فاصلة

مراجعات

فيلم «بيرسونا»…وماخلف الهوية

Reading Time: 11 minutes

“إن مالا يستطيع الإنسان أن يتحدث عنه ينبغي له أن يصمت عنه”

فتجنشتين

ألما: كرري بعدي لا شيء لا شيء لا شيء

اليزابيث: لا شيء

يعد فيلم «بيرسونا» Persona1966 للمخرج السويدي إنغمار بيرغمان، واحدًا من الأيقونات الشهيرة في تأريخ السينما. وكما هي عادة بيرغمان لا يكف عن التجديد والتجريب داخل الوسيط السينمائي.

هذا الفيلم تحديدًا كُتب عنه الكثير، بل لا أبالغ لو قلت هو تدريب جيد لملكة الحس والتذوق.

لهذا الفيلم ظروف خاصة في صناعته، فقد ولد من داخل العزلة المريضة وقتما كان المخرج يرقد في المستشفى جراء مرضٍ تنفسي، وهناك بدأت تتولد هذه الفكرة، وهذا لا يعني أنها خُلقت من العدم، بل بالعودة إلى سيرة المخرج ذاته التي تحمل عنوان “المصباح السحري” نجد علامات بارزة تدل على أنه يومًا ما سيظهر لنا فيلم “بيرسونا”.

في سيرته يشدد بيرغمان على فكرة أساسية، وهي أنه لم يكن منذ طفولته قادرًا على التمييز بين الواقع والأحلام، حتى أنه لم يكن يستوعب مفهوم الزمان ذاته.هذا التفكك داخل مفاهيم صلبة، أو يُظن أنها صلبة، هو ما يجعل البشر يعتركون داخل ذواتهم وخارجها من أجل السيطرة على الفوضى، وهذا ما نُسميه الهُوية فهي الثبات ضد التغير أو التغير الثابت كما لدى هيراقليطس وهيغل. وحتى في العودة إلى الملاحم القديمة شرقية وغربية نجد ذات الاستعارة؛ أن العالم كان فوضى ثم حل النظام من خلال الآلهة أو اللوغوس (العقل أو الإدراك) أو الحب وغير ذلك من أشكال النظام التي تُسيطر على التفكك.

فيلم بيرغمان لا يمكن فصله عن الفنان ذاته الذي ابتدع هذا العمل، فكل فنان وخاصةً منذ ولادة الحداثة وصعود مقولات أصلية للإنسان المعاصر مثل الفردانية والإبداع،وحتى منزلة الفن والفنان في سياقات الحداثة الكونية تبدلت فالفنان هو مرجع ذاته، وما يبدعه هو رسالته للأخرين، ومن ثم كل فنان وجد نفسه في موقف فيه شيءٌ من التبشير والرسالة للأمة الإنسانية.

لو أردنا التأريخ لهذه الظاهرة لوجدنا جذورها تعود إلى الحركة الرومانسية، والتي هي الابن البكر للحداثة الفلسفية والعلمية التي بدأت مع ديكارت وغاليلو ونيوتن، كذلك لا يمكن فصل هذا العمل الفني تحديدًا عن سياقه التاريخي، فمن وجهة نظري يعد فيلم بيرغمان شهادةً قوية على تفكك الهُوية الغربية ومن ثم ظهور فلسفات ما بعد حداثية تُبشر بموت الهُوية وموت الانسان والفن والمؤلف وغير ذلك من الميتات.

الصمت موقفًا وجوديًّا

 يحكي الفيلم قصة “إليزابيث” التي قررت في لحظة ما الصمت المطلق.خطر لها القرار بينما تلعب دورها على خشبة المسرح، ومن ثم كان عليها أن تنقل للمستشفى للتحقق من سبب هذا الصمت إن كان عضويًا أم نفسيًا، وهنا تأتي النتيجة المهمة التي شدد عليها المخرج في تمهيد الفيلم وهي أن صمتها ليس لسبب من علة جسديةً ولا نفسية، وهذا يعني مباشرةً أن صمتها موقف وجودي، وقرار اتخذته نفس نبيلة.

هذا ما تقوله لنا الممرضة “ألما” وهي تحكي مع الدكتورة عن حال الممثلة الصامتة.

