، يضعون أصابعهم على مواضع الألم والقسوة في حياتهم. يغضبون ويبصقون على العالم قبل أن يغادروه.

فيلم جنينة الأسماك (2008)
فيلم جنينة الأسماك (2008)

يخاف يوسف من نفسه، لا يستقر في مكان ليفهمها. يدور في الشوارع لينسى وفي آخر اليوم ينام في سيارته من إنهاك العمل والحياة. يتلمس ظلامه الأليف في جنينة الأسماك، لا يواجه ماضيه في شقته المغلقة منذ سنوات، ولا حبيبته، ولا أبوه المريض بالسرطان الجالس على سريره يُؤلِمُه بالذكرى وبالرابط الأبوي الذي يشدهما لبعضهما، حبل مشنقة مزدوج العُقدة. أسئلة يوسف معلقة وصفحاته بيضاء بلا إجابات أو مواقف.
وعندما ينزل صديقه من السيارة وينفجر في وجهه، ويسأله «مخبي إيه أنت؟ إيه أسرارك؟»، سيدور يوسف حول جنينة الأسماك ويتصل بليلى في برنامجها، بلا وجه، يحكي قليلًا عن نفسه، كأنه يعترف فقط ليعتذر لصديقه، لكنه لا يدع متعته أسيرة لذنبه، فيبدأ في استفزاز ليلى حتى تقول هي الأخرى. لن تذاع هذه المكالمة، ستطلب ليلى من زميلها في العمل (زكي) أن يحذفها من فقرة البرنامج، وتبدأ الشخصيتين بعدها في تكشف بسيط تدريجي، أقرب للانهيار. بعد التواطؤ مع الذات على الإخفاء، والعيش في الداخل، في مناخات من الرعب ظنا معها أن الرعب الحقيقي هو أن يكونا أنفسهما.

لذة يوسف هي قناع خوفه، ففي العيادة التي يعمل فيها ليلًا، في باطن المدينة، يخدر بناتًا يحملون داخل بطونهم أسرارًا لا يريدونها ولا يمتلكون حتى إمكانية الاختيار، يحاول أن يستمد شجاعة منهم على أسِرة التعب، شجاعة أن يقول شيئًا عن ظلامه، هي نفس العيادة التي سيتقاطع فيها يوسف مع ليلى وهي تساعد جارتها الشابة في العمارة على التخلص من سرها. حينها يدرك الاثنان مأزقهما: حكى الاثنان عن نفسهما وهما لا يعرفان بعضهما، ظنا أنها مكالمة بين اثنين مجهولين، بلا وجوه. الأكيد أن الاثنان يعيشان ولا ينتبهان لما هو مفقود منهما، وما حدث أنهما انتبها لظلامهما، لجنينة الأسماك التي يدوران حولها أو يسكنان بالقرب منها، ولا يدخلوها.

فيلم جنينة الأسماك
فيلم جنينة الأسماك (2008)

وعندما يتكشف لليلى تدريجيًا مدى عمق التخفي والكتمان الذي تعيشه في الداخل، ستختنق في العيادة السرية. وعندما يدرك يوسف مدى خوفه من نفسه، جُبنه من مواجهتها، سيأخذ خطوة أبعد، سيدخل جنينة الأسماك في الصباح، ليرى. سيشاهد سمكًا يرتعش في الأحواض، وعلاقات وارتباطات في مَخابئ سُفلية. سيعود لبيته القديم المُترب ويحاول أن يرى على ضوء ولاعة. يضع الفيلم شخصياته بوضوح عند حافة الحقيقة، التي لا ينفع معها إلا المواجهة أو الاختناق.

