فاصلة

مقالات

«باريس، تكساس»… طعنة فيم فيندرز!

Reading Time: 7 minutes

يخرج رجل من الصحراء سيرًا على الأقدام. يرتدي بذلة وقبعة بيسبول، وربطة عنق رثّة. صامت، وفي يده غالون ماء، شرب آخر نقطة فيه. من الواضح أنه في حالة صدمة.

تاريخ غامض، شعور بالذنب والعار، ربما. لحيته المبعثرة، ومحجرا عينيه العميقتين، ومشيته التي لا تعرف الكلل تحكي جميعها قصة تجوال، ويبدو أنه بلا ذاكرة. ما الذي يبحث عنه؟ هل يتذكر؟ يصل إلى محطة وقود باحثًا عن الماء، يجد ثلجًا، يقرمشه، وينهار. يتم تفتيشه، في جيوبه رقم هاتف، رقم شقيقه الذي يأتي لإحضاره. لكن عندما يتوقفان على الطريق، يبدأ السير بعيدًا مرة أخرى، على طول خطوط السكك الحديدية. على الرغم من أن شقيقه الذي لم يسمع عنه منذ أربع سنوات، يؤكد له أنه لا شيء هناك في الأفق، إلا أنه مخطئ. يوجد أرض، وجه، جسد، امرأة، هي التي يبحث عنها ولن يتوقف عن المشي حتى يجدها، حتى يعيد لها ما ينتمي إليها وما أخذه منها: الماضي الذي أصبح ميراثًا.

باريس، تكساس

ترافيس هندرسون الذي يلعب دوره هاري دين ستانتون 1926 – 2017، بأداء رائع يبلغ ذروة حياته المهنية، يظهر من العدم، متجهًا نحو العدم. وفي أول 25 دقيقة من الفيلم، لا يقول كلمة واحدة. وعندما يبدأ أخيرًا في الكلام، يبدو الأمر كأنّه يعيد تجميع نفسه التي فقدها. شقيقه والت (دين ستوكويل)، اعتنى بابنه هانتر (هانتر كارسون) خلال سنوات اختفائه الأربعة ومع زوجته آنّ (أورورا كليمنت)، بعد اختفاء ترافيس وزوجته جين (ناستازيا كينسكي) في نفس التوقيت.

يعود ترافيس مع شقيقه ويرى ابنه، ولكن لديه خطة حالمة نسيها منذ زمن طويل، ويريد أن يجمع شتات نفسه لأخذ هانتر في رحلة إلى هيوستن حيث اكتشف أنّ جين موجودة هناك. مع ذلك، هذا ليس الجواب كله، كل شخص لديه سره الخاص، وسرّ ترافيس يسمى «باريس، تكساس».

بعد أربعين عامًا على صدور تحفة المخرج الألماني فيم فيندرز «باريس، تكساس» Paris Texas، وإعادة عرضها في دورة مهرجان كان الفائتة بعد ترميمها، لا يزال فيلم «باريس، تكساس» (سعفة «كان» الذهبية 1984) لا يقدم لنا الكثير في البداية، ولا يحدث فيه الكثير. ولكن الافتقار إلى المقدمة الكلاسيكية على وجه التحديد هو الذي يغذي التوتر الخفي. ليس لأن شيئًا ما يمكن أن يحدث على الفور، ولكن لأن شيئًا ما حدث بالفعل لترافيس، وأوصله إلى نقطة الصفر تلك التي نلتقيه عندها.

باريس، تكساس

 يبدأ فيم فيندرز القصة بغموض معقّد، إلى درجة أنّ حلّه البطيء يبقي المشاهد في حالة تشويق طوال الوقت. فضلًا عن ذلك، فإن عملية الاكتشاف التدريجي هذه تجري في اتجاهين: من ناحية، هناك الكشف عن لغز ترافيس، ومن ناحية أخرى، نكتشف العالم الذي عاد إليه من خلال عينيه. بعد هذا الغياب، كل جملة لها أهمية خاصة، وما يحدث في أعماق روح ترافيس، لا يمكننا أن نعرفه إلا بعد فترة طويلة جدًا ومن خلال الطريقة التي يتعامل بها مع الأشياء والأشخاص من حوله. ولهذا السبب سيكون الدافع الرئيسي للقصة هو محاولة خلق التواصل، في ثلاث مراحل: الأولى من عدم قدرة ترافيس على الكلام لمدة طويلة، ما يتوافق مع وجوده خارج العالم، ثم محاولة التواصل خاصة مع ابنه بدون كلمات، فقط بالإيماءات يشعران ببعضهما. والثالثة، هي التواصل المنفصل، عندما يحاول ترافيس التواصل مع هانتر عبر مسجل الصوت، ومع جين على جانبي الزجاج، عبر الهاتف، وظهره مواجه للآخر. ولكن رغم كل هذا، ما فعله ترافيس خلال السنوات الأربع من غيابه يظل لغزًا، وفي النهاية ليس مهمًا.

