وصل برندان فريزر إلى «الماستركلاس» الذي قدّمه في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الأخير (5 – 14 الجاري) قائلًا إنه تناول للتو أشهى حمّص في حياته، قبل أن يكشف أنه تعلّم خلال إقامته القصيرة في جدة بعض «الطقوس» السعودية فيما يختص بضيافة القهوة: «إذا ضيّفك أحدهم نصف فنجان قهوة، فهذا يعني أنه يريدك أن تبقى». ثم انتقل إلى أشياء أكثر جدية: «إني سعيد أن يكون صوتي مسموعًا في هذا المنبر العظيم الذي يتطور عامًا بعد عام».
الأمريكي الكندي ابن الـ56 عامًا، الفائز العام الماضي بـ«أوسكار» أفضل ممثّل عن «الحوت» لدارن أرونوفسكي، عاد إلى خلفيته الاجتماعية وبداياته أمام جمهور ملأ جزءًا غير قليل من صالة «أوديتوريوم» في مقر المهرجان الجديد الذي افتُتح حديثًا: «إني ابن مندوب سياحي من كندا. في طفولتي، سافرتُ عبر أوروبا. في تلك الفترة، كنت أتعلّم في مدرسة في لاهاي. كانت عُطلنا الصيفية في لندن، مما شرّع أمامي أبواب المسرح. وهكذا أُتيحت لي مشاهدة «أوليفر تويست» و«يسوع المسيح سوبرستار» وغيرهما من المسرحيات التي جعلتني أعي أشياء كثيرة. كانت هذه بداية اهتمامي بالتمثيل. ثم نسيته لفترة، عشتُ مراهقتي وكانت مراهقة صعبة، ثم قررتُ أني سأدرس التمثيل فالتحقتُ بمعهد سياتل للفنون وتخرجتُ فيه بشهادة».
هذا الذي اعتلى الخشبة للتمثيل في عدد كبير من المسرحيات، من بينها كلاسيكيات مثل «روميو وجولييت» و«في انتظار غودو»، روى أنه لطالما أراد أن يكون ممثّلًا. «كان التمثيل الهدف الذي وضعته لنفسي. كلّ الذين يدخلون المهنة يواجهون التحديات ويطرحون على أنفسهم السؤال الآتي: هل أنا ممثّل فقط لأني أمتهن التمثيل أم أنا ممثّل لأنني لا أستطيع أن أكون غير ذلك؟ عندما يدرك الممثّلون الذين في مقتبل تجربتهم الفرق بين هذين، ستصبح الأشياء حينها مثيرة أكثر. على الممثّلين أن يدركوا أن كلّ شيء بدأ على الخشبة. القصص التي كانت تُحكى حول النار قبل آلاف السنوات عن مغامرات الصيد تطوّرت لتصبح ما هي عليه اليوم».
ردًا على سؤال عمّا إذا كان يحب مشاهدة نفسه على الشاشة، قال «فرايزر» إنه يميل إلى التركيز على الأثاث داخل الكادر أو على أداء شركائه في التمثيل، وأضاف: «أتذكّر أيضًا أشياء مثل اللحظة التي ضربتُ فيها رأسي بشيء معيّن… ولكن في العموم، يسعدني أن أرى أن شيئًا بذلنا جهدًا في سبيله تحول إلى عمل متماسك. وهذا يساعدني في أن يكون لي المزيد من التقدير لما تمثّله عملية انتقال القصّة من الكتاب إلى الشاشة. هناك مراحل عدة في عملية إنجاز الفيلم، منذ بزوغ الفكرة إلى التصوير فالمونتاج، ولا بد أن يشهد تحولات خلال كلّ هذه المراحل».
عندما تسأله محاورته ريّا أبي راشد عن «Encino Man – رجل إنسينو» (1992) وما إذا كان هذا الفيلم نقطة تحول في مسيرته، يستأذنها ليسأل كم شخصًا من بين الحضور شاهده، فيواجَه بتصفيق مجامل، ذلك أن الفيلم يعود إلى التسعينات والمشاهدين في الصالة جلّهم من الشباب. «نعم، إنه نقطة تحول في مسيرتي. أقله سمح لي بألا أعود إلى العمل في مطعم للوجبات السريعة. نعم، عملتُ في الكثير من المجالات، من غسل الصحون إلى ركن السيارات، قبل أن أعتاش من التمثيل. أتذكّر أيضاً أني جهّزتُ إضاءة شجرة ميلاد طولها 150 قدماً، مع شاب كان خرج للتو من السجن! يا لها من أيام جميلة. عموماً، هذا الفيلم غيّر البروفايل الخاص بي. الاعتراف المبكر بي، منذ بداية تجربتي، حملني إلى مشاريع أخرى».
