«يجب أن نتذكّر أن المُشاهد سينتعل حذاء الشخصية طوال الوقت. يتحوّل التمثيل إلى فنّ حقيقي، عندما تستطيع أن تأخذه إلى هذه الحالة».
هكذا تعرّف الممثّلة البريطانية تيلدا سوينتون مهنة التشخيص التي برعت فيها منذ انطلاقتها في الثمانينات، حد أن مهرجان برلين يكرمها في دورته التي انطلقت أمس بجائزة «دبّ فخري» عن مجمل أعمالها، وذلك بعد أشهر قليلة من عرض «الغرفة المجاورة» لبدرو ألمودوفار الذي نال «أسد البندقية»، حيث تضطلع بدور سيدة تريد التخلّص من الحياة تحت وطأة المرض.

سوينتون أكثر من مجرد فنّانة تتقمّص الأدوار ويتغير جلدها في أي جديد لها. كلّ شيء فيها خاص، من تسريحة شعرها إلى تفاصيل وجهها فصوتها وكلامها ومنطقها. إنها واحدة من الفنّانات اللواتي جسّدن الغرائبية في السينما. بسهولة، تعرفها عن زميلاتها. ممكن ربطها بديفيد بووي من حيث التميز والمغايرة، ومع ذلك ستبقى هذه المقارنة سطحية. فسوينتون مزيجٌ من الفلسفة والمعتقدات الراسخة، وهذا كله صاغ مسارها الفني منذ أول خطوة لها في الفنّ. عملت مع كبار المخرجين: سبايك جونز، بيلا تار، إريك زونكا، ديفيد فينتشر، الأخوان كوين وجيم جارموش، لكن أبرز محطّاتها كانت في التعاون مع البريطاني الراحل درك جارمان الذي منحها فرصتها في «كارافاجيو»(1986)، وهو الدور الذي مثّل نقطة انطلاقتها الحقيقية. مات جارمان عن 52 عاماً بعد إصابته بالإيدز، ولكنه لا يزال حياً يُرزق في معظم أحاديث سوينتون.
اليوم، وهي في الرابعة والستين، تجسيدٌ صارخ لفكر ما بعد حداثي لا تقيده نجومية عابرة. ذلك انها تغامر في أراض وعرة، على رمال متحركة، خلافاً لكثيرات من زميلاتها اللواتي اخترن البقاء في حيز الأمان. هي واحدة من تلك الشخصيات التي يصعب تصنيفها: منفتحة، مشبّعة بالتلقائية والشغف، لا تخشى أن تعبر عن أفكارها بصدق بعيداً من وقار التكلّف، والأهم غير معنية بركوب الموجات السائدة.

ترفض سوينتون المحاولات لفهم دافعها وراء كلّ خيار قامت به في حياتها. تؤمن بأن الحياة والفنّ يجب أن يظلا مفتوحين على المجهول، رافعةً شعار: «إني بحاجة لأن أظل في حالة من اللايقين».
أمام كلّ محاولة لكيل المدائح لها، ترد سوينتون بأنها «مجرد عاشقة للسينما». وتواصل: «كان لي هذا الشعور مذ كنت صغيرة. لم أطمح قط لأن أكون ممثّلة. أحياناً أشعر أنني لستُ في المكان الصحيح حتى بعد المشاركة في فيلمين أو ثلاثة. يمكن الشخص أن يكون طبيعياً في فيلم واحد فقط، أما الباقي فهو مجرد تمثيل. أحاول أن أجد تجديداً في كلّ مرة، حتى لو كنت لا أستطيع تغيير بعض الأشياء في داخلي».
نشأت تيلدا في بيئة اجتماعية وثقافية اعتادت النظر إلى الفنّ كشيء يُكتسَب بالفطرة وليس عبر الدراسة وتراكم التجارب. تتذكّر بأنها شعرت بالرغبة في الانضمام إلى «قبيلة الفنّانين» منذ نعومة أظفارها. كان والدها جندياً، وفي هذا الصدد تستعين بمقولة لبريسون الذي كان يقول إن السينما ساحة قتال، وهي لطالما شعرت بأنها مستعدة للمعركة.

