فاصلة

مراجعات

«بذرة التين المقدس».. رسولوف سائرًا على الخط الرفيع بين الفن والسياسة

Reading Time: 6 minutes

لم يكن الإيراني محمد رسولوف طيلة مسيرته أقرب لسعفة كان الذهبية مما كان عليه في اليوم السابق لحفل الختام. اجتمعت كل الظروف لتجعله المرشح المثالي للجائزة: بداية من قرار السلطات الإيرانية منع فيلمه “بذرة التينة المقدس The Seed of the Sacred Fig”، ثم الحكم عليه بالسجن بتهمة الإساءة لسمعة البلاد، ثم بدء المسابقة وتوالي الأفلام المعروضة فيها دون أن يظهر عمل مدهش يجتمع الكل عليه، وصولًا لتمكن رسولوف من الهرب إلى خارج إيران، ليعلن المهرجان حضوره عرض فيلمه في قبل يوم واحد من حفل الختام.

تكامُل كل هذه الظروف جعله بالطبع يُقابل باستقبال الفاتحين، ثم جاء الفيلم نفسه، بموضوعه المغامر وقدرات مخرجه الواضحة، ليضع رسولوف فورًا على رأس المرشحين للسعفة، وسرعان ما انهالت عليه الجوائز الفرعية الموازية، التي تمنحها جهات مختلفة وتُعلن نتائجها في الساعات السابقة للجوائز الرسمية، فنال الفيلم أربعة جوائز خلال أقل من 24 ساعة: جائزة الإتحاد الدولي للنقاد (فيبريسي)، جائزة لجنة التحكيم المسكونية Ecumenical التي يمنحها اتحاد الكنائس، جائزة فرانسوا شاليه لأحسن فيلم عن الحريات، وجائزة سينما آرت وإيساي Prix des Cinémas Art et Essai التي تمنحها شبكة توزيع الأفلام المستقلة في فرنسا.

كل الأمور كانت مهيئة إذن لأن يصعد محمد رسولوف لينال الجائزة الأرفع، إلا أن لجنة التحكيم التي رأستها الأمريكية جريتا جيرويج كان لها رأي آخر، فقررت منح السعفة الذهبية لفيلم رائع آخر هو “أنورا Anora” للأمريكي شون بيكر، واكتفت بمنح فيلم رسولوف جائزة خاصة من خارج اللائحة، وكأنها مجرد تنويه خاص حمل اسم الجائزة.

بذرة التين المقدس

المشكلة هنا لا تكمن في الجائزة لأن المخرج سيتعين عليه أن يبدأ حياة جديدة بكل الأحوال بعدما أصبح لاجئًا سياسيًا مضطرًا لأن يقرر مكان حياته ونمط المشروعات التي سينجزها. الأزمة تكمن بالأساس في كون “بذرة التينة المقدس” هي تغريدته الإيرانية الأخيرة، ألقى رسولوف فيها بكل أوراقه السينمائية والسياسية، ليقدم مرافعة سينمائية من طراز رفيع ضد نظام حكم الملالي والسلطة الأبوية، لكنها مرافعة ختامية، يُدرك كل من يشاهدها أن صانعها كان يعلم بكونه الفيلم الأخير الذي سينجزه داخل وطنه، لينهي مرحلة رئيسية في حياته ويفتش عن مرحلة أخرى.

حكاية أسرة عادية

كي يدرك القارئ أبعاد الأمر دعنا نستعرض في البداية حكاية الفيلم. “إيمان” رجل ناجح ورب أسرة هادئة تضم زوجته وابنتيه المراهقتين، الأولى طالبة في الجامعة والثانية لا تزال في المدرسة. يتلقى ترقية مهنية تجعل من الضروري أن يكشف لابنتيه عن طبيعة وظيفته التي ظل يخفيها عنهما لسنين. فقد ترقي إيمان ليصير محققًا في المحاكم الثورية الإيرانية، دوره استجواب المتهمين وانتزاع الاعتراف منهم، وظيفة تعني تغيّر مستوى الأسرة المعيشي للأفضل، وتجعله يحلم بأن يصير قاضيًا خلال سنوات، لكنها تأتي بالتزامات على كل أفرد الأسرة الانصياع لها، منها المحافظة على الهيئة والملبس والأسلوب الإسلامي، والحياة في حذر من أي انتقام محتمل من المتهمين الذين يتعامل معهم الأب.

