لمرة ثانية في تاريخه، يفتتح المخرج الألماني توم تيكفر، 59 عامًا، مهرجان برلين السينمائي (13 – 23 شباط). 16 سنة بعد «العالمي» الذي كان صوّره في عاصمة بلاده بممثّلين من خارجها، يعود إلى ساحة مارلين ديتريتش لإطلاق «الضوء»، أحدث أعماله المعروض خارج المسابقة. انطلق تيكفر في مطلع التسعينات، لكن طار صيته مع «اركضي لولا اركضي» (1998) الذي كان نوعًا من انتفاضة على كيفية اللعب بالسرد التقليدي. بقية مسيرته تظهر خلط طموحات وتنوع اتجاهات وتجارب: أفلام هوليوودية ضخمة، أفلمة لسيناريو تركه كشيشتوف كيشلوفسكي، اقتباس لرواية شهيرة («العطر» لباتريك زوسكيند) وانخراط في سلسلة «ماتريكس» بصفته مؤلف الموسيقى! من دون أن ننسى فيلمه الجدلي «ثلاثة» الذي «أزعج» بعض النقّاد العرب حين عُرض في مسابقة البندقية قبل عقد ونصف العقد.
بضعة أسطر متوافرة عن «الضوء» تكشف أنه عن لاجئة سورية تعمل مدبّرة منزل عند عائلة ألمانية فتأتيها بلمسة وجود مغايرة تضيف بُعدًا جديدًا لبعض المفاهيم المرسومة. رغم وجود نحو مليون لاجئ سوري في ألمانيا منذ أكثر من عشر سنوات، فالسينما الألمانية لم تعر اهتمامًا كبيرًا بهم، واقتصر طرح هذه الظاهرة على أعمال هامشية. لذلك، يصح اعتبار فيلم «تيكفر» أول عمل من هذا الحجم يتناولهم، مجسّدًا على الشاشة قصّة من قصصهم، وذلك من على منبر البرليناله. ومع ذلك، فإن الحذر واجب، ذلك أن الأفلام التي اعتادت إدارة برلين برمجتها للافتتاح، غالبًا لا تحلّق عاليًا في فضاء السينما، ويكفي أن نتذكّر خيار العام الماضي والأعوام السابقة. وهي تأتي أحيانًا من اعتبارات غير فنية. ثم أن عدم ضمّه إلى المسابقة، نقطة إضافية كي لا نأمل منه الخير. لكن، لننتظر ونرَ!

19 فيلمًا طويلًا ستشارك في مسابقة هذه الدورة التي تحمل الرقم 75. أحدث الإنتاجات من فرنسا وأميركا والمكسيك والصين ورومانيا وغيرها. كأي مهرجان يجذب اهتمامًا إعلاميًا، الرهان الأبرز هو دائمًا وأبدًا على المسابقة التي تُعتبَر «وجه السحّارة»، ولو أن الفقرات الكثيرة الأخرى من شأنها تذكيرنا بأن الجواهر قد لا نجدها بالضرورة في الواجهة الأمامية. المسابقة تعني أسماء مكرّسة تثير الرغبات، نجومًا وقامات كبيرة وسجّادة حمراء وغلامور، ولكنها تعني أيضًا وافدين جددًا، اكتشافًا من هنا ولقية من هناك، ورهانات جريئة قد تصيب أو تخيب. نظرة سريعة على لائحة أفلام هذه المسابقة تزج بنا في حالة من الـ«مممممم» الطويلة، إذ لا نعرف ماذا نفكّر وماذا نقول… وأي كلام ينفع أصلًا ونحن لم نشاهد شيئًا بعد؟! ثمة احتمال ان نكون أمام تشكيلة رائعة أو حيال خيبة، ومَن يعرف قد تكون قليلًا من هذه وبعضًا من تلك. مجددًا: لننتظر ونرَ. الجواب عن التساؤلات في نهاية المهرجان دائمًا.