بيرسونا

لا ينبغي للممثل أن يصمت لفظيًّا ولا جسديًّا. يصمت الممثل جسديًّا عندما يكف عن استخدام جسده من أجل إيصال المعنى، فكل الأفلام الصامتة كانت تعتمد على أمرين من أجل إيصال المعنى للمشاهد وهما حركة الجسد وتعابير الوجه، وكذلك من خلال الكتابة على الشاشة. وعند دخول الصوت صار الكلام ضرورةً في صناعة السينما، اليزابيث تقريبًا امتنعت عن الحديث لفظًا وجسدًا. مع ذلك أستغل المخرج الوسيط السينمائي بقوة وعنف حتى يجعلها تنطق. فهي تحدثت مرتين تقريبًا في الفيلم، والباقي نسمعها من خلال لغة الوجه، ما جعل المخرج يُكثر من لقطات الوجه المقربة، وكذلك التلاعب بتعابير الوجه وحركات الجسد وحتى التلاعب بالضوء والظل. فثمة مشهد حيث نرى الممرضة ألما تشغل الراديو على مسرحية ما ثم تنفجر الممثلة ضاحكة، وعلى أثر ذلك تُغير الممرضة الموجة لنسمع موسيقى حزينة وعميقة. بين الموجتين نلاحظ تلاعبًا في الإضاءة، فحين نسمع المسرحية يغطي الكادر بياض ساطع، وعندما تبدأ الموسيقى نرى وجه الممثلة وقد غطاه الظل والسواد. هذا التلاعب القوطي التعبيري مشهور في تاريخ الفن عامةً، نلاحظه مثلًا في الفن التشكيلي مع لوحات كارافاجيو ومونك وغيرهما، كذلك في السينما منذ التعبيرية الألمانية وفيما بعد مع أفلام النوار الأمريكية. إنه تلاعب بالفضاء والعالم الخارجي الذي يحيل المتفرج إلى ما في داخل النفس من معارك سيكولوجية لا تهدأ، بين ثنائيتي النور والظلام الخير والشر.

بيرسونا

تكلف الطبيبة المعالجة لإليزابيث الممرضة ألما بالعناية بها، وتشتكي هذه الأخيرة بأنها ليست متدربة كفاية حتى تعتني بروحٍ كبيرة قررت الصمت في حياةٍ تعج بالضجيج. بعد ذلك ترى طبيبة الممثلة بأنه من المناسب لها أن تخرج من المستشفى لتستريح في بيتٍ ريفي يطل على الشاطئ، وتُرسل معها الممرضة ألما للعناية بها مؤقتًا. ومن هنا تبدأ الحكاية تأخذ منعطفات درامية عنيفة، حيث نلاحظ أن الممرضة ترقص سعادةً بأن هناك في نهاية المطاف من يصغي إليها، وفوق ذلك؛فالإصغاء قادمٌ من شخصية مرموقة وهي الممثلة اليزابيث.

تبدأ ألما رحلةً طويلة من الحديث عن ذاتها ومغامراتها الجنسية والعاطفية، وكيف أنها قررت يومًا أن تجهض أحد أطفالها وهي نادمةٌ على ذلك، إن الطفل هنا له أهميةٌ في سرد الحبكة فالممثلة منذ المشاهد الأولى نعلم بأنها لا تحب ولدها كثيرًا، بل هي نادمةٌ على إنجابه.إن الصفات بين الممثلة والممرضة متضادة أحيانًا وفي أحيانٍ أخرى تتشابه، وهذا ما يجعل لقاء الصمت مع الثرثرة حديثًا مزعجًا،بل انفجارات لا يمكن التنبؤ بها.

ينتهي الفيلم بعد صراع طويل بين الفتاتين، وهو صراع هُويات. فالكل يدافع عن هُويته، إلا أنها تتحلل رُغم أنفنا نحن البشر. النهاية تكمن في الضياع والفراغ،والتوصل إلى أن اللاشيء هو القول الوحيد الممكن أمام جبروت العالم والطبيعة، أمام أهوال الحياة من حروب ومجاعات وأمراضٍ وغير ذلك. الصمت هو موقفٌ أخلاقي يرفض العالم والحياة، ولا يجد في أي وسيطٍ في الدنيا قدرةً على التعبير عن هذا الجلال المرعب. إلا أن الصمت- وهذه لعنة البشرية-، ينقلب إلى صراخ، وعويل أنين متحجر داخل ما نسميه الأنا. لذلك نسأل: ماذا يقبع خلف الصمت؟ أي مكانٍ لنا خارج اللغة والكلام؟ وهل في الحياة صمتٌ مطلق؟

