فاصلة

مقالات

«المُقاوِم» جعفر بناهي

Reading Time: 7 minutes

في إيران التي تشهد قمعًا متزايدًا للسينمائيين، ويُعدّ التصوير تحديًا للدولة، يُمثّل جعفر بناهي صوتًا لا هوادة فيه في السينما المعاصرة، ورمزًا للحرية الفنية في خضم الرقابة.

جعل المخرج الإيراني من كلّ فيلمٍ عملًا من أعمال المقاومة. يتجلى الاهتمام الرحيم بمن يعيشون على هامش المجتمع في أفلام بناهي. لذا، لم يكن مفاجئًا أن يرتبط بناهي بالمعارضة السياسية خلال الاضطرابات التي أعقبت إعادة انتخاب الرئيس أحمدي نجاد عام 2009. سجنته الحكومة لعدة أسابيع، ثم وضعته تحت الإقامة الجبرية ومنعته من صناعة الأفلام.

وفي عام 2022، وسط تكثيف الإجراءات القمعية والاعتقالات، عقب صعود إبراهيم رئيسي إلى السلطة رئيسًا، أُلقي القبض عليه مجددًا، وأُعيدت إليه عقوبته السابقة في السجن عندما كان يحتجّ على اعتقال المخرجين محمد رسول أف ومصطفى الأحمد.

المخرج الإيراني جعفر بناهي
المخرج الإيراني جعفر بناهي

أُطلِق سراح بناهي من سجن «إيفين» بعد يومين على بدئه إضرابًا عن الطعام من أجل الحرية، ولكن منعه من التصوير وصناعة الأفلام بات سارِيًا. من الجدير بالذكر أيضًا أن بناهي تحدّى الحكومة الأميركية. أثناء تغيير الطائرة في مطار جون كينيدي في أبريل 2001، احتُجز لساعات لرفضه أخذ بصمات الأصابع، ووُضع على متن رحلة العودة مكبّل اليدين.

في سنّ الثانية عشرة، عمل بناهي بعد المدرسة لدفع ثمن الأفلام. أثرت طفولته المتواضعة على نظرته الإنسانية للعالم. في العشرين من عمره، جُنِّد في الحرب الإيرانية العراقية (1980–1982)، حيث عمل كمخرج أفلام في الجيش.

وفي عام 1981، وقع في أسر المتمردين الأكراد، الذين احتجزوه لمدة 76 يومًا. بعد الحرب، درس في كلية السينما والتلفزيون في طهران. بدأ بناهي مسيرته في صناعة الأفلام بإخراج أفلام وثائقية قصيرة للتلفزيون الحكومي الإيراني في أواخر الثمانينيات.

أول أعماله «الرؤوس الجريحة» (1988)، حيث صوّر بعين إنسانية طقوس التطبير خلال ذكرى معركة كربلاء. صُوّر هذا الفيلم سرًّا، وظل خاضعًا للرقابة لسنوات عدة، مما أنذر بصدمات بناهي المستمرة مع السلطات الثقافية والسياسية في بلاده.

المخرج الإيراني جعفر بناهي
The White Balloon (1995)

كان لقاؤه بالمخرج عباس كيارستمي أثناء تصوير الأخير فيلم «عبر أشجار الزيتون» (1994) حاسمًا. أصبح بناهي، الذي ترك رسالة على جهاز الرد الآلي الخاص بالمايسترو الإيراني لعرض خدماته بأيّ شكل من الأشكال، متدربًا ومساعدًا لكيارستمي. لم يكتفِ كيارستمي بتعليمه المهنة، بل ساعده أيضًا في كتابة فيلمه الروائي الطويل الأول «البالون الأبيض» (1995). فازت هذه الحكاية المبهجة، التي تتبع فتاة مصممة على شراء سمكة ذهبية لرأس السنة الفارسية، بجائزة الكاميرا الذهبية في «مهرجان كان». صُوّر الفيلم بممثلين غير محترفين وبميزانية محدودة، «أردت أن أثبت قدرتي على صنع فيلم بموارد محدودة، عن شيء بسيط كفتاة وسمكة»، هكذا اعترف بناهي بعد سنوات.