«جورج رجل الغاب» (1997) عن شخصية «جورج» الذي يعيش في الأدغال مع الحيوانات، جعله نجمًا من الصف الأول. يتحدّث عنه بالقول: «وصلني السيناريو ووجدته غايةً في الظرافة، وما زاد إعجابي به هو أنني كنت أعرف من أين يأتي، أي الرسوم المتحركة التي كنت أشاهدها في طفولتي كما غيري من الأطفال. كانت دعابة تشبه الهجاء، رغم أنني لم أكن أعرف أنه هجاء في ذلك الوقت. باختصار، كان نوعًا من البديل من «عائلة سيمبسون» في ذلك الوقت. هذه الروحية شقّت طريقها إلى الفيلم حينما تولّت إنتاجه «ديزني»، مع كلّ ما لديها من إمكانات. كلّ ما يريده جورج هو العودة إلى المنزل. استطعنا من خلال هذه الشخصية مخاطبة جيل كامل من الأطفال. إلى اليوم، حين أكون في متجر، ألتقي أمهات يعبّرن لي عن إعجابهن بالفيلم».
عن شخصيته الأشهر التي جسّدها في سلسلة أفلام المغامرات، «The Mummy- المومياء» (ثلاثة أفلام أُنجِزت بين 1998 و2008)، يقول فرايزر أن المخرج ستيفن سامرز كتب السيناريو مستوحيًا قصّة حبّ مفقود. «هناك كاهن يبحث عن حبيبته التي فقدها منذ زمن بعيد. صدقًا، لم نكن نعرف عمّا يتحدّث عنه هذا الفيلم. أهو كوميديا أم رعب أم مغامرات أم حركة. تبيّن أنه كلّ هذا دفعة واحدة. طبعًا، كنّا نعلم أنه إعادة للفيلم الذي لعب بطولته بوريس كارلوف في الثلاثينات. لكن نسخة ستيفن سامرز كانت نقيضه. صوّرنا الفيلم في أسواق مراكش وأيضًا في ورزازات المغربية».
عن «Journey to the Center of the Earth – رحلة إلى مركز العالم» (2008)، حيث لعب دور بروفيسور متخصص بعلم البراكين، يقول: «كان الفيلم ما كانه، اقتباسًا حرًا لرواية جول فيرن الشهيرة. أُنجز تحت إشراف جيمس كاميرون، لأن الكاميرات المتطورة التي استخدمناها كانت كاميراته. كان محقًّا عندما قال إننا شكّلنا حقل تجارب له. جرّب فينا قبل أن يحمل كلّ تلك المعدّات ويصوّر بها فيلمه «أفاتار» في نيوزيلندا. كنّا سعيدين أننا جزء من هذا التطور السينمائي. مع هذا الفيلم، لم تعد تقنية «الأبعاد الثلاثة» كما كانت سابقًا. ما عادت تتسبّب بالصداع. كان إنجازًا كبيرًا بفريق صغير: أربع شخصيات، ديناصور واحد ورحلة سريعة إلى أيسلندا».
لكن، هل بعد النجاح الجماهيري الذي حظي به الفيلم، راحت هوليوود ترسل إليه نصوصًا سينمائية مشابهة مرارًا وتكرارًا؟ يرد فرايزر على هذا السؤال بالقول: «في الحقيقة، كنت سعيداً بحصولي على الدور. هذا فيلم أراد الجمهور مشاهدته. حاليًا، هناك شح في المواد. أصبحوا يطلقون عليها «محتوى». بعض ممّا نرى، أبعد ما يكون عن صناعة فيلم. لكن، هناك أعمال مصوّرة بالهاتف المحمول وهي مدهشة أحيانًا، يسمّونها «فيلمًا»، رغم أنه لا يوجد فيها فيلم، بالمعنى المادي للكلمة. لا يهم، لأن الأهم هو القصّة التي تنقلها إلى الشاشة».
عمل «فرايزر» مع بعض من أهم الأسماء، لكن ما أهمية الشركاء في التمثيل عنده؟ يقول: «اشتغلتُ مع هيلين ميرن وكان ذلك ممتعًا إلى أبعد حد. أما عندما أبلغوني بأنني سأقف في «آلهة ووحوش» إلى جانب أيان ماكيلن، قلتُ في نفسي: حسنًا، أستطيع الموت الآن، لأنني حقّقتُ هدفي في الحياة. بالنسبة لي، كان قدوة خلال سنوات تأهيلي. في مكتبة الجامعة، دأبتُ على مشاهدة المسلسلات حيث كان أيان يلعب مسرحيات شكسبير، مرةً بعد مرة. وكانت له قدرة إستثنائية على تحويل نصّ عمره قرون إلى شيء يعطيك الانطباع بأنه كُتب أمس».