بيرسونا

فيما وراء القناع

 يُشير اسم الفيلم personaإلى القناع، وهي كلمة لاتينية تدل على القناع المسرحي، ومنها جاءت الكلمة الإنجليزية personality. وهذا يطرح عدة أسئلة من خلال سياق الكلمة الإيتمولوجي: ما العلاقة بين القناع والشخصية؟ وهل كل شخصية هي قناع؟ ماذا نعني بالقناع أصلًا؟ وهل بالضرورة هناك شيء ما جوهري خلف كل قناع؟

قبل أن نتعمق أكثر في السياق العام لظاهرة الشخصية تاريخيًّا، دعونا نلقي نظرةً فاحصة لبعض النصوص المهمة التي ذكرها المخرج ذاته في سيرته، وهي تكشف جدلية مهمة في سياق تحليلنا لهذا الفيلم. يقول بيرغمان في مذكراته واصفًا انهياره العصبي بعد تهمة الضرائب التي نزلت عليه: “مع ذلك فإن موقفي من الحياة كان يفترض وجود سيطرةٍ مستمرة ولائقة على العلاقة بالواقع والتخيلات والأحلام، وعندما كانت تتعطل هذه السيطرة – وهو أمر لم يحدث لي من قبل حتى في طفولتي المبكرة- كانت أنظمتي تُصاب بالخلل وتتعرض هٌويتي للخطر، فأسمع صوت أنيني يشبه كلب جريح. نهضت من الكرسي وكنت على وشك أن ألقي بنفسي من النافذة”.

إن تحليلًا لسانيًا بسيطًا لهذا النص يكتشف تضادات بنيوية بين النظام والفوضى، الهُوية والضياع، السيطرة والانحلال أو التفكك. هذه هي جدلية الفيلم ذاتها، فنحن أمام شخصيات يدافعون عن هوياتهم ولكنها تتمزق رُغمًا عنهم.

بيرسونا

لهذه الظاهرة تاريخٌ طويل في معركة الانسان مع الحياة، وهذه صفة الفن الرفيع حيث لا يعكس فقط واقعًا تاريخيًّا محدودًا داخل زمان ومكان بعينه، بل يعكس قلب الوجود، صوت الأرض والحياة، لذلك يعد هذا الفيلم جرعةً وجودية عالية. ومثل هذه الجرعات تُعيد إلى تلك الجملة الثاقبة التي ذكرها نيتشه في كتابه “هذا هو الإنسان”: “ما مقدار الحقيقة التي يمكنك تحملها؟” نعود فنسأل: عند ضياع الهوية وفقدان السيطرة ماذا يحدث؟

في الحقيقة هناك مستويات عدة، وهنا نلمس عبقرية الحبكة في فيلم “بيرسونا” الذي قدم جدلية ضد الهيغلية وكذلك جدلية تتجاوز جدليات الايمان عند كيركغارد. ومن هذه الجدلية البيرغمانية،اعتبرت الفيلم ما بعد حداثي بامتياز.

لنقرأ نصًا للمخرج ذاته يحيلنا مباشرة للجواب المطلوب،علمًا بأن هذا النص يحكي عمّا شعر به عندما كان في المستشفى: “كان الجو هناك مهدئًا بالنسبة لي، فعملت باجتهاد وكتبت الخطوط العريضة لفيلم(الغرفة المغلقة)، وشيئًا فشيئًا بدأت أشق طريقي في دروب غير مألوفة تجعلني أحس دائمًا بالصمت،وبأنني فقدت طريقي فعلًا. لقد كانت الكتابة جزء من نظامي اليومي”.

 نلاحظ داخل ذات البنية اللغوية تضادات بين النظام الفوضى، الهوية والصمت. إلا أن الصمت هنا يجب أن نلاحظه جيدًا، وعليه أطرح الجدلية ما بعد الحداثية من خلال سؤال: ماذا بعد فقدان الهُوية؟

إن الجدل قديم في تاريخ الغرب، وقد وجد علاماته الواضحة منذ أفلاطون، حيث ينتهي الجدل إلى العلة القصوى للحياة وأعني هنا الخير المطلق. بعد ذلك في القرن التاسع عشر وضع هيغل نظامًا صارمًا للجدل ينتهي بالهُوية والثبات في التغير، وعنده الروح المطلقة هي التي تحرك التاريخ. بينما كيركغارد يُنهي جدله من خلال مقولة الإيمان بمعنى آخر، عندما تفقد هويتك وتفقد النظام، عليك أن تفنى في الرب والإله. نلاحظ في كل هذه الصيغ أن هناك جوهرًا مطلقاً ومتعال، يفرض النظام بعد دخول الفوضى، يحافظ على الذات عند ضياعها وحين تفقد هويتها. ما قدمه بيرغمان هو عكس ذلك تمامًا، وأعني الصمت، الذي من وجهة نظري يساوي الفراغ والعدم. هنا الجدلية لا تنتهي إلى شيء مطلق وجوهري؛ بل إلى الفراغ والعدم ومزيد من التيه، إلى ضربٍ من المسرح حيث يتبادل البشر أقنعتهم باستمرار.