ومثل العديد من المخرجين الإيرانيين، بدأ في إخراج أفلام عن الأطفال. تنبع شعبية الأطفال كموضوعات في السينما الإيرانية جزئيًّا بسبب وجود تمويل حكومي لمثل هذه الأفلام، كما أنها تعمل على توجيه صنّاع الأفلام بعيدًا عن مشكلات الرقابة التي تُعقّد التصوير.

مع فيلمه الروائي الثاني «المرآة» (1997)، بدأ بناهي بتجربة الحدود بين الخيال والوثائقي. يبدأ الفيلم كدراما عن فتاة صغيرة تائهة في طهران، ثم يتخذ منحًى سينمائيًا متجاوزًا عندما تقرر البطلة الشابة التخلّي عن دورها وتكسر الحاجز الرابع، محوّلةً الفيلم إلى وثائقي مرتجل عن رحلتها إلى الوطن. هذه الخطوة الجريئة، التي نال بها جائزة الفهد الذهبي في مهرجان لوكارنو، أظهرت مخرجًا بدأ يشكك في أعراف السرد مع الحفاظ على التزامه بالواقعية الاجتماعية.

المخرج الإيراني جعفر بناهي
The Circle (2000)

قرّر بناهي معالجة التعقيدات الرقابية والاجتماعية بشكل مباشر من خلال فيلمه الثالث «الدائرة» (2000)، الذي يُعدّ نظرة ثاقبة على القيود المفروضة على المرأة في إيران المعاصرة. كان الفيلم نقطة التحول، وكان أكثر أعماله صراحة سياسيًّا حتى ذلك الحين. تدور أحداث الفيلم في شوارع طهران، وتتشابك فيه قصص العديد من النساء اللواتي يواجهن أشكالًا مختلفة من القمع المؤسسي. صُوّر الفيلم بأسلوب وثائقي مع لقطات طويلة خانقة ومتوترة، وحُظر على الفور في إيران بتهمة «إهانة النساء المسلمات»، لكنه فاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية.

استمرت هذه النبرة الجديدة للنقد الاجتماعي في فيلم «الذهب القرمزي» (2003)، المقلق: «بدأت بأفلام عن الأطفال، ثم فكرت… في ما حدث عندما كبرت أولئك الفتيات»، كان المخرج يشرح تغيّر نهجه قائلًا: «أردت أن أُظهر حدودهم».

المخرج الإيراني جعفر بناهي
Crimson Gold (2003)

فيلم «الذهب القرمزي»، المقتبس عن قصة حقيقية رواها له كيارستمي، قد عمّق نقده للنظام الطبقي الإيراني. أصبحت قصة عامل توصيل بيتزا يحاول سرقة متجر مجوهرات فاخر استعارة صارخة لعدم المساواة الاجتماعية. صُوّر الفيلم بأسلوب صارم، وبطولة ممثلين غير محترفين (ظهر عامل التوصيل الحقيقي الذي ألهمت حياته القصة في ظهور قصير)، وفاز بجائزة «نظرة ما» في مهرجان كان.

تروي أفلام بناهي قصصًا بسيطة وجذابة تهدف في المقام الأول إلى خلق تفاعلات بين عدد من الشخصيات المتجسدة بوضوح. وهكذا، تميل أفلامه إلى أن تصبح صورًا لمجتمع أو مدينة أو حيّ أو مجموعة من الناس. هذا الجانب الاجتماعي من عمله هو ما جعل الحكم عليه قاسيًا للغاية.

بالطبع، وبصفته فنانًا بارعًا، واصل بناهي إبداعه.