فيلم جنينة الأسماك (2008)
فيلم جنينة الأسماك (2008)

بعد المشاهدة الثانية لفيلم «جنينة الأسماك» في سينما زاوية، خرجت من السينما أفكر أننا نعيش لعبة اختباء ومناورة طويلة جدًا، حتى نسيناها وصارت حياتنا اليومية. يبدو أن حياتنا اليومية هي «سُفلية» بالضرورة، نزج بأنفسنا ويزج بنا في ظلام الجنينة. يضع الفيلم يده على مواضع هذا المرض الاجتماعي العميق، بنية الإخضاع النفسي الصارمة التي نمارسها على ذواتنا ونمررها لبعضنا، لتصير أبسط تفاصيل حياتنا سرًا نحكيه في غرف مغلقة. سلسلة من المواجهات التي لم تحدث، من الكلام الذي لم يُقال، من الانفجارات العشوائية في وجوه بعضنا. نعيش مُتخمين بذوات تختنق بالعار من أنفسها.

لا يغفل الفيلم سياقه الاجتماعي والسياسي، حيث في الخارج مرضى إيدز موصومين ومحتقرين بمرضهم، وإنفلونزا طيور تبث رعبًا عامًا في الهواء، ونساء تتعرضن لانتهاكات بلا قانون أو دعم من العائلة والمجتمع، واحتجاجات تقول كفاية للتمديد والتوريث، ومجتمع وضع يده على رأس الأزمة، لكن الفيلم يكثف تركيزه على الجسد الاجتماعي تحت العُنقُ، المُغفل في كثير من أجزائه، هذا الظلام الغائب الذي ينبض ويوزع الدم. لا يجعل الفيلم من حياتنا مجرد أسرار علينا أن نبوح بها لنشفى. ما أخافه هو أن يتم فهم الفيلم الآن على ضوء الخطاب الساذج المنتشر على الإنترنت عن ضرورة البوح والحكي، وكل ما هو ثرثرة بائسة تمارسها ذوات يزداد ظلامها حُلكة وتتعقد أزماتها.

فيلم جنينة الأسماك (2008)

لا يعيش الإنسان أبدًا حياة «كَشف» مُطلقة، ما نخفيه بوعي/لاوعي يُشكلنا ويُضيف لنا، يرسم ملامح مأساتنا وتفرد وجودنا وإمكانات تحققنا، ليس هو الشر المُطلق الذي علينا التُخلص منه للأبد. وليس كل ما هو «ضبط» نفسي وكتمان هو قمع للذات بالضرورة، نحتاج لهذا النفي والكبح الداخلي ليتشكل داخلنا التزامًا ومسؤولية تجاه الوجود والواقع والآخر، فالحياة ليست “الحرية المُطلقة العدمية” التي تبيعها لنا خطابات وأخلاقيات النيو ليبرالية. أوضح مثال على ذلك الآن هو مواقع التواصل الاجتماعي التي تطالبنا أن نقول ونشارك بحرية طوال الوقت (مع خوارزميات وذكاء اصطناعي يضبط الكلام ويرسخ حدوده ومحاذيره)، ليصبح معها الإنترنت أرائك في عيادات مجانية للطب النفسي، اعترافات شخصية لذوات لا تنشغل بالآخرين. في النهاية، الأزمات لا تزال في العمق وعلى السطح، لأن المواجهات الحقيقة مؤجلة. لا نتكلم لإيجاد أفق أو حل أو أرضية للتوافق المبدئي، لكن لنشير للظلام هناك ونجري بعيدًا عن الجميع، حتى أنفسنا.

الأكيد أن وقت تصوير الفيلم (2005/2006) والأزمات التي يرصدها لم تتغير حتى الآن، رغم تغير وعي قطاعات محدودة في فترة الثورة وما بعدها، لكنه لم يكن كافيًا ليَقطع مع بنى الإخضاع العميقة، ويُحدث تغييرات جذرية على المستوى الأخلاقي والاجتماعي، لتؤثر بشكل حقيقي على المجتمع بأكمله، وتخرجه من اختبائه الدائم من نفسه قبل الآخر.

اقرأ أيضا: عبد الرحمن سيساكو لـ «فاصلة»: المهرجانات لا ينبغي أن تكون هي الهدف والغاية

شارك هذا المنشور

أضف تعليق