“الحياة عبثية، إنها لا تبالي بما تحمله وتنجزه، فهي مستمرة بدون شك. يوجد طريقان للتعايش مع هذا العبث: إمّا أن تصبح عبثيًا، غير مهتم لأي شيء كان أو سيكون، أو أن تصبح شخصًا عاديًّا تعيسًا، يتبخّر في الهواء مثل دخان سيجارة.”
– ألبير كامو
بعد عشر سنوات من فوزه اللافت، عاد إدريان برودي، الفائز الأصغر سنًا بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل عن تجسيده لشخصية “فلاديسلاف شبيلمان”، في فيلمه الأوسكاري “عازف البيانو” The Pianist، ليلعب بطولة تحفة درامية فلسفية بعنوان “انفصال” Detachment من إخراج توني كاي، المخرج الذي صنع التحفة الكلاسيكية American History X، ولكن لم يفعل شيئًا يذكر منذ ذلك الحين حتى أتى بالتحفة الدرامية الفلسفية التي يتناولها هذا المقال. ومن المحزن أن فيلم Detachment مر من دون أن يلاحظه أحد، وكأن هناك شيئًا من الانفصال عن الجمهور.
يقدم لنا الفيلم حبكة درامية سوداوية بأبعاد عميقة تصور جوانب المجتمع الأمريكي المتهالك والجانب المظلم من نظام التعليم بصورة جريئة وحقيقية، تصور التحديات التي يواجهها المعلمون والطلاب في نظام مدرسي فاشل. تدور أحداث الفيلم في مدرسة ثانوية تعكس صورة مصغرة للمجتمع الأمريكي، حيث يتناول الفيلم القضايا المعقدة الموجودة بالمجتمع من عنصرية وتحرش وعنف أسري وتهميش وإهمال وغيرها من المواضيع، ويرسم صورة مؤلمة للتواصل الإنساني وسط اليأس.
اكتئاب القرن الواحد والعشرين
تصور لنا الشخصية الرئيسة المعلم هنري بارت، نوعًا مختلفًا من الاكتئاب والعبثية، وما يمكن أن نسميه اكتئاب القرن الواحد والعشرين. وما أعنيه بذلك التعبير هو زحمة الأفكار المتشابكة والعواطف المتضاربة، حيث يتصادم الإيمان بالحياة مع الشعور باليأس، وتتداخل الأماني بالهروب مع الشعور بالعزلة. لم نعد نشعر بأي شيء، نسينا كيف نشعر بوجودنا، أصبحنا أجسادًا بلا روح تتحرك في الزمن بلا هدف، وننتقل من يوم إلى آخر بلا إحساس بالوقت أو الأيام. لم نعد نعرف من نحن، فقد تلاشت هويتنا وأصبحنا جزءًا عشوائيًا من الحياة.
ليس لدينا الهدف ولا الشعور بالأمل، نستيقظ لنواجه نفس اليوم المكرر بنفس الشعور الخانق بالفراغ والعجز. نتابع حياتنا كما لو كنا قد تخلينا عن أرواحنا خلفنا، نحن هنا بالجسد فقط، بلا تواصل مع العالم الخارجي، بلا تفاعل مع الأحداث، بلا إحساس بالحياة الجارية حولنا. محاصرين في أعماقنا، معلقين بين الوجود والعدم، بين الأمل واليأس، بين الحياة والموت. فنحن الآن جسد بلا روح، غارقين في عبثية الحياة. فنحن لا نشعر بشيء!
يظهر هنري بارت كأستاذ لغة إنجليزية احتياطي، ينتقل من مدرسة إلى أخرى. فهو شخص معزول ومنعزل عن المجتمع، ويعيش حياة مشوشة ومعقدة ويحمل أعباءً كبيرة من الماضي، كما يعاني من الوحدة والتشتت العاطفي. يتجاهل هنري العلاقات الاجتماعية ويفضل البقاء في عزلته، وهو ما يجعله يبدو كشخص متجمد عاطفيًّا. يمثل صورة للشخص الذي يعيش في عزلة من المجتمع. لا يشعر بالتواصل الحقيقي مع الآخرين، ويفضل الابتعاد عن العلاقات الاجتماعية.