باريس، تكساس

 في النهاية، لا يزال ترافيس مشردًا أبديًا، مضطربًا، في المساحة اللامتناهية للغرب، يبحث عن مكان أسطوري تقريبًا يأمل أن يجد نفسه فيه أخيرًا. لذلك، فالذهاب إلى هذا المكان أو ربما العودة، من أساسيات فيلم «باريس، تكساس»، وهي بلدة صحراوية صغيرة في ولاية تكساس، تسمى باريس. اشترى ترافيس قطعة أرض هناك.

باريس، تكساس

 وفقًا لأسطورته، هذه هو المكان الذي التقى فيه والداه للمرة الأولى، ويشعر ترافيس أن أمه ربما حملت به هناك وبهذا فقد بدأ حياته هناك. لذلك، يجب أن يحاول البدء من هناك مرة أخرى وبناء حياة جديدة من الجذور. لهذا، فأول كلمة نسمعها من فمه هي باريس، ليس له ملجأ آخر. «باريس»، يقولها بسرعة، قبل أن يعود إلى الصمت.

باريس، تكساس

الأحمر هو اللون الرئيسي للفيلم. قبعة ترافيس حمراء، قميص هانتر احمر، سيارة الام جين حمراء، سترتها حمراء، شفتاها حمراوان. هذا اللون المستخدم دائمًا في تباين شديد، يرمز إلى جروح ترافيس، خصوصًا تلك العائدة إلى الماضي. هو يرمز أيضًا إلى الحب الذي يشعر به. لكنه يعلم أنّ هذا لا يمكن أن يتحقق، لذلك فالمواجهة في النهاية باللون الأخضر. لون الأمل. لأن الأمل هو الشيء الوحيد الذي بقي لدى ترافيس ويبقيه على قيد الحياة.

باريس، تكساس

 إن المعالجة الدقيقة لهذه الاستعارة، يزدهر فيها الفيلم، كما يزدهر بالحالات المزاجية التي تعصف بالمشاهد، بكثافة عاطفية لا تصدق. وأيضًا من خلال موسيقى راي كوبر، التي يتخللها غيتار حزين، وقد ولدت من تزاوج البلوز والروك والموسيقى الريفية، ومن صور روبي ميلر الاستثنائية التي تركز على أضواء النيون والتناقضات الشديدة بينها وبين مشاهد الصحراء الواسعة، وتناغمهما معها. صور ميلر عالم لوحده، خصائصه الرئيسية هي السيارات والطرق والموتيلات على جوانب الطرق ومناظر المساحات الواسعة والزوال والتباين.

تتسم إيقاعات «باريس، تكساس» بالبطء الشديد، لكن لا يوجد أي إحساس بأن الحبكة قد توقفت في أي مكان. فجوهر الفيلم ليس لماذا أو كيف ذهب ترافيس من العالم، بل كيف عاد. كان على ترافيس أن يذهب بعيدًا جدًا ليتمكن من التصالح مع نفسه. كان عليه أن يصبح متكيفًا ذاتيًا للتخلص من كل ما منعه سابقًا من أن يكون هو نفسه وأن يكون قادرًا على الاهتمام بالآخرين. يتقدم الفيلم من خلال عيون رجل حوّله اغترابه عن علاقاته الإنسانية إلى مغترب عن العالم بأسره، ولا يمكنه أن يعيش فيه إلا إذا استمر في أخذ مسافة بينه وبين ذلك العالم. يقول لهانتر: «أصبحت معزولًا إلى درجة أنني لم أتمكن من التعافي والآن أنا خائف. أخاف الاختفاء مرة أخرى، أخاف مما قد أكتشفه. لكنني أخاف أكثر عدم مواجهة هذا الخوف».

باريس، تكساس

 إن ترافيس، مثله مثل جميع أبطال فيندرز، لا يدرك العالم باعتباره نظامًا متماسكًا يشارك فيه، بل باعتباره سلسلة من اللحظات والصور والمشاهد التي يصبح متفرجًا عليها ثم يبدأ في اكتشافها. ومن هنا نشأ غموض الكائنات «الفيندرية»، التي لا يمكن تفريقها عن بعضها ولا يمكن أن تتعرف على بعضها البعض إلا من خلال وسائط، مثل جهاز لاسلكي أو هاتف، أو اشرطة مسجلة.

