تحت تأثير مخدّر غير مرئيّ وخفيّ عن المُشاهِد والكاميرا، تتصاعد أحداث فيلم ناقة للكاتب والمخرج مشعل الجاسر الذي عبّر العام الماضي في أحد الحوارات عن رغبته في تقديم أفلام واقعية – على حد تعبيره- وكان فيلم ناقة هو أول أفلام مشعل الطويلة في هذا الاتجاه الذي اقتحمه برغبة واعية لديه فيما يبدو.
لعل هذا الفيلم هو أكثر الإنتاجات السينمائية السعودية إثارة للجدل وتجاذبات الرأي الحادة –أحيانا- عبر القنوات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، إلى درجة أدت بالمخرج أن ينشر تغريدة –هي أقرب للتهدئة أو للاعتذار غير الموفق في تقديري- يوضح فيها تقبله للآراء وسعيه لتقديم الأفضل في قادم التجارب!
المتابع لحالة التلقي الاجتماعي للأعمال الفنية في السعودية يتذكر جيدا ما مرت به حركة الشعر والأدب في مرحلة الثمانينات الميلادية من صراع حاد بين الحداثيين والمحافظين والصحويين، وما أثارته الرواية السعودية بأعمالها الجديدة في منتصف التسعينات وصولا إلى تسونامي الرواية – والرواية النسائية تحديدا- بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، من معارك ثقافية وحوارات اجتماعية عامة، ولعل حالة تلقي المسلسل الرائد (طاش ما طاش) شكلت قمة الاحتراب الجمعي حول عدد كبير من أطروحاته، وصلت إلى التحريم والتكفير ومحاولات التصفية!
كانت تلك الممارسات الجماهيرية المتوترة مفهومة ومبررة بمرحلتها التي نبتت فيها، ولكن حالة التلقي العنيف لفيلم ناقة لدى فئات مختلفة من شرائح المجتمع المثقف والعام، تثير دلالات عديدة، ليس أقلها أن التاريخ يعيد نفسه أحيانا، وأن قطبية القيم بين الانفتاح والتقبل في مقابل المحافظة والرفض وما بينهما من مستويات ودرجات هي نواميس كونية لن تزول أبدا، كل ما تفعله هو أنها تعيد إنتاج ذاتها وأدواتها وقنواتها بما يتناسب مع عصرها وتحولاتها الاجتماعية والثقافية، ويبدو أن الدور الآن على السينما وصناعها، في مواجهة ضغط مضاعف من جهة الجمهور المثقف فنيا وسينمائيا، ومن جهة الجمهور العام الذي ينحاز إلى محاكمة الفنون وفق أحكام القيمة الأخلاقية والتنميط النسقي السائد.
ليس من اليسير أن يخلق الفنان أسلوبه وبصمته الفنية الخاصة به، ويصعب على كثير من المبدعين ذلك، ولكن الكثير يتفق على أن مشعل الجاسر بدأ يشتغل أنموذجه الفني بطريقة تمثله هو وحده فقط منذ أعماله في اليوتيوب، وصولا إلى فيلمه الطويل الأول ناقة، فأسلوبه ولمساته الفنية الجرئية واضحة للجميع، وهذا في ذاته نجاح أوليّ يحسب للفنان العشريني المبدع، وهو نجاح يضعنا على حافة التطلع والفضول نراقب مسيرة مشعل بمتعة وإعجاب، وننتظر أعماله القادمة التي أرجو أن يواصل فيها اشتغاله الفني وخياراته التي لا تكترث لشيء سوى لصوت الفن وجمالياته واكتشاف مناطق جديدة دوما في الحكاية السعودية الغزيرة ونقلها إلى الشاشة الساحرة.
