غالبًا ما يتمخّض استقبال الأفلام الميلودرامية عن انقسام حادّ يجعل فئة من المتلقّين ينفرون من حدّة تطوّر أحداثها أو يعتبرونها ضاغطة عاطفيًا. وربما هذا ما حدث عند عرض “امرأة وطفل”، فيلم سعيد روستايي (35 عامًا) الطويل الرابع، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته المنتهية رقم 78. ينبغي القول أيضا إن المخرج تعرّض لموجة انتقادات لاذعة من زملائه قبل بدء المهرجان، إذ اعتبروا أنه ساوم وتنازل بتصويره الفيلم تحت سقف القوانين الصارمة لطهران، وفي مقدمها تلك المتعلقة بوضع الحجاب. وهي انتقاداتٌ أجاب عليها روستايي بقوله: إن الأسوأ بالنسبة إلي هو عدم صنع أفلام، مؤكدًا على أهمية أن يتمكن الناس في بلده من مشاهدة أعماله في القاعات، وهو ما لا يمكن أن يتأتى دون الحصول على تصريح من السلطات الإيرانية، بالنظر لحاجته للتصوير في أماكن عامة مثل المستشفيات مع فريق تصوير كبير.
تلك وجهة نظر تنطوي على وجاهة وصواب، خصوصا أن روستايي دفع ثمن اتباعه الطريق الأخرى غاليا عند مُنع فيلمه “ليلى وإخوانها” (2022)، وحكم عليه بالمنع من مزاولة الإخراج.
ليس كل السينمائيين يستطيعون أو يرغبون في صنع سينما تحاكي أسلوب جعفر بناهي في مراوغة الرقابة. لكن المقارنة بين موقف روستايي ومستوى التزام بناهي، السينمائي المخضرم المتوّج بسعفة ذهبية؛ أسالت مدادًا كثيرًا حول مدى أحقّيتها، ولم تكن بالتأكيد في صالح السينمائي الشاب.

لم يحد المخرج الإيراني الشاب عن خط الميلودراما منذ أخرج فيلمه البوليسي المفعم بالزخم والانقلابات “فقط خمسة، ستة” سنة (2019)، ثم أتبعه بـ “ليلى وإخوانها” مقدّمًا لوحة جدارية عائلية كبيرة في بلد تعصف به أزمة اقتصادية طاحنة تهدّد حتى الطبقة الوسطى بخطر السقوط في براثن الفقر كل يوم، تقذف بامرأة وحيدة وسط أسرة من الذكور، في حالة من التّيه.
في “امرأة وطفل” أيضًا، يتمركز الحكي حول امرأة، لكنها ليست وحيدة، على الأقل في الفصل الأول من الفيلم. ماهناز ذات الـ 45 ربيعًا، تشتغل ممرضة تعيل أسرة من طفل مراهق وأخته الصغرى بعد وفاة والدهما، وتعيش في منزل والدتها برفقة أختها الأصغر ميهري. تستعد ماهناز لإعادة بناء حياتها عبر الارتباط بحميد، زميلها الذي يعمل سائقًا لسيارة إسعاف في المستشفى نفسها، لكن كل ما يشغل بالها وما يجعلها ربّما غير قادرة على قراءة مؤشرات محيطها، وفي مقدمتها صدق حميد في حبّه لها، هو بالضبط سلوك ابنها أليار، مفرط الحركة ومشاغبٌ الفصل، المتنمّر على زملائه، قليل التركيز في واجباته الدراسية، والذي يتصرف بشكل لا يليق بعمره حد مغازلة زميلة والدته في العمل من دون أن يجد غضاضة في مصارحة أمه بحقيقة حبّه لها. وحين تلمّح له الأم بأنها بدورها يمكن أن تحبّ زميلًا لها (حوارٌ داخل السيارة يذكرنا بفصل من رائعة عباس كيارستمي “10 على 10” بين أمّ وطفلها ذي شخصية استثنائية)، يغيّر أليار الموضوع على الفور معربًا عن استياء ضمني ورفض قاطع لهذه الفرضية.