الأسماء الكبيرة والمثيرة تذهب إلى كانّ والبندقية بدرجة أقل. هذه حقيقة تكاد تكون «علمية». ويأخذ برلين ما يستطيعه منذ لحظة انعقاد البندقية (أيلول من كلّ عام) وصعودًا، وما يراه مناسبًا لتشكيل ملامح تظاهرة شعبية كبيرة سجّلت العام الماضي 447655 مشاهدًا من بينهم 329502 دفعوا ثمن تذاكرهم. ننسى أحيانًا حقيقة أن هذا المهرجان حدث جماهيري أولًا. ثم أن توقيت المهرجان في ظروف الشتاء القارس (ما عاد قارسًا كما قبل عقد أو عقدين) يمنع عنه الغلامور (ليس أولوية في أدبيات الألمان) الذي يوفّره كانّ والبندقية. هكذا هي الحال منذ بضع سنوات: بعض الدورات تحمل من القيمة أكثر من غيرها. لكن ما حدث في عهد كارلو شاتريان من مهاترات سياسية وتفشّ للجائحة وتعثّر واتهامات باستنساخ روح لوكارنو، انتهى باستقالته واستبداله بالأميركية تريشا توتل بعد دورة العام الماضي، الكارثية سياسيًا، إذ ساد انطباع بأن المهرجان أصبح «ساحة» للصراع الدائر في الشرق الأوسط. وعليه، لم يكن«شاتريان» الذي جاء مصقولًا بتجربة إدارة مهرجان لوكارنو مسؤولًا عن كلّ هذا التخبط، ويجب إعطاء ما لقيصر لقيصر، إذ ندين له من بين أشياء أخرى بإقامة تكريمين تاريخيين: واحد لسبيلبرغ وثان لسكورسيزي.
مع استلام تريشا توتل الإدارة ككلّ (بعد سقوط نموذج الإدارة المزدوجة)، وهي التي كانت المسؤولة سابقًا عن مهرجان لندن السينمائي، يتوقّع البعض تغييرات جذرية، لكن لم نرَ إلى الآن إلا بعض التعديلات الشكلية التي تنم عن إثبات حضور. فالمؤسسات الثقافية العريقة في الغرب لا تتغيّر بين ليلة وضحاها، بسبب امتداداتها وجذورها التي تضرب في التقاليد الراسخة، ويصعب عليها تبنّي حلول أشبه بحلول العصا السحرية. المسألة تتعلّق بالتحسين وتلافي الأخطاء المتكررة، وهذا عمل تراكمي يحتاج إلى وقت وإرادة ودعم ورؤية وقرار سياسي واستقلالية.
من بين الأفلام المنتظرة هذا العام:
1 – «بلو مون» للأميركي ريتشارد لينكلايتر مع مارغريت كويلي وإيثان هوك. يحملنا الفيلم إلى ليلة افتتاح مسرحية «أوكلاهوما!» الغنائية في برودواي، ليروي انطلاقًا منها فصولًا من سيرة كاتب الأغاني الأميركي لورنز هارت (1895 – 1943)، صاحب أغنية «بلو مون» الشهيرة.

2 – «أحلام» للمكسيكي الغزير ميشال فرنكو الذي بعد فيلمه الأخير، «ذاكرة» (شارك في البندقية)، يتعاون مجددًا مع جسيكا تشاستاين حول قصّة عن راقص باليه من المكسيك يحلم بالشهرة، فيصل إلى الولايات المتحدة معتقدًا بأن حبيبته (تشاستاين) ستدعمه، لكن وصوله سيعكّر عالمها.

3 – من رومانيا، هناك رادو جود، المخرج المغاير الذي سبق أن نال «الدبّ» عن «مضاجعة متعثّرة أو بورنو أخوت». لجود هواجسه السياسية ومشاغله الاجتماعية وقد طرحها بأشكال مختلفة في معظم أفلامه الأخيرة. جديده عنوانه «كونتيننتال 25». هكذا يُعرف المهرجان الفيلم: «باستخدام مزيج من الدراما والكوميديا، يتناول الفيلم مواضيع مثل أزمة الإسكان والاقتصاد ما بعد الاشتراكية والقومية وقوة اللغة في الحفاظ على المكانة الاجتماعية، وذلك بمنهج حاد وعبثي متأثّر بالأفلام».

