إن كان يصعب اليوم، مع حداثة عهد السينما السعودية في القرن الحادي والعشرين، إطلاق لقب رائد على أحد صُنّاعها، فإن المنتج والمخرج المخضرم عبد الله المحيسن يُعد من روادها الحقيقيين الذين قدموا لصناعة السينما الكثير، بل وأخلصوا لها على مدار عقود، رغم التحديات والصعوبات التي واجهها في مسيرته الممتدة لأكثر من نصف قرن، ليكون شاهداً على تاريخ السينما السعودية. تلك المسيرة التي يجب الاحتفاء بها، وتكريمه في مؤتمر النقد السينمائي بالرياض، في دورته الثانية.
في رحلته التي بدأت من مكة المكرمة مع إتمام تعليمه الأساسي، ثم انتقاله إلى لبنان للدراسة في المرحلة الثانوية، التي تبعها بالانتقال إلى بريطانيا في نهاية الستينات للدراسة الفنية والسينمائية في أقدم مدرسة للسينما، مدرسة لندن للسينما، بجانب التحاقه بالأكاديمية الملكية البريطانية للتلفزيون، حيث قضى فيها ستة أشهر من التدريب النظري والعمل على الإنتاج والإخراج التلفزيوني.
شغف المحيسن بالسينما بدأ منذ طفولته خلال تواجده في مصر ومشاهدته للأفلام في العطلات الأسبوعية، بالإضافة إلى المسرحيات وأفلام الكرتون التي شاهدها أيضاً كأفلام تعليمية خلال دراسته الابتدائية في السعودية، حيث كانت تُستخدم في مادة العلوم لشرح العديد من المواضيع، مثل الصراع بين كرات الدم البيضاء والحمراء في جسم الإنسان.
وإن كانت المصادفة خلال دراسته الثانوية في لبنان قد ساعدته على الارتباط أكثر بالسينما، نظراً لإقامته مع أحد النقاد الذي كان يناقشه في الأفلام التي يشاهدها، فقد أدرك حينها أن بريطانيا ستكون المكان الذي يبدأ منه دراسته في السينما، والتي بدأها مركزاً على النقد السينمائي.
خلال السنوات الست التي قضى معظمها في لندن، وتحديداً حتى عام 1975 حين عاد إلى السعودية، ظهرت معالم فلسفة المحيسن الفنية، التي فضّل أن يبدأها من بلده السعودية؛ فأسس الشركة العالمية للدعاية والإعلان، وأنشأ أول استوديو تصوير سينمائي في نفس العام، وافتتح في العام التالي أول استوديو إذاعي متكامل يمتلكه القطاع الخاص. ومع بداية الثمانينات، وتحديداً في عام 1981، أسس أول وحدة إنتاج نقل خارجي في السعودية، التي عمل من خلالها على استقطاب الكفاءات المتميزة وتدشين اتفاقيات تعاون مع جهات وشركات حكومية وإعلامية حول العالم.
لم تجعل خطوات المحيسن السريعة منه رائداً في افتتاح الاستوديوهات فقط، بل اهتم أيضاً بجمع التراث الشعبي السعودي من خلال عمله على توثيق مدن المملكة بالصوت والصورة، وكان من أوائل المنادين بفكرة الإنتاج العربي التلفزيوني المشترك، كما خاض تجربة الإنتاج بالشراكة مع التلفزيون المصري من خلال مسلسلي «اللهم إني صائم» عام 1976 ومسلسل «رمضان والناس» في العام التالي.
جزء آخر من مسيرة المحيسن الفنية اهتم فيه بالتدريب والتأهيل الأكاديمي، فأنشأ قسماً للإعلان لتقديم الحملات التوعوية والإعلانية، وأسس أقسام الإنتاج التلفزيوني بشركته، التي أنتجت أول فيلم وثائقي باستخدام الكاميرا المتنقلة، بجانب إنتاجه لأول أفلام كرتون عربية لصالح وزارتي الصحة والمعارف السعودية نهاية السبعينات.
يمكن رصد ريادة عبد الله المحيسن السينمائية من خلال إخراجه لأول فيلم سعودي قصير عام 1974 بعنوان “تطور مدينة الرياض”، الذي عُرض في مؤتمر “الاستيطان البشري” ونال شهادة تقدير من الأمم المتحدة، وشارك بعدها في مهرجان القاهرة بدورته الأولى ضمن الأفلام القصيرة.
ويُعد عبد الله المحيسن من السينمائيين السعوديين الأوائل الذين تواجدوا في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دوراته الأولى، بل وحصد عن أعماله جوائز في منافسات قوية؛ بدءاً من عرض فيلمه القصير، مروراً بعرض فيلمه الطويل «اغتيال مدينة» الذي ناقش أبعاد المشكلة اللبنانية وحصد جائزة «نفرتيتي» الفضية، مع ترشيحه لعضوية لجنة تحكيم المهرجان، وصولاً لحصوله على جائزة نفرتيتي الذهبية عام 1983 عن فيلمه «الإسلام جسر المستقبل»، الذي اعتمد فيه على إظهار صراع القوى العالمية على المنطقة العربية والإسلامية.
كما شارك المحيسن كعضو لجنة تحكيم في مهرجان الخليج الأول للإنتاج التلفزيوني، واختير عضواً في اتحاد الفنانين العرب، وتلقى شهادات تقدير وشكر وتكريم من عدة قادة حول العالم، إذ كان مهموماً بقضايا مجتمعه ومحيطه، الأمر الذي شجعه على إخراج فيلم «الصدمة» الذي ناقش الآثار التي تركتها حرب الخليج، وهو العمل الذي عُرض في مهرجاني القاهرة ودمشق.
في مسيرته الفنية التي قدم خلالها العديد من التجارب السينمائية المتميزة، اعتمد المحيسن على توظيف الموسيقى والصوت والإضاءة بطرق مختلفة ومغايرة، مما مكّنه من ترك بصمته الخاصة في تجاربه التي عكست نتاج دراسته الأكاديمية وسعيه لمواكبة المتغيرات السينمائية بشكل مستمر.
إنشغال المبدع السعودي بالتطور المتلاحق في عالم التكنولوجيا جعله يُبادر لإطلاق مجلة “ستالايت جايد”، التي تُعد أول مجلة عربية متخصصة في البرامج والقنوات الفضائية، والتي صدرت عام 1994، بينما لم يتوقف اهتمامه بالسينما مع تدشينه لأكاديمية متخصصة في فنون السينما والإنتاج الإعلامي خلال السنوات الأخيرة.
اقرأ أيضا: تفاصيل النسخة الثانية من مؤتمر النقد السينمائي في الرياض