بالعودة إلى فيلم ناقة، نجده مغامرة سينمائية مميزة في بساطة قصتها –ظاهريا- وعمق تقديمها دلاليا وسينمائيا، حشدت تفاصيل كثيرة جدا أثقلت الفيلم وأرهقت المشاهد الذي سيفوّت حتمًا بعض التفاصيل في المشاهدة الأولى للفيلم، ولعل هذا المزلق مما يُلحظ كثيرا في الأعمال الفنية الأولى التي يُقبل عليها الفنان مثقلًا بالعديد من الرؤى والأفكار؛ حيث يقوم الفيلم على استحضار ملامح المحافظة منذ مطلع الفيلم الذي يبدأ عام 1975م أي قبل مدة غير طويلة، بمشهد قتل ينجو منه طفل (أبو سارة) بإعاقة سمعية سببها التشدد الاجتماعي، وتظل سارة أسيرة لهذه الحكاية التي تصبغ سمعتها بين زميلات المدرسة اللائي يتناقلن حكايات عن أبيها العنيف وحكاية ولادته تلك، ولعل هذه الخلفية الاجتماعية المحافظة هي التي تدفع سارة إلى التمرد والبحث عن الذات عبر ممارسات التدخين والصداقات وتجربة المخدر الذي لم يشاهده أحد ولم يحدد نوعه أحد، فقط هو مخدِّر مندسّ في الشاي المشروب الشعبي الأشهر، ربما يكون المخدرُ نسقًا اجتماعيا، أو فكرة أيديولوجية، أو مركّبا داخليا فرديًّا أو جمعيًّا!
جاءت شخصية سارة عميقة جدا، وتم بناؤها والكشف عن سماتها عبر دورها الرئيس في وقائع الفيلم ومشاهده، في أداء مميز جدا للفنانة أضواء بدر، عكس قوة شخصية سارة، وقلة اكتراثها للعلاقات العاطفية كما يبدو، فسعد بالنسبة لها لم يكن سوى شريك تمرد غير موثوق تماما، بل هو رخمة و(بنت) كما وصفته سارة أحيانا، ولم تحمل المشاهد المشتركة بينهما أي إشارات عاطفية أو جسدية تؤطر العلاقة في إطار الحب. ولم تكن سارة تعلم بفكرة الذهاب للمخيم في البر، كل ما أرادته هو أن تجرب شيئا يخدرها ويخرجها من واقعها إلى عالم أكثر سلامًا وهدوءً. ويحقق لها شيئا من نزوعها إلى التمرد المسالم الذي لا يمسّ أحدا ولا يثير المتاعب لأحد! لكنها تورطت مع سعد في رحلة البر المحفوفة بكل تلك المواجهات والصراعات والمخاوف التي كانت تتوالى في الفيلم من غير وجهة محددة؛ خوف من سلطة الأب الذي لم يصدر عنه أي سلوك عنيف تجاه عائلته، سيارة شاص تلاحقهم وتشهر المسدس نحوهم دون أن تتضح هوية من بالسيارة.
تبدأ بعد شرب الشاي الملغوم آثار المخدر، وهي آثار غير واضحة المعالم، بين ضحك وهلوسة وهلع وجرأة، مما يعزز الضبابية التي تحيط بالمخدر ووجوده من الأساس! في بداية الفيلم يولد بشر وتولد ناقة، ولكن التماسّ المعنوي بين سارة والناقة لا يبدأ إلا عندما تصفها صديقتها القديمة بأنها حقودة ولا تغفر أو تنسى، ثم في مشهد قطيع الإبل الذي يظهر أمامهم فتقترب سارة من الناقة، تلمسها، تتحسسها بحذر، ثم تعانقها في مشهد حميم بين أنثى وناقة، يعكس عمقًا غامضا يجمع سارة والناقة في علاقة تبدو قديمة جدا وربما أزلية، علاقة ظهرت في البوستر بهيئة فتاة وسيقان ناقة! حيث يستحضر الفيلم كثيرا من مدوّنة الذاكرة الشعبية والخرافة، ابتداء بحكاية الإنسان الذي له أقدام حيوان، إلى مرويات حقد الإبل وعدم مسامحتها لمن يؤذيها، وبخاصة في إيذاء ولدها.