بيرسونا

 جدلية الفيلم مرت بثلاثة أطوار وكل جدلية هي ثلاثية:

  • المقدمة(ACT1) حيث كلتا الشخصيتين تملكان هوياتهما كما هي
  • المنتصف(ACT2) تصاعد الحبكة والصراعات الديناميكية بين الشخصيتين
  • النهاية(ACT3) لقاء العدم. فليس خلف الهويات شيٌ يذكر. نلاحظ ذلك في مشهد قبل نهاية الفيلم حيث تدخل ألما على اليزابيث وهي فراش المستشفى وتقول لها رددي معي ثم تقول “لا شيء”.

إذن ما خلف الأقنعة ليس هُويةً جوهرية ومتعالية؛ بل العدم والفراغ أو اللاشيء. وهذه سمةٌ أصيلة لكل تلك الفلسفات ونظريات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما صار يسمى عصر ما بعد الحداثة أو عصر موت السرديات الكبرى كما يقول ليوتار.

فيلم “بيرسونا” من حيث الشكل والمضمون يصل بنا إلى هذه النتيجة. إن أول ما ندركه من المشهد الأول أن هذا الفيلم هو فيلم وليس شيئًا أخر:نرى شريط الفيلم وهو ينسدل مع مجموعة من الصور التي تنهمر علينا كمشاهدين، ثم تأتي تلك اللقطة الجريئة حيث نشاهد صبيًا يترك كتابه جانبًا ويلمس شاشة سينمائية عليها وجه اليزابيث وألما في تداخل هوياتي رهيب. نحن موعودون بمشاهدة حُلم وسينما وظلال، ولكن في ذات الوقت حقيقةً لا جدال فيها. وهذا ما أسميه الواقع الفيلمي، فمن سمات عصرنا أن مفهوم الواقع فلسفيًّا وعلميًّا وتحديدًا بعد ثورة الكوانتم بات فضفاضًا لا يمكن القبض عليه. إن المشهد الأول يقول بصوت مرتفع لا فرق بين الواقع والأحلام، ومن ثم لا فرق بين الصورة السينمائية والحياة اليومية. ولو وضعنا هذا الجدل داخل تاريخ السينما؛ لوجدنا أنه يقف في تعارض قوي مع روسيلينيفي المرحلة نفسها التي أنتج خلالها ثلاثية الحرب. الواقع ليس هو ما نسجله كما هو، لأنه ليس هنا كما هو أو الشيء في ذاته.

بيرسونا

التجريد لا يُحيل إلى شيء

 من الطريف أنه في ذات السنة التي ظهر فيها “بيرسونا” ظهر أيضًا فيلم المخرج الإيطاليأنتونيونيblow-up، ومن الطريف أيضًا أن وفاتهما “بيرغمان وأنتونيوني” كانتا في نفس اليوم والليلة. لكن ما هو وجه التشابه بين الفيلمين؟

التجريد هو نقطة انطلاقهما. فيلم أنتونيوني يتحدث عن مفهوم الواقع الجوهري للحياة، وبلو أب تعني التقريب أو تقريب الصورة أكثر ما يستطيع الإنسان تقريبه. عندما نبدأ بتقريب صورةٍ ما ونستمر بهذه العملية تتحول الصورة إلى مجموعةٍ مشوهة من المربعات والظلام، أي تختفي الصورة، وهذا ما يفعله التجريد. إن الاقتراب من الواقع أكثر من اللازم يعني فقدانه وزواله، من ثم لا يوجد واقع جوهري في الطبيعة.

