يموت الواحد فيتخلصون من جثته كحمل ثقيل، يحشرونه في حفرة أرضية مُظلمة ويدمجونه بشكل تام في الغياب. لا يهم هنا إن كانوا يحبونه أم يكرهونه؟ المهم أن حضوره المادي أصبح لا يُحتمل للجميع. لكنهم يستعيدونه ثانية في خيالهم وأحلامهم، كذكرى شفافة بلا جسد، يمكن احتمالها، البكاء عليها، الحديث معها، سبها ولعنها.
وماذا عن الموتى أنفسهم؟ لماذا لا نفكر فيهم إلا كأجساد قليلة الحيلة وبائسة؟
يزورنا الموتى في حلم ما، يتلمسون لغتنا ليمرحوا معنا أو يقلبوا علينا المواجع، لغتنا التي سئموها وكرهوها حتى إنهم صمتوا وامتنعوا عنها للأبد. لكن ألا يريد الموتى أن يشكلوا لغة خاصة بهم؟ ألم يموتوا ومعهم لغتنا التي لم تعد قادرة على أن تقول عنهم شيئًا أو تخبرنا عن مستقبلهم المجهول؟ وهل نترك مساحة للأحياء أصلًا ليشكلوا لغتهم الخاصة حتى نتركها للموتى؟
هكذا فكرت وأنا أشاهد «طبل» في فيلم «جنة الشياطين» (1999)، يبتسم ويضحك، يلهو مع أصدقائه ويتعارك مع الغرباء، يلعب مع النساء ويتجرع البراندي مِثل أعتى السكارى. يموت طبل في أول الفيلم، على كرسي في غُرزة وسط أصدقائه، محتضنًا زجاجة كحول مثل طفله الصغير والوحيد في الحياة، لكنه على مدار الفيلم، يولد من جديد.
ألا نحتاج لولادة ثانية وثالثة أحيانًا على مدار حياتنا؟ تتجلط حياتنا في الشرايين مع الوقت من سئم الأيام، وإذا تركنا الجلطة، تصعد للمخ، فتعطل آلة الجسد وتشل الروح والفكر. تَعطب حياتنا، فنموت معها أو نعيش حياة كأنها حياة.
نعرف في الفيلم أن طبل ولد ثانية في الماضي، عندما ترك بيت العائلة من 10 سنوات، بصق على الوظيفة والرسميات، ترك لهم المنزل والثروة واللغة المحترمة والدين، وخرج لعالم يستطيع أن يذهب فيه إلى حدوده القصوى: حدود اللغة والحياة والتجربة. عالم يقول فيه ما يعبر عن حقيقته، التي حرم منها في منزل يؤدي فيه دور الأب الخلوق والموظف رفيع الشأن، عالم يحب فيه أصدقائه ويحطم رؤوسهم، يعشق فيه “حُبة” ويوفر لها الحماية في وظيفتها كعاملة جنس نشيطة جدًا. يلبس ملابس رثة وممزقة ومريحة، لم يعد يحتاج إلى الظهور بشكل معين أو أداء دور محدد.
وبموته في بداية الفيلم، ولد مرة ثالثة، هذه المرة صامت، لكنه يتحدث لغة خاصة لا يفهمها إلا أصدقائه وأحبائه، أما ابنته يمرح معها فقط عندما تزور جثته يوم مماته، يحرك لها إصبعه الكبير الوسخ الذي يطل من حذائه المهترئ وهو مستلقٍ في غرفته، يضحك عليها عندما تسقط من على الكرسي، كأنه يستعيد حياتهما الماضية وعلاقة الأبوة على هيئة نكتة هذه المرة، وليس حنينًا لماضٍ جميل مفتقد.
يتكلم وهو صامت، كيف لسلوى (بنت طبل) أن تسمعه؟ هي المشغولة بضوضاء موته، ولا ترى في جثته إلا جسد قذر عاجز، ستحاول إعادة تشكيله على مدار الفيلم.
في رواية «ميتتان لرجل واحد» (1959)، للكاتب البرازيلي جورج أمادو، التي استُوحيَ منها الفيلم، نجد نوعًا من القداسة المعكوسة: يحطم أمادو العائلة والطبقة وكل مظاهر قداسة الموت الرسمي، لكنه يضفي على كينكاس -معادل طبل في الرواية- نوعًا من الهالة السماوية، حكمة عميقة من أسفل وأقوال فلسفية بليغة وحياة تشبه حياة نبي مشرد، أصدقاؤه الأربعة المقربين يقدسونه مثل إله أو أب، يستلهمون حكمته في المواقف الصعبة، يتجرعون الزجاجة تلو الزجاجة عند موته ويولولون في الشوارع: الجميع يصرخ ويبكي ويعلن الحداد إلى الأبد على رحيل كينكاس.
