فاصلة

مراجعات

«برج الجليد».. انعكاسات سينمائية في مرايا الأسطورة

Reading Time: 4 minutes

تسكن أرواح اليتامى والأطفال البؤساء قصصنا منذ الأزل، كما لو أنه هناك خيط واحد من الدموع بدأ عند فتيات الإخوان جريم المحبوسات في قلاع بعيدة عن الأنظار، ومر على الفتيان المقهورين في حواري لندن تشارلز ديكنز، وانسكب حتى وصل إلينا في ملامح هاري بوتر وهو يحدق في انعكاس والديه المفقودين في مرآة إيريسيد.

تمسك لوسيل هادزيهاليلوفيتش، كاتبة السيناريو والمخرجة الفرنسية، طرف هذا الخيط، وتنسج منه أفلامها التي تستكشف عوالم طفولة تائهة بين البراءة والرعب، يصير فيها المكان فخًا، والعالم متاهة من الأسرار والمخاوف.وفي قلب هذه العوالم، نلتقي بجان، بطلة فيلمها الأحدث «The Ice Tower»، الذي عُرض لأول مرة هذا الأسبوع ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي في دورته الخامسة والسبعين.

تقف جان على أعتاب المراهقة، وتعيش في مكان ناءٍ مع مجموعة من الأطفال اليتامى، وهي أكبرهم. تحفظ عن ظهر قلب قصة «ملكة الجليد» لهانز كريستيان أندرسن.

برج الجليد
The Ice Tower (2025)

تروي القصة حكاية كاي، الذي يُصاب بشظية من مرآة سحرية، تجعل قلبه باردًا كالجليد وعينيه غير قادرتين على رؤية الجمال أو الحب. تأخذه ملكة الجليد إلى قصرها المتجمد في أقاصي الشمال، حيث ينسى ماضيه تمامًا، بينما تخرج صديقته المخلصة غيردا في رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر لاستعادته. تعبر غيردا أنهارًا متجمدة وغابات مظلمة، وتلتقي بساحرات وحيوانات ناطقة، لكنها لا تتخلى عن هدفها. وفي النهاية، بقوة حبها ودموعها، تذيب الجليد الذي أسر قلب كاي وتعيده إلى ذاته.

تردد جان هذه الحكاية كما لو كانت تعويذة تستدعي بها غيردا الخاصة بها، ولأن غيردا لا تظهر، تهرب جان من ملجأ الأيتام وتذهب إلى المدينة للبحث عنها. لكن في قلب المدينة البارد، بدلًا من لقاء غيردا، تجد جان نفسها تقف وجهًا لوجه مع ملكة الجليد.

برج الجليد
The Ice Tower (2025)

بجمال ناءٍ وعيون تنظر إليك دون أن تراك، تؤدي النجمة الفرنسية ماريون كوتيار دور الممثلة كريستينا فان دير بيرج، التي تلعب بدورها ملكة الجليد في فيلم داخل الفيلم. منذ أن تقع عينا جان على كريستينا في رداء ملكة الجليد، تنشأ علاقة متوترة بين الاثنتين، تكون بمثابة الدينامو – الوحيد ربما – الذي يدفع بالأحداث إلى الأمام في عمل يفضل أن يغرق في شاعريته السينمائية على أن يحكي قصة مشوقة.

في قصص البلوغ، نجد عادةً مرشدًا يساعد البطل على شق طريقه، وشريرًا يضع العراقيل أمامه، ليصبح اجتيازها جزءًا من الرحلة. أما كريستينا، كما تقدمها هادزيهاليلوفيتش، فليست هذا أو ذاك، بل هما معًا متشابكان في كيان واحد.

كواليس تصوير فيلم The Ice Tower (2025)
كواليس تصوير فيلم The Ice Tower (2025)

ففي موقع تصوير الفيلم، يبعث وجود كريستينا في أي غرفة التوتر في الأجواء، ويتعامل معها الجميع بحذر، كما لو أنها قنبلة موقوتة، لا أحد يعرف متى ستنفجر لتجعل حياة الطاقم جحيمًا. لكنها ليست شريرة بالصورة النمطية التي نعرفها، بل أقرب إلى لغز بشري، امرأة تتحرك كما لو أنها محاصرة في عالمها الخاص، تائهة في دورها سواء داخل الفيلم أو خارجه.

هذا الجو من الغموض هو ما يجذب جان إليها، إذ تشعر أن هناك ما هو أعمق مما يبدو على السطح، فتنجرف في حالة من التلصص تحاول معها أن تقتنص أسرارها.

تراقب كريستينا افتتان جان بها بشيء من المتعة، فهذا الهوس مسلٍّ لها. ولأن اللعبة تغريها، فإنها تقرر أن تكشف لها وجهًا آخر، وجهًا قد يُسمى حنانًا لو كان للحنان مكان في عالمها. تُقرّبها منها أكثر، لا تكتفي بأن تكون محط إعجابها، بل تجعلها امتدادًا لها، تدفع بها إلى الواجهة، وتمنحها دورًا رئيسيًا داخل الفيلم.

من هذه اللحظة، يصبح الفيلم مرايا تواجه مرايا، وصورًا تتداخل وتتكرر بلا نهاية. كريستينا ترى في جان نسختها الصغيرة، وترى فيها جان غدًا تحلم أن تبلغه. لكن ما لا تدركه جان هو أن السياج الثلجي الذي يحيط بكريستينا موجود هناك لسبب، فمثل ملكة الجليد، ينتظر كل من يقترب من كريستينا لعنة.

برج الجليد
The Ice Tower (2025)

كما هو الحال في أعمالها السابقة (Innocence و Evolution)، لا تعتمد هادزيهاليلوفيتش على السرد التقليدي، بل تفضل إغراق المشاهد في أجواء حسية، حيث تتحول الصورة إلى معادل للعاطفة. فتصوير جوناثان ريكوبورغ السينمائي يستغل الضوء والظل ليخلق إحساسًا دائمًا بالغموض والانفصال عن الواقع، وكأن الفيلم بأسره يحدث داخل حلم بارد.

وفي قلب تلك الأجواء الضبابية، يُبقي أداء كوتيار وكلارا باتشيني – الموهبة الجديدة التي تلعب دور جان – الفيلم واقفًا على أرض صلبة. فحتى نهايته، لا يقدم «The Ice Tower» إجابات قاطعة، بل يترك المشاهد في مواجهة تأمل مفتوح حول الطريقة التي نصوغ بها أساطيرنا ونحيطها بهالة من الكمال، حتى إذا ما اقتربنا منها، تكشفت لنا هشاشتها.

اقرأ أيضا: «ميكي 17» أو كيف توقفت عن القلق وأحببت المباشرة؟

شارك هذا المنشور

أضف تعليق