فيلم “بيرسونا” هو الآخر يعتمد على التجريد، إلا أنه يصب اهتمامه على الانسان ذاته.منذ بداية الفيلم حتى نهايته نلاحظ تلاعب قوي بالزمان والمكان، فلا المستشفى مستشفى ولا الكلام كلام، ولا الزمن زمانًا طبيعيًا. إن التجريد هنا يحمل دلالتين: أولًا: هو محاولة من المخرج لعزل الظاهرة المدروسة، وهذا هو قلب ولب الحداثة العلمية التي بدأت مع غاليليو، أي عزل ظواهر الطبيعة وتحييدها من أجل دراستها بدقة. العزل يعني أيضًا وضع الظاهرة في بيئةٍ مثالية حتى نلاحظها وندرسها بدقة. وهذا ما فعله بيرغمان في فيلمه، فكل شيء في خدمة الشخصيتين؛ المكان والزمان وحتى الشخصيات. فعند ظهور زوج اليزابيث في أحد المشاهد يقدم لنا المخرج زوجًا أعمى، إذ لو لم يكن كذلك لعبث الزوج في الحبكة وأدرك أن الذي يتحدث معها هي ألما وليس زوجته. الزوج هنا ليس مهمًا، ولا الزمان والمكان مهمين، ما يهم حقًا هو ألما واليزابيث. وهما بالمناسبة شخصيتين حقيقتين ليس كما ذهبت سوزان سونتاغ بأنهما شخصية واحدة والأخرى مُتخيَّلة.

 إن الشكل السينمائي في هذا الفيلم وضع في قالب سينمائي، بمعنى أن المخرج يريد أن يقول لك هذا فيلم وليس شيئًاآخر. مع ذلك لا يعني هذا أنه ليس حقيقيًّا. وهذا ما يذكرني بفلسفة الفن عند هايدغر حيث يرى أن حقيقة الواقع تحدث في الفن، وأن الواقع ليس مرجعًا يستند عليه الفن.

الفيلم مغطى تمامًا بالبياض والسواد واللون الرمادي، وهو أيضًا شريط عرض يحترق في منتصف الفيلم على وجه ألما، تذكيرًا بأنه فيلم سينمائي، وبأن ألما فقدت ذاتها أمام صمت الممثلة.

لقد بلغ تجريد الشخصيتين أقصاه في ذلك المشهد الرهيب، حيث ألما تواجه اليزابيث وتحكي لها سبب كره الممثلة لطفلها، تبدأ بتعريتها تمامًا، والحياة العارية هي حياة مُستلبة من كل صفاتها، ومن ثم لا يبقى لها جوهر كما يؤصل الفيلسوف الإيطالي جيورجيو أغامبن. هنا تأخذ الكاميرا سلسلةً من اللقطات العنيفة والمرهقة تبدأ باليد ثم تنتهي بالانصهار والاندماج المرعب بين ألما واليزابيث.

فقدان هويتك لا يعني أنك أنا ولا أنا أنت؛ يعني ببساطة بأن كلانا ننتهي للفراغ،ننتهي حيث اللاشيء الذي تردده ألما قبل نهاية الفيلم بقليل. ثمة أيضًا ملمح تعبيري وأعني أثرٌ قادم من مكان بعيد،وهو علاقة الخارج بما يحدث في الداخل، أي وجه العالم وأثر صراعاتنا عليه.

في الفن التشكيلي كانت الانطباعية في القرن التاسع عشر أول من لمحت إلى أثر الحواس على ما نشاهده، كما نرى في لوحات مونييه ورينوار، ومن ثم ظهرت التعبيرية الألمانية،ولوحة الصرخة لمونك التي نشاهد فيها شخصًا واقفًا يصرخ والعالم من حوله يسيل ويتحلل، كذلك لوحة الساعات الذابلة لدالي، ثم نرى هذا الأثر سينمائيًّا مع التعبيرية الألمانية الصامتة مثل “الدكتور كاليغاري”حيث المكان يذوب في الأنا الفردية، المكان ليس ثابتًا وليس صلبًا بل هو انعكاس لوجدانياتنا.

في فيلم بيرغمان نلاحظ الأمر ذاته، حيث التلاعب المستمر بين الضوء والظل بحسب ما تمر به شخصياته، وكذلك ضيق الكادر وتجريد الزمان والمكان، وعدد اللقطات الكثيرة المقربة للوجه، هي إشارةٌ واضحة على غرق هذه الشخصيات في ذاتها. إنه غرق فاوستي وهوس جنوني يقف خلفه شعارات عدة كالتقدم العلمي والحياة الحقة والحلم الأمريكي والسيادة على الطبيعة وقهرها. كل هذه نصوص محمومة بهاجس البحث عن الذات الحقيقة،ولا أدل من ذلك على أن الحكمة الأولى لدى اليونان والتي كتبت على معبد دلفي “أعرف نفسك”.

