فاصلة

مراجعات

«تعويض مزدوج».. عندما اعترف هيتشكوك بوجود مخرج أفضل منه

Reading Time: 4 minutes

منذ عرض double indemnity صارت الكلمتان الأكثر أهمية في عالم الأفلام هما “بيلي” و”وايلدر”. – ألفريد هيتشكوك.

تشير عبارة هيتشكوك هذه إلى القيمة التي يحملها فيلم “تعويض مزدوج Double Indemnity” للمخرج بيلي وايلدر، الذي أصبح من كلاسيكيات السينما بمجرد عرضه عام 1944. نحن أمام عمل أيقوني لا تقتصر أهميته على قيمته المجردة كعمل فني متميز، وإنما تمتد لاعتباره نموذجًا قياسيًا يمكن استخدامه لشرح نوع سينمائي كامل هو الفيلم الأسود أو الفيلم نوار Film Noir.

فإذا كان فيلم “الصقر المالطي The Maltese Falcon” الذي أخرجه جون هيوستون عام 1941 يُعتبر من قبل أغلب المؤرخين أول فيلم نوار مثالي، بامتلاكه كافة السمات المميزة للنوع: البطل المحقق الذي يعمل على هامش القانون، المرأة المغوية القاتلة femme fatale، الجريمة والمؤامرات والأسرار، والبطل الذي يجد نفسه متورطًا تحت تأثير المرأة المغوية، وبالطبع توظيف ألاعيب الضوء والظلال في سرد الحكاية بصريًا، فإن بيلي وايلدر تمكن في “تعويض مزدوج” من التحليق بالنوع بعيدًا، والإبحار داخل أحد أعمق المساحات المظلمة داخل نفوس البشر: النقطة التي يُمكن خلالها لإنسان شريف أن يتحول مجرمًا بين عشية وضحاها.

الحكاية باختصار عن مندوب التأمينات الناجح والتر (فريد ماكموراي)، الذي يزور منزل رجل ليجدد بوليصة التأمين على سيارته، فتقابله فيليس (باربرا ستانويك) الزوجة التي تصغر زوجها كثيرًا، وتسأله إذا ما كان واردًا أن يكون لزوجها وثيقة تأمين ضد الحوادث من دون أن يعلم الزوج بوجودها. أي باختصار؛ تدعوه المرأة للمشاركة في قتل زوجها والاستفادة من التأمين. لن نكشف الكثير بعد 80 عامًا من عرض الفيلم عندما نقول إن والتر قد رفض في البداية ثم وافق لاحقًا.

تعويض مزدوج

غواية الجريمة الكاملة

المدهش عندما تعيد مشاهدة الفيلم وتُمعن التفكير في دوافع بطله، هو إدراكك المتدرج أن محرك قرار والتر بالمشاركة في الجريمة لم يكن فقط تأثير فيليس عليه. صحيح أنه من المستحيل منطقيًا مقاومة قدر الغواية الذي يحيط بالمرأة التي تظهر له كحلم في نهار حار، لا يحيط جسدها سوى منشفة تزيدها إثارة، في قدمها خلخال يجذب الأنظار، ورائحتها تثير كافة الغرائز: “كيف كان يُمكن أن أعرف أن رائحة القتل تكون أحيانًا مثل زهر العسل؟”، يقولها والتر فلا يكذب واصفًا باربرا ستانويك في أكثر أدوارها جاذبية.

غير أن المرأة لم تكن وحدها من دفع والتر نحو مصيره المحتوم، وإنما توازى معها – بل ربما فاقتها- غواية أخرى هي الجريمة الكاملة عندما يرتكبها المحقق الخبير. والتر وهو رجل التأمينات المثالي يعرف جيدًا كل تفصيلة في عمله، بما في ذلك كل الوسائل المتوقعة للتحقيق في ملابسات موت الزوج للتأكد من كونه حادثٍ غير مدبر. لا يمكنك أن تنفي كونها فكرة إنسانية بحتة: أن يفكر المحاسب في الطريقة التي يمكنه بها أن يختلس أموال البنك بدون أن يلاحظ أحد، أن يتخيل الطبيب سيناريو يقتل فيه المريض عمدًا دون أن يُثبت عليه الجُرم. الأفكار المماثلة تمر على أذهان البشر في حياتهم مرة على الأقل، لحسن الحظ أن الغالبية العظمى تُبقيها في حيز الأفكار الجنونية ولا تُقدم على تنفيذها!

مجموع الإغراءات كان أكبر من قدرة والتر على المقاومة. سيحصل على المرأة الجميلة، ومعها مبلغ ضخم لن يجمعه لو عمل بنجاح طيلة حياته (العنوان يأتي من أن التعويض يكون مزدوجًا في حالات خاصة، كحوادث القطارات التي يقرر أن ينفذ الجريمة من خلالها)، وقبل كل ذلك يشعر بالانتصار على النظام بتحقيق الجريمة الكاملة التي تُثبت عبقريته. من هنا تتحرك كرة الثلج التي يدهشنا بيلي وايلدر فيها مرتين: مرة عبر تصميم الخطة التي تظل محكمة حتى بمعايير يومنا الحالي، ومرة ثانية عبر ما يترتب عليها من أحداث.