إن عنوان الفيلم ذاته، يشير مجازيًا إلى العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة. إن انبهار الأوروبيين بالعالم الجديد يضاهي انبهار الأمريكيين بالقارة القديمة، المتجذرة في الماضي. وهنا يلتقي محورا الفيلم: المكان والنسب. يروي فيندرز قصة حب (أبوية، زوجية) بكل صعوباتها. ينطلق ترافيس وابنه في مهمة العثور على زوجة وأم هذه العائلة المتجزئة. وهنا يلعب فيندرز، الذي يمتلك خبرة في أفلام الطرق، ويجد صورًا للطرق السريعة الأمريكية والبلدات الصغيرة، حيث تخلق تركيبات الألوان روح الفيلم. إن الطريقة التي يلتقط بها فيندرز النيون في الليل تشهد على وجهة نظر حول الولايات المتحدة، لا يمكن إلا للأوروبيين أن يمتلكوها. إن أمريكا في نظر فيندرز ملونة بشكل نابض بالحياة، وقارتها الشاسعة، تختلف تمامًا عن أوروبا المتعددة الأوجه التي هي موطنه. وأمريكا الشاسعة لا تعني حرية لا نهائية، بل قمعًا بسبب الافتقار إلى مسار واضح يجب اتباعه. يسمح الفيلم لفيندرز باكتشاف موضوع السفر باعتباره بحثًا عن الذات. ويعيد تفسير أفلام الطريق الأمريكية ويتجاوزها إلى حد ما. منذ اللقطة الأولى، نتعرف على البطل كرجل يسافر بلا هدف تقريبًا عبر مساحة صخرية قاحلة.

 يجمع العنوان، ويفصل في الوقت نفسه، بفاصلة بين اسم عاصمة أوروبية كبيرة، وواحدة من الولايات التي صارت علامة على سينما الويسترن في الولايات المتحدة. لكن ويسترن فيندرز لا يحتوي على أي عنف. لا يدور حول الهنود ورعاة البقر، بل حول الإنسانية والأسرة وإمكانية الحب أو استحالته. ومن خلال لغة الفيلم، تمكن فيندرز من غرس الحساسية وروح التأمل الأوروبية في أشكال سردية شكلتها السينما الغربية الأمريكية. لماذا نجح فيندرز في صنع «فيلم أمريكي»؟ ليس لأن صورته الأسطورية لأمريكا اقتربت من الحقيقة، لكن ربما لأنه تقبل المسافة بين الأسطورة الأمريكية وصناعة الأفلام التي يمثلها هو. وبالتالي «باريس، تكساس» هو المكان الذي يمكن من خلاله قبول أمريكا والسينما الأمريكية من منظور أوروبي.

 على الرغم من أن النص كتبه الكاتب المسرحي الأمريكي، سام شيبرد، إلا أن وجهة نظر فيندرز الأجنبية هي التي تحدد النتيجة النهائية. إن الغرب الجديد الذي يصوره فيندرز هو إعادة تفسير للغرب القديم الذي عرفه من خلال أفلام جون فورد ربما. في أمريكا الجديدة التي يصورها فيندرز، لا توجد صحاري وعربات وصالونات، بل طرق سريعة واسعة، وناطحات سحاب ذات مرايا، وأكشاك للعروض الترفيهية. اللقطات الواسعة هنا، على عكس الصور الغربية التي عززت فكرة المغامرة والمجهول، تحدد الوحدة، وهشاشة العلاقات الإنسانية، واختزال الفرد إلى مجرد عنصر آخر في مشهد المدينة الكبيرة.

باريس، تكساس

«أثناء تصوير فيلم «باريس، تكساس»، أدركت نوعًا من الوحي. أدركت أن التاريخ يشبه النهر، وإذا تجرأت على الإبحار فيه ووثقت بالنهر، سوف يحمل النهر القارب نحو شيء سحري. حتى ذلك الحين، كنت دائمًا أقاوم التيار، كنت أبقى في بركة صغيرة على ضفة النهر، لأنني كنت افتقر إلى تلك الثقة. في هذا الفيلم بالذات، أدركت أن القصص موجودة، وأنها موجودة من دوننا. في الواقع، ليس هناك حاجة لخلقها، لأن البشر يجلبونها إلى الحياة، عليك فقط أن تدعها تحملك بعيدًا»، يجيب فيندرز على لوران تيرارد في كتاب «دروس في السينما، دروس خاصة من مخرجين عظماء» (2002، Moviemaking’s masterclass: Private Lessons From the World’s Foremost Directors).

في «باريس، تكساس» لا نحتاج إلى أن تُروى لنا القصة لأن الصورة قوية، والأهم من ذلك، الشخصيات تجرّنا بالفعل عبرها، تمامًا كما كانت خلفيتها موجودة قبل وقت طويل من وصولنا، نحن المتفرجين.

في هذا الفيلم، الكلمات ليست ضرورية تقريبًا، ولهذا السبب يصعب نطق الجوهر لأننا نعتقد أنه بالتعبير عنه، سيفقد كل معنى. سيتبخر المفهوم بحد ذاته.

«باريس، تكساس» أكثر من مجرد اسم مكان، شيء رمزي. «باريس، تكساس» هو الشوق والحنين إلى عالم آخر في أرض تكساس القاحلة. «باريس، تكساس» هو بمثابة اتصال مع أعمق مشاعرنا، مع اقصى قدر من العاطفة، وطعنة في الروح.

اقرأ أيضا: «ديدبول وولفرين»… خلطة ممتعة مليئة بالعيوب

شارك هذا المنشور