أول فيلم شاهدته سوينتون في صالة السينما كان «الساحرة المتدربة» لروبرت ستيفنسون في لندن في عيد ميلاد العام 1971. ومع ذلك، الفيلم الأول الذي شاهدته كان في سن الثامنة عبر التلفزيون. ظلّت تظن لفترة طويلة أن هذا الفيلم كان مجرد حلم لا حقيقة. سألت كلّ مَن حولها إذا كانوا يعرفونه، لكن تلقّت جواباً بالنفي، فاعتقدت أنه مجرد خيال. لكنها اكتشفت في السنوات الأخيرة أن للفيلم وجوداً في الواقع، ويُدعى «سلطة العشرة» للمخرجين راي وتشارلز إيمز. «إنه فيلم رائع. أعرضه أحياناً على الأطفال، فيشعرون وكأنهم قد تناولوا المهدّئات. يغمضون أعينهم ويتنقلون مع الفيلم بشكل عميق».
عندما التحقت سوينتون بالجامعة لدراسة الأدب، توقّفت عن الكتابة فوراً. لم يكن ذلك قراراً واعياً، بل حدث ببساطة عندما وجدت نفسها غارقة في عالم جديد: صداقة، مسرح واكتشافات جديدة. سياسياً، انحازت إلى اليسار. رغم رغبتها في دراسة السينما، لم يكن هذا التخصّص متاحاً في جامعة كامبريدج. فوجدت في المسرح تعويضاً إلى حد ما، رغم أنها لم تشعر بأنها «وحش مسرحي» كما تقول وتكرر. في منتصف الثمانينات، كانت السينما البريطانية تسيطر عليها موجة تجارية لم تستهوها، ممّا جعلها تقترب من الاستسلام، فاختارت المقامرة كنوع من هروب، ونجحت في تحقيق أرباح كبيرة عبر الرهانات في سباق الخيل. تتذكّر حصاناً يُدعى ديفيليري. لم تنسه إلى اليوم، إذ عاشت سنة كاملة من الأموال التي ربحتها من خلال المراهنة عليه.

اللقاء الذي غيّر حياتها كان مع المخرج درك جارمان، وكان للأخير تأثيرٌ عميق على مستقبلها. شكّل جارمان مع سوينتون ثنائياً فنياً متكاملاً. تتذكّر: «كنت محظوظة بلقائي درك. كان يعمل في معهد الفيلم البريطاني الذي راح آنذاك يدعم أصواتاً جديدة خارجة عن النظام التقليدي. انضممتُ إلى هذا المعهد، وكنت أشعر بأنني جزء منه. كان الأمر يشبه ما فعله آندي وارهول مع «فاكتوري»، ولكن هذا النوع من التجمّعات الفنية ليس بالأمر الجديد، فقد شهدناه عبر العصور. كنّا مثل القراصنة في فكرنا، رغم أنني نشأتُ في بيئة اجتماعية محافظة نوعاً ما».
الفنّ جعلها تدرك أنه في إمكانها تقديم جزء من ذاتها فيه. تقول: «كانت ذاتنا هي ما يُطلب منّا تقديمه، لم نكن مستبعدين. اليوم، الأمور أصبحت أصعب، والزاوية التي ننظر منها إلى الفنّ تحتاج إلى التغيير. ومع ذلك، أنا مقتنعة بأنها مجرد سحابة سوداء ستمر»
عندما تسترجع مشاعرها تجاه مَن عملت وإياهم في تلك المرحلة، تقول: «كنت أتعاون مع هؤلاء الأشخاص لأسباب بسيطة: لأنهم كانوا رفقاء حياة. كنّا نلتقي لنتحدّث عن أفكار مثيرة، نتشارك الرحلات من مهرجان إلى آخر، وأحياناً نأخذ الحافلة معاً. لا شيء أجمل من العمل مع الأصدقاء. حتى عندما كنت أشارك في أفلام استوديوات، كنت أحرص على اختيار الأشخاص الذين يشتركون في الروح الإبداعية نفسها التي عند المستقلّين. بالنسبة لي، الأفلام مثل أوراق الشجر، والنقاش هو الجذع الذي يربطها بعضها ببعض».