تعويض مزدوج

روابط مدنسة

تأمل هذه الفكرة الذكية: عندما يرتكب شخصان جريمة معًا سيجمعهما رباط أبدي يستحيل فكّه، وهو نفس الرباط الذي سيؤدي لهلاكهما، خاصةً لو كان قرارهما بقطع الطريق معًا متسرعًا، يفتقر لكثير من المعلومات الأساسية التي لم يملك أي منهما وقتًا ليعرفها عن الآخر. ما تخفيه المرأة المغوية أكثر مما يخفيه الرجل المتسرع الذي تقوده شهوتا الحب والعبقرية. ما تخفيه فيليس يكفي لتقويض الخطة التي اهتم صانعها بكل التفاصيل باستثناء ماضي شريكته.

غير أن الرباط الملعون مع فيليس ليس الوحيد في حياة والتر. ثمّة رباط يُمثل تفصيلة مذهلة أخرى في بناء “تعويض مزدوج” هو علاقته بمديره، خبير التأمين العجوز الأعزب بارتون (إدوارد ج. روبنسون)، الذي يمكنه أن يشم الحادث المدبر عن بعد، ولطالما تمكن من كشف تلاعبات مماثلة غرضها مبلغ التأمين. لكنه عاجز هذه المرة عن رؤية الحقيقة، ليس فقط لأن مرتكبها خبير هو الآخر خطط كل شيء ببراعة، ولكن ببساطة لأن حبه لوالتر يشوش رؤيته للحالة.

نعم، يشير بيلي وايلدر بدهاء لانجذاب بارتون لموظفه الشاب. صحيح أن الفيلم لا يفسر الأمر بوضوح، ويتركه خافتًا لمن يتمكن من قراءة ما بين السطور، وفِهم سر دعم بارتون الدائم لوالتر وعجزه عن الارتياب فيه، لكنه يعود ويؤكده عندما يجعل آخر جملة في الفيلم هي قول والتر المحتضر لمديره “أنا أحبك أيضًا”. حتى لو كان من الممكن فهم العبارة بطريقة أخرى كفلت للفيلم العرض دون محاذير رقابية (تذكر أننا نتحدث عن فيلم من إنتاج 1944). أي أن الازدواج في عنوان الفيلم لا يقتصر على مبلغ التأمين، ولكنه ينعكس على تخبط البطل بين علاقتين كلتاهما مُدنّسة، واحدة بفعل القتل والثانية بفعل الخطيئة.

لو أضفنا لما سبق حضور شخصية لولا (جاين هيثر)، ابنة الزوج القتيل التي تظهر لتُخبر والتر بمعلومات تدق أول مسمار في نعش الجريمة الكاملة، والتي يجتمع في علاقتها ببطلنا الثقة الأبوية فيمن قتل والدها، ويأس من لا يملك خيارًا آخر، وإعجاب الشابة بالرجل الوسيم، سنجد أنفسنا أمام واحدٍ من أكثر أبطال السينما حصارًا. تخيّل أن تكون محاطًا بثلاث شخصيات أنت أهم إنسان في حياتهم في اللحظة الراهنة، نفس اللحظة التي ترتبط نجاتك فيها بأن تُترك في حالك فلا ينتبه أحد لما فعلته وتفعله!

إمتاع عابر للزمن

يجعل ما سبق حكاية تحوُّل والتر من الحياة الناجحة إلى الجريمة المكتملة ثم الضياع، نموذجًا للدراما السينمائية المكتملة، التي يمتزج فيها الموضوع الشيق ببراعة الصنع بالقابلية للتأويل على أكثر من مستوى، فمن أراد أن يشاهد حكاية مثيرة مليئة بالمفاجآت سيعثر على ضالته، ومن يبحث عن رحلة أعمق في الجانب المظلم من نفوس البشر سيجد ما يسره.

لم يكن من الغريب إذن أن يُفتن هيتشكوك بالفيلم، وهو المهووس بالدراما التي تمزج الجرائم بعلم النفس. كان من المنطقي أيضًا أن يحقق “تعويض مزدوج” نجاحًا كبيرًا وضع بيلي وايلدر في المكانة التي يستحقها، فهو فيلم قادر على إدهاش المشاهد العابر، وقادر أكثر على إبهار المشاهد المتمرس الذي يكتشف في كل مرة تفاصيلًا جديدة لم توضحها المشاهدات السابقة.

وليس غريبًا أن يكون أول فيلم قفز إلى ذهني عندما قررنا في “فاصلة” إعداد ملف عن أفلام الأبيض – أسود التي يجب أن يشاهدها الجميع. فهو كافٍ وحده لتوضيح أهمية دراسة تاريخ السينما، واكتشاف الجواهر الصامدة عبر العقود، التي يمكن أن تشاهدها بعد ثمانين سنة فيظل أثرها المدهش حاضرًا آسرًا.

اقرأ أيضا: «أبيض – أسود» أم «أبيض وأسود»؟

شارك هذا المنشور