عن المخرجين الذين تعاون معهم، قال فرايزر بأن بعضهم لا يتوقّع منه سوى الوصول إلى موقع التصوير والتمثيل، بناءً على ما في بالهم عنه، في حين يحاول البعض الآخر التدخّل في كلّ شاردة وواردة، وهذا يناسبه جداً. لكن، في رأيه أن أفضل السينمائيين هم الذين يتعاونون معه ولديهم حسّ العمل الجماعي.
كان لا بد من التطرق إلى الإستراحة التي أخذها بعد إصابته باكتئاب حاد: «من المهم التوقّف عن ممارسة أي عمل في لحظة من اللحظات. شيء صحي جدًا أن تستريح وتنظر إلى ما حقّقته وماذا تريد أن تحقّق بعد. إنها خطوة أنصح بها الجميع. من جانبي، وظّفتُ هذا الوقت للمراجعة الداخلية».
عن فيلم «The Whale – الحوت» (2022) الذي أعاده إلى التمثيل وقدّم فيه «أداء العمر»، يقول: «عندما يرسل المخرج دارن أرونوفسكي نصًّا لتقرأه، لا يسعك إلا القبول. النصّ أثّر فيّ كثيرًا. تعاطفتُ مع الشخصية ومشاعرها. قابلته للمرة الأولى في مكتبه النيويوركي، ثم علمتُ أنه كان يحاول إنجاز هذا الفيلم منذ عشر سنوات. كان يبحث عن ممثّل خارج عن الأضواء منذ فترة. هذا ما قاله لي. وكان هذا أنا. أراد إعادة تقديم هذا الممثّل من خلال أداء يحمل تحولًا. إنه أكثر فيلم مدّني بمشاعر خاصة، وعندما انتهى التصوير وأُزيل عني الماكياج، تفاجأتُ لمدى تأثّري. لا أعرف كيف أصف أحاسيسي، لكن كان اشتياقًا لهذه الشخصية».
أما عن استقباله في «موسترا» البندقية حيث عُرض في المسابقة، فروى: «كانت هذه أول مرة لي في هذا المهرجان. ولم أكن قد شاهدته بعد كاملًا. كنت أعلم ان الرسالة خلفه ستؤثّر وتعيد تقييم ما نعتقد أننا نعرفه عندما نحكم على شخص نحبّه. كانت هذه فرصة الفيلم الوحيدة. أنجزنا الفيلم خلال تفشّي جائحة كورونا. صوّرناه في الشتاء مباشرةً قبل أن يصبح اللقاح إلزاميًا. ولهذا السبب، أعتقد انه كان سيكون مختلفًا لو صُوِّر اليوم. صدّقنا للحظة أنه قد لا يكون هناك غد لجميعنا. صُوِّر الفيلم في مكان واحد وكان أشبه بفعل حبّ أن نذهب إلى التصوير يوميًا، وكنّا حرصاء جدًا على صحّة بعضنا بعضًا. وهذا كله اختلط بالطريقة التي استقبله فيها الجمهور. أما الـ«أوسكار»، فلم أتوقّع أن أنالها. لا تعرف اسم مَن سينادونه في تلك اللحظة. كلّ ما تمنيته حينها هو أن يُفتَح المغلّف ويُعلَن الاسم، كائنًا من كان، ولننتهِ رجاءً».
هل ثمة أدوار عظيمة يعتقد أنها في انتظاره؟ يقول: «هناك شخصيات نمطية كثيرة يمكن الاعتماد عليها. البطل، الشرير، وتنويعاتهما فيه شيء من المتعة. الأدوار التي لطالما عُرضت عليّ هي على شاكلة «الشاب الذي وصل إلى المدينة حديثًا» أو «السمكة التي خرجت من المياه». حتى شخصية رجل الكهف الذي لعبته لم يشذ عن القاعدة. حتى هو كان يريد العودة إلى البيت على غرار جورج رجل الغاب. في الحقيقة، لطالما آمنتُ بأنه يجب عليّ تأدية الدور من دون الإفراط في استخدام المنطق. أحيانًا، نجاح أي مشهد يأتي من عدم علمك بالشيء».
في نهاية اللقاء، كشف فرايزر الذي يستعد للعودة إلى الخشبة مع مسرحية «غرانغفيل» التي كتبها سامويل د. هانتر، صاحب «الحوت»، أن آخر دور اضطلع به هو أيزنهاور في فيلم «ضغط» للمخرج الأسترالي أنتوني ماراس وشاركه التمثيل أندرو سكوت. «أنها قصّة تحملنا إلى الأيام الثلاثة التي سبقت إنزال نورماندي وعن النقاش حول أحوال الطقس حينها. لم يرغب الحلفاء في المخاطرة بالأرواح بسبب توقّع هبوب عاصفة. تاريخيًا، نعرف السادس من حزيران 1944، لكن هناك أيضًا حكاية عن الأول من الشهر نفسه، والفيلم عنها».
اقرأ أيضا: قائمة جوائز مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بدورته الرابعة