يتناول الفيلم معاناة هنري مع التشتت العاطفي والبحث عن هويته الحقيقية كما يظهر وجود تناقض داخلي في شخصيته، حيث يظهر متخبطًا بين الرغبة في الانتماء والرغبة في الانفصال في الوقت نفسه. يعتري هنري الشعور بالفراغ والفقدان، ويبدو أنه يبحث عن معنى لحياته وغرضها. تتجلى هذه الحاجة في تفاعلاته مع الطلاب في المدرسة، وفي تفكيره وسلوكه بشكل عام. كما يبدو أنه منهك من قسوة العالم ويعاني من انتكاسات نفسية متكررة، مما يظهر بشكل واضح في تصرفاته وتفاعلاته مع الآخرين.
تتلاقى القصص والشخصيات في أطراف متشابكة، تنسجم وتتقاطع لتروي قصصًا مختلفة في حقب زمنية متباعدة، تحمل في طياتها مختلف النواحي الإنسانية والفلسفية.
أثناء مشاهدتي لفيلم “انفصال” تذكرت فيلم “عازف البيانو” حيث يمكن أن نرى معاناة عميقة تجسد فلسفة العبثية والوجودية في كلا الفيلمين.
في “انفصال”، نتابع إدريان برودي، صاحب الوجه الحزين، بينما يلعب دور مدرس غريب الأطوار يعبر عن الفوضى والعبثية في مجتمع تسوده الاضطرابات والتشتت. يتجول بين أروقة المدرسة وهو محاصر في حياة خالية من الهدف والمعنى. من جهة أخرى، في “عازف البيانو”، ندخل معه عالمًا مليئًا بالحروب والدمار، حيث يتنقل عازف البيانو اليهودي الهارب من الحرب المُحرِقة وسط الفوضى والعبثية التي تحيط به. يعزف على بيانو بحزن عميق، ينعكس على وجهه الملامح المتجذرة للألم واليأس، حيث يبحث عن أمل في وسط الفوضى والدمار في عالمٍ خالٍ من المعنى ومليئًا بألم العبثية، فلماذا لا ننتحر؟
هل يمكن أن يكون للمعاناة معنى؟
ما هو معنى الحياة؟ سؤال يراودنا جميعًا في مرحلة ما من حياتنا. ربما لم يكن هناك كاتب أو فيلسوف يهتم بهذه المسألة أكثر من ألبير كامو. فنرى شخصية بارت المضطربة والمتعبة من قسوة الحياة، فهل كانت فلسفة بارت عبثية؟
إذ فحصنا هذه القضية عن كثب، يمكننا أن نرى بعض الروابط العميقة بين فلسفة كامو ونزعة المنقذ اللامبالي لدى بطلنا. فاستياء هنري من أفكار المجتمع ومحاولة نبذها وإنقاذ طلابه منها وفي نفس الوقت يتجنب أية علاقات عاطفية ويبقى في عزلته ووحدته؛ كل هذا يجسد المفاهيم الأساسية لفكر كامو. يصف كامو العبث بأنه العلاقة بين رغبتنا الملحة في العقل والنظام و”صمت الكون” اللامبالي. ينشأ العبث عندما يبحث البشر عن المعنى ويفشلون في العثور عليه. إنها حالة حتمية للوجود الإنساني، لكننا غير قادرين على قبولها.
يذكرنا الأستاذ هنري حتمًا بالبطل الفارغ عاطفيًا في رواية كامو “الغريب”، مورسو الشخصية اللامبالية، فهو يستقبل خبر وفاة والدته ببرود، ويرتكب جريمة قتل عمد، وعندما يُساق إلى المحكمة فلا يعرف بماذا يجيب عن الأسئلة التي يوجهها القاضي له، ولا يهتم بمصيره الذي سيُقاد إليه، فكلتا الشخصيتين تجسدان لنا الانفصال عن الواقع المرير نتيجة عبثية الحياة.
من خلال أسطورة سيزيف، الذي يُعاقب بمهمة تافهة وغير مجدية تتكرر مرارًا وتكرارًا من دون أي نتيجة أو معنى يمكن التوصل إليه. يُظهر كامو من خلال هذه الشخصية المرونة والمقاومة التي تمتع بها سيزيف على الرغم من علمه باللا- فائدة الكاملة لجهوده، وهو ما يعكس جوانب العبثية والتناقض في الحياة. باستخدام فلسفة العبثية، يُظهر كامو أن الإنسان محكوم بالعبث والفوضى، وأنه لا يمكن تحقيق معنى حقيقيًا أو هدفًا محددًا.
يُعبّر مصير سيزيف، الذي يرمز إلى الفعل المتكرر الذي لا يحقق شيئًا، عن حقيقة الحياة اليومية للإنسان، التي تبدو مثل هذه المهمة التافهة والمجهولة. كما نرى في فيلم “The Pianist”، تصوير حياة عازف البيانو اليهودي خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حيث يواجه الموت والمعاناة في بيئة فارغة من الرحمة أو المعنى. حيث يعكس تجربة سيزيف في مواجهة الظروف القاسية دون أي تفسير محدد أو هدف في النهاية.