كان درك جارمان بمثابة مرشد حقيقي لسوينتون، حيث تبنّاها فنياً وأتاح لها فرصة أن تشتغل بجدية على موهبتها. خلال تسع سنوات تعاونا في سبعة أفلام، ممّا سمح لها بأن تغرق في عالمه. من خلال «كارافاجيو» (المستوحى من حياة الرسّام الإيطالي الشهير)، دخلت سوينتون عالم السينما الحقيقية. وفي مهرجان برلين الذي تعود إليه اليوم بعد نحو أربعة عقود، اكتشفت لأول مرة التنوع السينمائي من مختلف بلدان العالم.
اليوم، ترى سوينتون التمثيل كنوع من استسلام لرؤية المخرج: «عندما أكون في موقع تصوير فيلم لبيلا تار، أشعر برغبة قوية في الدخول إلى عالمه. أشعر بانزعاج عندما أفتقد هذا الشعور بالاندماج. أنا بريسونية بامتياز. فلسفة روبير بريسون عن الممثّل الموديل تعني لي الكثير. بريسون مدرستي الوحيدة. عندما تدخل عالم بيلا تار، لن يكون مثل دخولك إلى عالم وس أندرسون أو بونغ جون هو أو إريك زونكا. أنا في عالم مثل لوحة زيتية. ماتيس استخدم الأزرق بشكل مختلف عن دالي، كلّ واحد منهما أخرج شيئاً فريداً».
رغم إيمانها أنه عليها خدمة رؤية المخرج، تؤكّد سوينتون أن التمثيل ليس مجرد تنفيذ للدور بل مسؤولية، وهو ما تعلّمته من جارمان ومن كلّ مَن تعاونت معهم. «لا أريد أن أبدو متعجرفة، ولكنني أشعر أحياناً أنني جزء من عملية الإخراج، لأن كلّ مَن يشارك في الفيلم هو سينمائي بطريقة ما». تضيف أن الممثّلين الكبار عادة ما يجلبون عنصراً شخصياً من عندهم إلى الفيلم، وهي تحترم ذلك، لكنها لا تشعر بأنها تنتمي إلى هذا الخط.

لسوينتون اهتمام عميق بمسألة الهوية. وانطلاقاً منها تعارض المجتمع الذي يروج لفكرة أن لكلّ شخص هوية ثابتة لا مجال لتغييرها. تؤمن بأن الهوية خيار، وليست فرضاً. تقول: «في «دكتور جاكل ومستر هايد»، يتناول ستيفنسون فكرة ازدواجية الهوية. هويتي متعدّدة الوجه، ولا يمكن أي مجتمع ان يفرض عليّ هوية واحدة واضحة ومحددة. هذا الأمر يثير غضبي جداً. صراع الهوية موجود في أعمالي».
بعيداً من أفكارها الراديكالية ومقاربتها الجادة للقضايا الكبرى، تتمتّع سوينتون بخفّة دم تجعلها محبوبة من الجميع. في لقاءاتها المفتوحة مع الجمهور، تتفاعل مع العديد من الناس بروح هادئة وأنيقة، وتحرص على التقاط الصور مع كلّ شخص على حدة.
يصعب الحديث عنها من دون ذكر الموسيقى التي تعتبرها جزءاً مهماً من حياتها. «ديفيد بووي قال إن الناس كانوا يعتبرونه موسيقياً، لكنه كان يعتبر نفسه ممثّلاً. العكس صحيح لي: إني موسيقية أكثر من كوني ممثّلة. في أفلام جيم جارموش، الموسيقى هي النصّ نفسه، إنها الحمض النووي لأفلامه. حين أمثّل، هناك دائماً موسيقى تلفّ في رأسي».
اقرأ أيضا: تيلدا سوينتون أثناء تكريمها في برليناله: السينما وطن بلا حدود.. لا يُستعمر ولا يُباع