إن الحفر الطويل داخل الذات كما فعل أنتونيوني عند تقريب الصورة أكثر من اللازم، يعني الوصول إلى اللاشيء.وهذا ما قدمه بيرغمان بطريقةٍ ساحرة،وهو ذاته يشهد على ذلك حيث يقول “اليوم أشعر إن في بيرسونا وصلت إلى أبعد ما يمكنني أن أصل إليه من ناحية التعبير الفني والإنساني، كما أدرك إنني حين تمكنت من أن أعمل واحقق أعمالي وسط مناخ من الحرية الخالصة وصلت إلى ملامسة أسرار لا كلام فيها من المؤكد أنه ما من فن غير السينما يمكنه كشفها”.

إن موضوع الصمت لدى بيرغمان ليس جديدًا، فقد تكرر مرارًا من خلال ثلاثيته الشهيرة وتحديدًا فيلم(الصمت). إلا أن الصمت الذي نشاهده هنا هو صمت الإله، وليس قرارًا بشريًا يُتخذ من أجل مواجهة العالم أو التكيف معه.إن الصمت لا يعني في كل هذه الأشكال عدم الكلام؛ بل يعني عدم التواصل الدلالي بين ذات وموضوع، أو بين الأنا والآخر. فلو تتبعنا مفهوم صمت الإله لوجدنا بأنه يتكرر كثيرًا في الأدبيات المسيحية، وكذلك فيما بعد منذ عصر النهضة حتى يومنا هذا.إن تهمة الصمت في هذا المقام تعني عدم وجود علامة أو أمارة من الإله لتهدي الإنسان، وهذا ما أعنيه بأن الصمت لا يعني عدمًا بل يعني عدم التواصل الدلالي؛ إذ من الجائز أن نقول إنه ليس هناك صمت للرب؛ بل هناك لغة لا نعيها. وحتى هذه النقطة هي ما يتذرع به القساوسة عند الدفاع عن الإله، فيكررون تلك المقولة الشهيرة ” للإله طُرق لا يدركها البشر وكلها خير”.

في المقابل نجد سارتر، الذي أنكر المسيحية،يوجه ذات الاهتمام للطبيعة؛ فهي صامتة، ويعني أنها لامبالية. من هو اللامبالي؟ الطبيعة أم نحن من نُسقط عليها مفاهيمنا؟ وحتى صمت اليزابيث لا يعني عدم الحديث بل يعني تحولًا دلاليًّا في أشكال الخطاب. والمهم هنا هو أن نعي أن الصمت له مستويات عدة، وكما يفرق المسكيني بين الصمت والسكوت؛ كذلك علينا أن نفرق بين صمتٍ وأخر.

من المشروع أن يطرح القارئ سؤالًا: ما هو الفراغ أو العدم الذي تعنيه في هذه المقالة والتي تزعم أن بيرغمان كان يقصده أيضًا؟

في البداية الفراغ يعني هنا عدم وجود جوهرٍ ثابت ترتكز عليه الذات ومن ثم تؤسس هُويتها، وثانيًا الفراغ يعني ضربًا من التماهي والتحايث مع صيرورة الطبيعة ومن ثم اللا-ذات، والتسليم بحركة الطبيعة المستمرة. والمعادلة في بحثنا عن ذواتنا لن تعود ذاتًا أصيلة وأخرى مزيفة، وسعينا في الحياة بحثًا عن الأصالة.

بل هي – أي المعادلة ما بعد الحديثة-هي جدلية بين قناع وآخر، حيث يكون الزيف ذاته أصالة والأصالة زيف. الفراغ يعني مرةً أخرى أننا لا نملك ذاتًا جوهرية ومتعالية وكما يقول سبينوزا في كتابه(الأتيقا) بأنه لا يشترط أن يموت الشخص حتى نعلن وفاته، بل بمجرد أن يفقد ذاكرته تمامًا يُعد ميتًا.ومع ذلك فالفراغ والعدم لا يمكن وضعهما في حدٍ مانع جامع، فهما ضد الحدود ومن ثم ما الفراغ وما العدم سؤالًا مفتوحًا ولن ينتهي عند نهاية هذه المقالة.

  • هذا المقال نتيجة لدورة النقد السينمائي، التي عقدتها هيئة الأفلام في الرياض خلال شهر مارس 2024 بإشراف الناقد السينمائي أحمد شوقي.

اقرأ أيضا: في سماء الفن السابع

شارك هذا المنشور