“العيش يعني المعاناة، والبقاء على قيد الحياة يعني العثور على معنى ما في المعاناة”. كلمات نيتشه هذه تتردد في مشاهد كلا الفيلمين، لتذكرنا بالأثر العميق الذي يمكن أن تحدثه مثل هذه الأفلام المشحونة عاطفيًّا على أرواحنا الهشة.
يذكرنا جورج أورويل، في نثره التأملي، بأن الفن يمتلك القدرة على إشهار المرآة في مواجهة المجتمع، مما يعكس جماله وتياراته المظلمة. فيما يحثنا كافكا أستاذ السرد الاستبطاني، على مواجهة مخاوفنا العميقة، لأنه في إطار تلك المواجهة يمكن أن يحدث النمو الحقيقي واكتشاف الذات.
لعنة الوجه الحزين
يعتبر الوجه هو المرآة التي تعكس حالة الإنسان الداخلية، ولعل من أبرز الوجوه التي أثرت في عالم السينما وجه إدريان برودي، الذي اشتهر بملامحه الحزينة والبائسة. فاز برودي بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل عن دوره في فيلم “The Pianist”، الذي تطلب منه تجسيد معاناة عازف البيانو البولندي “فلاديسلاف شبيلمان” الذي يلاحقه الطغيان النازي في الحرب العالمية الثانية.
من المثير للاهتمام أن نرى إدريان برودي، في أدواره السينمائية السابقة، يجسد جوانب من العبثية التي يتناولها ألبير كامو في أعماله.
وعندما نتفحص الشخصيات التي قدمها برودي في مختلف الأفلام، نجد تقاطعًا مثيرًا مع مظاهر الحزن التي يظهرها وجهه، وهو ما يعكس عبثية العالم الذي يعيش فيه. ما يذكرنا مجددًا بأبطال روايات كامو ، إذ يمكننا تخيل إدريان برودي يجسد بعضًا من هذه العبثية في وجهه وملامحه. فقد يتمثل ذلك في النظرة الحزينة التي يظهرها إدريان برودي في بعض المشاهد، أو في التعبيرات الضائعة التي تعكس شعوره بالعزلة والفراغ، مما يجعلنا نرى فيه بعض الشبه بينه وبين شخصيات كامو التي تعاني من الكآبة والإحباط في وجه العالم العبثي الذي يعيشون فيه. فهل من الممكن أن نرى إدريان برودي مجسدًا لشخصيات ألبير كامو العبثية؟
هل كانت ملامح برودي لعنة حقيقية على مسيرته؟ من الناحية الفنية، قد تكون ملامح برودي الحزينة عنصرًا مهمًا في تجسيد الشخصيات التي قام بتمثيلها. فعبر هذه الملامح، استطاع برودي إيصال عمق الشخصية والمشاعر بطريقة ملموسة ومؤثرة. وقد اعتبره الكثيرون أحد أبرز الممثلين القادرين على نقل الإحساس والعاطفة من خلال تعبيرات وجهه. مع ذلك، قد أصبحت هذه الملامح قيدًا أيضًا لبرودي، حيث إنها قد كونت عائقًا في الحصول على أدوار متنوعة تخرجه عن النمط الحزين الذي ارتبط به. فمع مرور الوقت، باتت ملامح برودي الحزينة جزءًا من هويته الفنية. ورغم أنها قد تكون لعنة بعض الشيء على مسيرته، إلا أنها في الوقت نفسه كانت جزءًا من سحره وجاذبيته كممثل.
“كل هذه الشخصيات شكلت الرجل الذي أنا عليه اليوم”
– إدريان برودي
الخلاصة هنا، أنه في دوريه اللذين فصلت بينهما سنوات، نرى برودي يجسد على الشاشة تضارب الإنسان في مواجهة العبثية والفوضى، حيث يبحث بطلي الفيلمين عن معنى يعطي لحياتيهما قيمة واتجاهًا. ومع كل صعود وهبوط في حياتيهما، تبقى ملامح إدريان برودي الحزينة هي العلامة التي تعكس حقيقة الصراع الدائم بين الأمل واليأس، في عالم مفعم بالعبثية واللا معنى. فهل يمكن أن يكون سيزيف سعيدًا؟ ربما! لكن يبقى السؤال الأساسي هو: هل لدينا الشجاعة للعيش والمعاناة بدون معنى؟