يتجاوز الكاتب والسيناريست مصطفى ذكري هذه القداسة في الفيلم، لا يؤسس لقداسة معكوسة مثل أمادو، إنما الفيلم في النهاية نزهة مرِحة وفاجِرة لشلة أصدقاء، غاب عنهم صديقهم ثم عاد، ليكملوا نزهتهم.
يموت طبل مؤقتًا ويصرخ الأصدقاء الثلاثة (نُونه وعادل وبوسي) وشوقية وحُبة، يحزنون على «صديقهم» وليس «إلههم» و«أبوهم الروحي». يُمعن مصطفى ذكري في تحرير الفيلم من هذه «الهالة» التي سيطرت على مفاصل الرواية، حيث نجد «نُونه» مثلًا في أحد المشاهد يخلع سنتي «طبل» الحديديتين المطليتين بالذهب في عملية جراحية بسيطة بالمطواة، ليبيعهما للجواهرجي. لا يمتلك طبل وأصدقائه الثلاثة شيئًا، حتى أجسادهم. يتحركون بلا وجهة واضحة في أمعاء المدينة، يقودون جموح الحياة والزمن على مزاجهم، مثلما يقود عادل سيارتهم الضخمة الجامحة التي تتساقط أبوابها، يتشاركون المرح والتجربة والبراندي، لا يتكالبون على شئ، وتبدو الحياة كلها ملكهم بهذه الطريقة. لم تكن الملكية بالنسبة لهم إلا طريقة للموت في الحياة، وما يمنع «عادل» من بيع جسد طبل للحانوتي، أن العائلة تريد استرداد جسد الأب لتدفنه دفنة لائقة ورسمية، تريده أن يصبح «منير رسمي» مرة أخرى بدلًا من «طبل».
يُصر «أمادو» في روايته على منح «كينكاس» الموتة التي يستحقها، «موتة ثالثة»، فيصطحبه شلة أصدقائه في الصفحات الأخيرة للاحتفال بعيد ميلاده الجديد (يوم ينال موته الحقيقي، ويعتني بدفن نفسه)، ليموت غارقًا في لا نهائية البحر وكليته، في مشهد جبار من الرعد والبرق والموج الهائج، مشهد لنهاية عالم وبداية آخر. يندمج «كينكاس» في صيرورة الحياة الكبرى، لتخلد روحه وتتناقل أقواله وحكمه على الألسنة: هذا هو الموت الذي يليق بمكانته كنبي صعلوق، وهذه هي الحياة الأخرى التي يستحقها.
لكن «ذكري» في سيناريو الفيلم، لا يدفع طبل نحو الموت، إنما يعيده باستمرار للواقع والحياة التي تحاول العائلة مصادرتها باستمرار، بجنازة رسمية وبدلة أنيقة، ونعي ينشر في جريدة الأهرام، وتابوت فخم.
«ولادة ثالثة»، هذا ما يستحقه طبل. فالمستحيل في الرواية هو أن يختار المرء بإرادته كيف يموت ليعيش خلوده، أما المستحيل في الفيلم هو الإصرار على الحياة باستمرار رغمًا عن الموت. يختار كل من «ذكري» و«أمادو» استحالتين تتماسان في نقاط كثيرة بالطبع، لكنهما تحركهما غايات معكوسة.
وعندما تحاول العائلة السيطرة على جسد «طبل»، يهرب مع أصدقائه الثلاثة، يخربون المشهد العام ويفضحون بؤس العائلة، التي تُصر على تشكيل سردية محددة وشيك عن موته، لأن هناك ميتات محترمة وأخرى فاضحة، تجرح الطبقة والعائلة. لكن «طبل» وأصدقائه يفسدون كل ذلك. يزوره الأصدقاء في منزل العائلة ليودعوه، يشربون البراندي ويمنحه «عادل» هدية صغيرة على هيئة ضفدعة، ومقابلها يستعير بدلته الأنيقة، ثم يهربون معًا في سهرة ليلية، حينها تصرخ أخت طبل بأنهم «سرقوا جسده» ويجري زوج «سلوى» بلحم مُترجرج ليتصل بالبوليس ليستعيدوا «أملاكهم». لكن «طبل» ببساطة خرج مع أصدقائه بإرادته ليسهروا قليلًا كعادتهم، وترك لهم تابوته الفخم ليدفن فيه آخرين في المستقبل: ما زال لديه حياة جديدة ليعيشها يا أوغاد.
يحتفظ «ذكري» في الفيلم بالقيم الثلاثة التي تشكل عالم «أمادو» في الرواية: (الصداقة والحب والتشارك). لا يعيش طبل وأصدقائه في الجنة كما نعلم، لكنهم على الأقل لديهم معنى في الحياة يستمدونه من علاقاتهم الإنسانية، وليس من طبقتهم الاجتماعية وثروتهم المتراكمة واسم عائلتهم الكبيرة. معنى خلقوه بالعشرة واللحظات الحلوة والمعارك الخطير مع الحياة والموت.
اقرأ أيضا: السينما والأدب.. تاريخ من الاقتباسات