4 – رغم أني لستُ أكبر هاو لمعظم ما قدمّه مؤخرًا، فالمخرج الكوري الجنوبي هونغ سانغ سو، عائد إلى برلين لا محالة مع جديد منتظر (هل هو فعلًا جديد؟)، بعد عام فقط على مشاركته في المهرجان نفسه بعمل كانت لعبت بطولته إيزابيل أوبير، وجاء ذلك امتدادًا لمشاركات شبه سنوية في هذا المنبر الذي يرحب به على الدوام. شاعر في الثلاثينات، يزور من غير قصد منزل عشيقته. بهذه البساطة، يختزل أحد المصادر الخطوط الرئيسية للفيلم، وما أدراكم ما هي الخطوط الرئيسية عند هذا الفنّان الذي غالبًا ما يُلقَّب بـ«إريك رومير» الكوري.

5 – دائمًا في خانة الأفلام المنتظرة داخل المسابقة: «يونان» للمخرج أمير فخر الدين من الجولان المحتل. منذ فيلمه الثاني، دخل المخرج الذي لفت الانتباه مع «الغريب» (البندقية) إلى المسابقة، بفيلم أُسندت البطولة فيه إلى الممثّلة الألمانية الشهيرة هانا شيغولا والممثّل اللبناني جورج خباز في دور منير الذي يسافر إلى جزيرة نائية للتفكير في اتخاذ قرار مهم، وهناك سيلتقي بفاليسكا الغامضة (شيغولا) وابنها كارل. وستنشأ بينهما علاقة قائمة على كلام قليل ولطف والتغلّب على الخوف من الآخر، ممّا يتيح عودة الحياة مجدداً إلى مجراها. بقية أفلام المسابقة غير المذكورة هنا سنعود إليها لاحقًا، وهي رهن للاكتشاف.

خارج المسابقة، نجد حفنة من الأفلام المهمة، عدم ضم بعضها إلى المنافسة يبقى محل استغراب، وهذه حال «ميكي 17» للمخرج الكوري الجنوبي الشهير بونغ جون هو الذي سبق أن نال «سعفة» كانّ عن «طفيلي». الفيلم من صنف الخيال العلمي نقله المخرج من رواية لإدوارد أشتون نُشرت قبل ثلاثة أعوام فقط وهو من بطولة روبرت باتيسون. خانة «بانوراما»، أهم أقسام البرليناله بعد المسابقة وأعرقها، تضم 24 فيلمًا، فيها أعمال من مختلف المشارب والجنسيات، سنبحر على أمواجها في الأيام القليلة المقبلة، حبذا لو نعود منها بصيد ثمين.
في إطار التغييرات الطفيفة التي طرأت على برلين: إضافة قسم جديد بعد إلغاء قسم «لقاءات» الذي كان أسّسه المدير السابق. القسم الجديد المعروف باسم «برسبكتيف» يضّم مجموعة أفلام هي أولى التجارب الإخراجية لأصحابها أو ما يُعرف بـ«الفيلم الأول». سيُعرض فيها «المستعمرة»، باكورة المصري محمد رشاد، عن شاب اسمه حسام من الإسكندرية ينوب عن والده في العمل بعد وفاة الأخير. أقسام أخرى، أعرق، من مثل «جيل» و«فوروم» و«فوروم ممتّد»، ستواصل تقديم، وبكلّ وفاء، كم من الأفلام التي تحاكي خطّها التحريري المتأصّل منذ سنوات انطلاقًا من رؤيتها الخاصة للفنّ السابع وتكريسًا لقناعات إيديولوجية أو فنية وبصرية. بيد انه للأسف، لا يسمح ضيق الوقت لمعاينة كلّ هذه الأعمال المعروضة في حيز بعيد من المسابقة. هناك ما لا يقلّ عن 130 فيلمًا طويلًا في الأقسام الأساسية، ممّا تعجز القدرة الآدمية على متابعتها جميعها.

بعد سكورسيزي العام الماضي، البريطانية تيلدا سوينتون هي التي ستُمنح جائزة «الدبّ الفخري» عن مجمل أعمالها. عودة إلى الينبوع لهذه الفنّانة الستينية التي انطلقت من برلين قبل نحو أربعة عقود. هذا كله سيحدث تحت العينين الساهرتين للجنة التحكيم التي يترأسها المخرج الأميركي تود هاينز بعد عامين كانت أُسندت فيهما هذه المهمة إلى فنّانتين… دائمًا من أميركا.
اقرأ أيضا: أبرز المشاركات العربية في الدورة 75 من مهرجان برلين السينمائي