تتجلّى تعبيرية روستايي في روافد بصرية تعتصر طرح الفيلم. نرى في مشهد ماهناز وأليار من وراء فاصل زجاجي تستغله الأم لمراجعة الدروس مع طفلها، لكنها تبدو مهتمة أكثر منه بدروسه بينما تنظر إليه من وراء أرقام وحروف متناثرة على اللوح الشفاف، تعبّر في آن واحد عن المعادلات والفرضيات الصعبة التي تدور في رأسها حول طريقة تدبير ردة فعل أليار حول زواجها المقبل من حميد، وحسابات القدر المعقدة التي ستعصف قريبًا بتوازنها وفق تأثير الفراشة.
يؤدي عدم انجاز أليار لواجباته إلى توقيفه المؤقت عن الدراسة، ما يمنعه من الذهاب في رحلة مدرسية كانت الأم تعوّل عليها لتنجز مراسيم الزواج بحميد من دون تأثّر ابنها، فتُجبر على إيداعه وأخته في عهدة زوج أمها حيث تحلّ بها كارثةٌ لم تكن في الحسبان. تُفجع الأم من جهتين، أهونهما انكشاف حقيقة مشاعر حميد غير الصادقة نحوها، فينهار العالم من حولها وتتحول مشاعرها نحو أقرب النّاس إليها بدرجات مختلفة: من النقيض إلى النقيض تجاه حميد الذي يتحوّل إلى عدوها، فتبحث عن الانتقام منه مستغلةً ممارساته غير القانونية في العمل. تفصيلٌ يقبض على توجّه إغماض الأعين على الاختيارات غير الأخلاقية في العمل وفصلها عن العلاقات الشخصية في المجتمعات الشرقية، عكس الغربية.
تدخل ماهناز في دوامة. تتقاذفها نيران الشك ومركّب الذّنب والحقد الذي يطال حتى المسؤول الإداري في المؤسسة التي يدرس فيها أليار. “ماذا لو لم…؟” هو السؤال الذي يتردّد في داخل الأمّ ويمنعها من استيفاء الحداد كي تمكن مشاعرها من تخطيه إلى شيء آخر. شيئًا فشيئًا، تؤدي تصرفات محيطها والتوتّر الأخلاقي المرتبط بها، بدءًا بأختها ثم زوج أمها إلى وصول ماهناز إلى حافة الانهيار، خصوصا حين يتقاعس القضاء عن إنصافها. نقدٌ ضمني لنظام تقليدي يغلق أعينه على تجاوزات السلطة ممثلة في الأب.
غير أن نهاية الفيلم تترك الباب مواربًا لمسحة غفران وتسامٍ يلتقطها روستايي في مشهد بديع، يستغل باعث نوافذ زجاجية متفاوتة الشفافية، مرة أخرى، لبث شكوك في نفس محيط ماهناز كما المشاهد، حول صحتها العقلية ومدى فقدانها السيطرة. براعة أداء الممثلة باريناز إزايدار تكمن بالضبط في أنه لا يحيد عن هذا الخيط الرقيق رغم قوّته وتأثيره على المشاهد.
“امرأة وطفل” عملٌ آسرٌ يبرهن فيه مرّة أخرى سعيد روستايي على تحكّمه في أدوات السّرد عبر شخصيات معقدة تقع اختياراتها في مساحة رمادية تجعل من الصعوبة بما كان إصدار حكم قاطع عليها. الكلّ مذنب بطريقة ما عنده، و”لكل دوافعه” وفق جملة الحوار الأثيرة من “قواعد اللعبة” (1939) لجان رنوار فتحت أبواب المعاصرة للسينما.
اقرأ أيضا: كل ما تريد معرفته عن أفلام مسابقة كان 78