لعله الفيلم العربي الأول -فيما أعلم- الذي يعمد إلى توظيف رمزية الناقة بهذه الطريقة التي تستلهم قيمتها كحيوان رافق الإنسان منذ عصوره الأولى، ومن ثم الذهاب برمزية الناقة إلى مناطق أبعد في الثيمة الموضوعاتية والدلالة الثقافية والاجتماعية، حيث تمثل الناقة –من بين دلالاتها الكثيرة جدا- رمزا من رموز الثقافة المحافِظة المشوبة بممارسات التشدد والرفض والتضييق الدائم، وفي أحداث الفيلم تتحول علاقة سارة بالناقة التي بدت توافقية متقاربة في البداية، إلى صراع وتهديد وسعي للانتقام، بعد أن تعدت سارة –دون قصد- على الناقة وأزهقت روح وليدها، وكأن قيم المحافظة والتشدد لا تقبل من يحاول المساس بها وإنْ عن طريق الخطأ! ولكن سارة وعبر مسارات الفيلم أثبتت قوتها وإصرارها على تجاوز كل تلك العقبات الظاهرة والخفية، عقبات بداخلها الأنثوي المتعب، وعقبات في محيطها الاجتماعي الضاغط بشتى الصور والتهديدات.
جاء صراع سارة مع (الناقة) موازيا لأحداث مباراة مهمة للمنتخب الوطني، وكان حضور الحالة الرياضية معادلا موضوعيا للحالة الاجتماعية الجديدة وتحولاتها باتجاه الانفتاح، كانت سارة تصارع على الصعيد الشخصي ضد الهيمنة المتكرسة من حولها، والمنتخب يصارع لإحراز النصر، والجميع يتابع باندماج تام في حالة التحول الجمعية، حتى وإن اصطدم بالناقة وأصيب بكسور وجروح لكن المباراة ظلت مستمرة عبر شاشة الهاتف المحمول المهشم! في حين يختتم الفيلم بوصول سارة إلى أمانها بعد ركض طويل عبر الصحراء والليل وشوارع المدينة وصولا إلى السوق القديم المحترق بفعل إهمال المسؤولين عنه، لتعود إلى حضن والدها الذي يمثل الخوف والسلطة والأمان في ذات الوقت! تزامن وصول سارة وانتصارها في صراعها مع انتصار المنتخب، واحتفال الشباب على طريقتهم بالفوز في إشارة واضحة إلى أن الوجهة الجديدة معاكسة تماما لمرحلة السبعينات بكل حمولاتها، وأن جيل الشباب لديه ما يقوله في هذه المرحلة، وسيقوله وينفذه وفق قيمه ورؤاه وبأدواته وعلى طريقته الخاصة!
يطول الحديث كثيرا علن فيلم ناقة، فقد حفل بكثير من الإمتاع والإبداع على مستوى الحكاية والخطاب الفيلمي، إذ جاءت حركة الكاميرا المتباينة مستجيبة تماما لمركز الرؤية السردية المنطلقة من زاوية نظر متأثرة بالمخدر ومشوشة بالأنساق الاجتماعية المشتبكة، وكان ستار الليل اختيارا فنيا ودلاليا ناجحا جدا، كما قدم الفيلم عينات مرجعية لشخصيات من هامش المجتمع وأطرافه -بالإضافة إلى الشخصيات المركزية- ظهرت في المخيم وسيارات الآيسكريم وتأجير الدبابات وممارسات الدرباوية ومخيم المطاوعة القديم…إلخ. كما لا يمكن أن نتجاوز الموسيقا التصويرية التي شكلت رافدا رئيسا بين عناصر الفيلم المميزة، والتلاعب بالزمن السينمائي في عرض مشاهد استباقية أو استرجاعية، وعرض متكرر لمرور الزمن المرجعي في مقابل زمن الخطاب المتكسر.
أعتقد أن فيلم ناقة واحد من أهم إنتاجات السينما السعودية على الإطلاق، وأنه عمل سينمائي مفصلي سيدخل تاريخ السينما ويمكث طويلا.
اقرأ أيضا: “ناقة”.. ثمن المخاطرة السينمائية