Offside (2006)
Offside (2006)

صوّر فيلم «تسلل» (2006) سرًّا خلال مباراة تصفيات كأس العالم بين إيران والبحرين. جمع العمل قصص فتيات يتنكّرن في زي رجال للتحايل على حظر دخول النساء إلى الملاعب الرياضية، بين الفكاهة والتعليق الاجتماعي مع نضارة غير عادية. تمكن جعفر بناهي من تصوير مشاهد داخل ملعب آزادي، مندمجًا مع الجمهور، ومستخدمًا كاميرات رقمية صغيرة ليمرّ من دون أن يلاحظه أحد. لم يقتصر فوز الفيلم بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين على قيمته الفنية فحسب، بل شمل أيضًا أهميته السياسية، على الرغم من رد الحكومة الإيرانية بـمنع عرضه مجددًا. سرعان ما انتشرت نسخ مقرصنة من الفيلم على نطاق واسع في إيران، ليصبح الفيلم رمزًا للمقاومة الثقافية.

المخرج الإيراني جعفر بناهي
This Is Not a Film (2011)

في عام 2011، أثناء استئنافه الحكم، صوّر فيلم «هذا ليس فيلمًا» في شقته في طهران. بميزانية قدرها 3200 يورو فقط، وباستخدام كاميرا منزلية وهاتف آيفون، يصوّر الوثائقي حياته اليومية تحت الإقامة الجبرية: يتحدث عبر الهاتف مع محاميه، ويناقش قضيته، ويعيد تمثيل مشاهد من أفلام محظورة. عنوان الفيلم، المستوحى من لوحة رينيه ماغريت «هذا ليس غليونًا»، يتحدى تعريف السينما، فهو صورة غير مُفلترة لحالته كفنان خاضع للرقابة ومُضطهد. يرفض بناهي الاستسلام للقمع، ويُوحّد صفوفه بسلاحه الوحيد: كاميرا (أو هاتف) توثّق حياته، الشيء الذي لم يستطيعوا انتزاعه منه، «إذا لم تستطع التصوير في الخارج، فصوّر نفسك»، قالها بناهي. لإخراج الفيلم من إيران، نُسخ الفيلم على وحدة تخزين USB، مُخبّأة داخل كعكة وهُرّبت إلى مهرجان كان، حيث عُرضت كمفاجأة اللحظة الأخيرة.

في عام 2013، وبعدما اكتسب خبرة أكبر في التحايل على الرقابة، شارك في إخراج فيلم «الستار المغلق»، مع صديقه المخرج الإيراني كامبوزيا بارتوفي. صُوّر الفيلم في منزل على بحر قزوين، ويتتبّع قصة هاربَين (يجسّد دورَيهما بارتوفي ومريم مقدم) يختبئان من الشرطة بإغلاق الستائر.

فاز الفيلم، الغني برمزية الحبس والمراقبة، بجائزة الدب الفضي لأفضل سيناريو في مهرجان برلين. لم يتمكن بناهي من حضور المهرجان، لكنه وجّه رسالة مفادها: «السينما قادرة على هدم أي ستار».

Taxi (2015)
Taxi (2015)

وفي فيلم «تاكسي طهران» (2015)، أصبح بناهي سائق تاكسي، وصوّر ركابه بتكتم. يُصوّر الفيلم، المُصمَّم على شكل وثائقي ساخر، المجتمع الإيراني من خلال حوارات عفوية. ورغم محاولة الحكومة منعه من المشاركة، منحته لجنة تحكيم مهرجان برلين جائزة الدب الذهبي، أرفع جوائز المهرجان. صرّح بناهي قائلًا: «هذا التاكسي هو استوديو أفلامي. هنا، الشارع هو موقع تصويري».