وكي تزداد الأمور تعقيدًا، تتزامن ترقية إيمان مع الانتفاضة الشبابية التي عاشتها إيران بعد مقتل “مهسا أميني“، ليجد “إيمان” نفسه في حالة انعدام وزن داخل المنزل وخارجه. داخل المنزل عليه التعامل مع صدمة الفتيات بمعرفة مهنة الوالد، مع تمردهما وتعاطفهما مع حراك زملاء الدراسة الذي يُعد تلقائيًا حراكًا ضد الأب وكل المزايا التي تتمتع بها الأسرة. أما خارج المنزل فعليه أن يقتل شعور الذنب داخله وهو يوقع تقارير ستودي ببعض المتهمين إلى المشنقة، ويتعلم كيف يتوجب عليه أن يحمل سلاحًا للمرة الأولى كي يدافع عن نفسه عند الضرورة.

بذرة التين المقدس

خلال النصف الأول من الفيلم الذي يمتد لقرابة الثلاث ساعات، ينغمس رسولوف داخل دراما حياة تلك الأسرة. الأم “نجمة” منسحقة تمامًا أمام النظام الأبوي، زوجها هو مركز حياتها الذي يدور كل شيء حوله. وبما أنه جزء من النظام الحاكم، فالنظام لا بد أن يكون على صواب. “نجمة” مستفيدة من الوضع الراهن، وبالتالي مؤمنة به. لا تريد أن تسمع أصواتٍ تأتي من خارجه أساسًا، تحلم بأن تنتقل من الشقة إلى فيلا، وأن تمر الحياة بسلام، إلا أن المظاهرات التي لا تريد أن تتوقف تهدد سلامها المنتظر.

البنتان في المقابل تنتميان لجيل آخر بحسابات مختلفة، جيل تمثل وسائل التواصل الاجتماعي مصدره الرئيسي للمعرفة، يحلم أفراده بممارسة حياة طبيعية كأي مكان في العالم، لا تُجبر فيها النساء على وضع الحجاب رغمًا عن إرادتهن، ولا يُقبض فيه على الطلبة بسبب كلمة أو فعل لا يعجب نظام الملالي، ولا توقع فيه أحكام الإعدام بسهولة واعتيادية. لكن الابنتين “رزفان” و”سناء” ليستا ثوريتين كذلك، لو سارت الأمور بشكل هادئ لما فكرتا في أي فعل تمردي، لكن اشتعال الاحداث يدفعهما دفعًا نحو الدخول في مصادمة مع أقرب الناس، مصادمة تبدأ كلامية معتادة داخل أي بيت في بلد يعيش ثورة، لكنها سريعًا ما تتطور لما هو أعقد بكثير.

بذرة التين المقدس
مصير غير عادي

بعد مرور ساعة ونصف من الدراما الأسرية ذات الطابع السياسي، وبعد مشاهد عديدة لمظاهرات الشباب ورد الفعل العنيف من قبل السلطات، ومشهد موجع لاستخراج شظايا خرطوش أطلق على وجه صديقة البنات الأكثر تحررًا، يكشف المخرج فجأة أن كل ما سبق كان مجرد تمهيد للقصة الحقيقية، سياق يجب أن يُحكي كي يكون الجمهور مستعدًا للنصف الثاني من الفيلم، والذي ينتهج أسلوبًا وإيقاعًا مختلفًا ليس فقط عن النصف الأول، ولكن عن السواد الأعظم من الأفلام الإيرانية التي شاهدناها طيلة سنوات.

الحدث المفجر للفيلم يقع عند منتصف الطريق: يكتشف إيمان اختفاء سلاحه الرسمي من داخل المنزل. الأمر الذي يمثل مصيبة عمومًا في أي وقت، لكن وقوعه مع موظف ترقى حديثًا لمنصبه، بعد أيام من تولي المنصب، وخلال اندلاع ثورة عارمة تقابلها السلطات بالعنف في البلاد، يُعد كارثة حقيقية ستنتهي في الأغلب بضياع كل ما حققه طيلة حياته المهنية، بل وبالزج به في السجن ثلاث سنوات عقابًا على ضياع سلاحه الحكومي.

هل ضاع المسدس داخل المنزل بالفعل؟ أم أن إيمان الذي يعيش تشوشًا واضحًا منذ تولي منصبه الجديد قد تركه في مكان آخر واختلط عليه الأمر؟ بعد دقائق من رحلة البحث نبدأ في إدراك أن الإجابة لا تفرق كثيرًا، فالأسرة قد تصدعت بالفعل في اللحظة التي بدأ فيها الشك في التسلسل بين أفرادها. عندما تكتشف فتاة أن والدها جلّاد يساهم كل يوم في تعذيب زملائها، وعندما يشك رجل في أهل بيته لدرجة أخذهم بنفسه إلى عملية استجواب مؤلمة خوفًا على سلامته وحفاظًا على وظيفته، فما يحدث بعد ذلك لن يفرق كثيرًا في حقيقة انفراط العقد الذي كان يجمع أبطالنا معًا.


صورة مصغرة ولكن

لا يحتاج الأمر لكثير من الفطنة كي نفهم أن أسرة إيمان هي ميكروكوزم (نموذج مصغر) لإيران، صورة للدولة التي تقودها قوة مؤدلجة تؤمن بامتلاكها الحقيقة المطلقة، وتتصور دفاعها عن الوطن ضد المؤامرات التي تحيط به، فتمنح نفسها حق التنكيل بمن يخالفها بحجة المصلحة العامة. وكما يُشكل صراع الأجيال عنصرًا بالغ الأهمية في كل ما يحدث في إيران من أحداث، تُشكل نفس الأجيال محاور الصراع داخل أسرة المحقق الذي تبخر حلمه في أن يغدو قاضيًا.

وكما يحدث لأي ديكتاتور في التاريخ، بمجرد أن يجد سلامته الشخصية على المحك، يبدأ الأب في اتخاذ قرارات عشوائية، منبعها الأساسي الرعب على نفسه، وانعدام ثقته في الجميع حتى في بناته. قرارات يمكن تفسيرها على محمل رمزي (لا سيما عندما تنتقل الأحداث إلى قرية الأب التي يمثل كل ركن فيها مجازًا بصريًا عن إيران ما قبل ثورة الخوميني)، لكن قيمتها تنبع بالأساس من قدرة رسولوف على تحريك الحكاية بقدر كبير من التشويق والمنطق في مستواها الأول، مستوى الأزمة والتفاعل بين الشخصيات، واستخدام عناصر البيئة المحيطة في إيجاد حلول درامية غير معتادة.

لو اكتفى رسولوف بما تحمله حكايته من رموز واضحة، لكان “بذرة التينة المقدس” قد صار فيلمًا مثاليًا، لكن الرجل الذي يتصارع داخله باستمرار شخصيتي الفنان ورجل الدعاية وجد أن فيلمه لن يكتمل سوى بوضع المزيد من لقطات الفيديو الأرشيفية لمظاهرات إيران وخلع الفتيات للحجاب، وكأنه يخشى ألا يفهم المشاهد (الغربي غالبًا) ما يقصده بحكايته، فكان كمن يروي نكتة ثم يلحقها بشرح المضحك فيها. هذا فيلم متميز كان بالإمكان أن يصير من الكلاسيكيات، لكن صانعه أراد التثبّت من امتلاك كل أسباب السعفة الذهبية، فانتهى به الأمر إلى تنويه خاص.

لا ينفي ما سبق كونه أحد أفضل أفلام كان، بل وأفضل أفلام العام كله. لا يمكن القطع أيضًا بأن ذلك كان سبب عدم حصوله على الجائزة، فقد يكون السبب ببساطة أن لجنة التحكيم أعجبها “أنورا” أكثر، لكنها مجرد طريقة للتفكير في الخط الرفيع الفاصل بين صناعة عمل فني يُفكر في السياسة وصناعة بيان سياسي يستخدم الفن. محمد رسولوف سار لأغلب زمن فيلمه الممتد في الجانب الفني، لكن المرات التي تجاوز فيها الخط نحو السياسة الصارخة؛ أفقدت العمل في صورته النهائية ما كان بالفعل بين يديه.

هل سيُعرض “بذرة التينة المقدس” في أحد المهرجانات العربية؟ أين سيعيش محمد رسولوف بعدما ترك وطنه؟ هل سيستمر في صناعة أفلام عن إيران ويبحث عن أماكن تشبهها، أم يجرب أن يحكي حكايات في سياقات أخرى؟ وهل يمكن أن يكون قد فقد فرصته الأكبر لنيل جائزة حَلِم بالتأكيد بها؟ كلها أسئلة شيقة سنعرف إجابة بعضها قريبًا، وسنظل نفتش على إجابات بعضها لسنوات طويلة.

اقرأ أيضا: «جولة كُبرى»… أن تترك نفسك للسينما لتدرك سحرها

شارك هذا المنشور