المخرج الإيراني جعفر بناهي
3 Faces (2018)

في فيلمه «ثلاثة وجوه»، تبحث بهناز جعفري، الممثلة الإيرانية الشهيرة، عن فتاة صغيرة (مرضية) في شمال غرب إيران برفقة صديقها المخرج جعفر بناهي، بعدما شاهدا فيديو للفتاة تطلب المساعدة لمغادرة عائلتها المحافظة. يتخذ الفيلم طابع فيلم طريق، وتدور معظم أحداثه داخل سيارة بناهي الرياضية متعددة الاستخدامات وحولها. تشهد الرحلة العديد من اللقاءات الغريبة مع شخصيات وتقاليد محلية. تُكتشف مرضية، المنبوذة من القرية، في النهاية وهي تعيش مع امرأة أخرى أكبر سنًا تعيش حياة منعزلة، وكانت هي نفسها ممثلة، وقد تعرضت هي الأخرى للنبذ بعد سنوات من سوء المعاملة من المخرجين الذكور. حصد الفيلم جائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان.

المخرج الإيراني جعفر بناهي
No Bears (2022)

في عام 2022، عُرض فيلمه «لا دببة» للمرة الأولى في مهرجان البندقية، حيث فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة. الفيلم، الذي صُوّر بالقرب من الحدود التركية، يمزج بين الواقع والخيال: يظهر بناهي كمخرج يحاول التصوير عن بُعد وهو محاصر في صراع محلي. بنبرة أكثر قتامة من أعماله السابقة، يعكس الفيلم المنفى واستحالة الهروب من القمع. يشهد الفيلم إبداع بناهي السينمائي الثاقب، ويحثّ المشاهدين على سبر أغوار قصة تبدو في ظاهرها بسيطة.

بعد اختيار عرض الفيلم في المهرجان، وصفت وزارة الثقافة الإيرانية الفيلم بأنه «لعبة سياسية، وليس فيلمًا، ولا يملك ترخيص إنتاج». كان هذا آخر فيلم له قبل اعتقاله مرة أخرى في ذلك العام، بعدما أبدى تضامنه مع مخرجين آخرين مضطهدين.

بدأ إضرابًا عن الطعام، وأُطلِق سراحه بعد أيام. أحدث أعماله، الذي عُرض في مهرجان كان الأخير، وحصل على جائزة السعفة الذهبية، يتحدى القوانين الإيرانية صراحةً من خلال تصوير نساء من دون حجاب.

في «حادث بسيط»، يتجرّأ بناهي لأخذ النظام الإيراني رهينة، وحتى تقديمه لمحاكمة ولو موجزة. بموارد محدودة، يبني حكاية ذات قوة وتأثير مذهل، تُصوّر انحدارًا حقيقيًا في جحيم مجتمع منهار.

«حادث بسيط» لجعفر بناهي.. من دحرج كرة الثلج؟
it was just an accident

«حادث بسيط» فيلم شخصي للغاية، حاد، بلمسة فكاهية، وينتهي ليكون بيانًا سياسيًا واستعارة اجتماعية وسياسية. مواجهة عينٍ بالعين وسنٍ بالسن لمكان وزمان وأيديولوجيا. عندما فاز بالجائزة، أهدى بناهي السعفة لصنّاع الأفلام المسجونين في إيران.

كان بناهي ولا يزال، يخاطر بحريته، بل حتى بحياته، من أجل صناعة فيلم. فنان ملتزم، يواجه القيود بالقلم والكاميرا، بدلًا من الصمت أو الهروب.

يُعدّ بناهي، البالغ من العمر 62 عامًا، من أبرز رموز السينما الإيرانية وأكثرها تأثيرًا. هو أحد أعمدة السينما الإيرانية عميقة المعالجة، التي تنبض بالصدق، رغم ما تعانيه من رقابة صارمة، قد تكون في أحيان كثيرة قمعية وجذرية.

اقرأ أيضا: جعفر بناهي عن «It Was Just An Accident»: أكثر أفلامي صدقًا وجرأة

شارك هذا المنشور

أضف تعليق