فاصلة

مراجعات

«المينة»… مسحٌ متعمّق لندوب مناجم جْرادة

Reading Time: 4 minutes

في فيلمها “المينة” L’mina المُتوّج بجائزة “الاكتشاف الجديد” من أسبوع النقاد في مهرجان كان 78، اختارت المخرجة المغربية راندا معروفي، أن توجه عدستها صوب مناجم جْرادة الواقعة شمال شرق المغرب، وذلك بعد زهاء ربع قرن على إغلاقها بصفة نهائية ورزوح المدينة تحت وطأة التهميش والجمود، لكن الفقر والبطالة يدفعان عمالاً لم يعرفوا وأسلافهم عملاً غير التنجيم إلى استغلال المناجم بشكل عشوائي يهدر حيوات بعضهم مقابل استخراج بضع كيلوجرامات من الفحم الحجري. 

تتعلق حياة العمال بين الآبار الضيقة وغير المؤمّنة التي حُفرت بوسائل بدائية تجعلها آيلة للانهيار في أي لحظة، وبين استغلال مالكي مخازن الفحم الكبرى الذين يفرضون ثمن بيع زهيد يدرّ عليهم أرباحاً بملايين الدراهم، غير أنه يكفي بالكاد لسد تكاليف عيش عمال المناجم الكادحين.

المينة (2025)
المينة (2025)

تعيد معروفي خلق ظروف عمل وحياة عمال المناجم في ديكور شيدته بمشاركة أهالي المدينة، تحفر داخله بلقطات متابعة طويلة ومتأنّية لتربط بين مصائر العمال في حركة واحدة، وتتابع زحفهم بأنفاس زهيدة في ضيق الأنفاق، وتواصُلهم بجمل مرتعشة يتردد صداها، فتختلط بشريط صوتي مقبض ومقلق برعت في إعداده سارة قدوري والمؤلف الموسيقي توني غيتاني.

لقطات المتابعة كانت حاضرة كذلك في عمل معروفي “المتنزه Le Park” (2015) الذي أخرجته حول ظاهرة “التشرميل” أي العنف المسلح بالسكاكين على يد شباب منحدرين من أحياء مهمّشة. وتُعدّ تلك اللقطات لازمة أساسية في توقيعها الفني.

تتمتع أعمال معروفي كذلك بسرديات واضحة ذات بعد اجتماعي واقتصادي لا تحيد عنه، تقول هي في أحد تصريحاتها الصحفية: “المينة هو استمرار لأعمالي السابقة التي تبنّت كلها تقريبًا إخراجًا مستوحى مباشرة من الواقع”، لكنها في الوقت نفسه لا تسعى إلى تقديم إعادة تمثيل مخلصة لهذا الأخير. في فيلمها الذي حصد التصفيق وجائزة الاكتشاف لأسبوع النقاد في كان، تلعب معظم الشخصيات دورها الحقيقي في الحياة، مساهمةً في خلق وثيقة تخييلية.

المينة (2025)
المينة (2025)

في بداية الفيلم، نرى مجموعة من عمال المناجم الطاعنين في السن، يحملون على أجسادهم انعكاسات عقود من العمل في ظروف غير ملائمة، يعودون لاعتمار ملابس وعدة العمل (البدلة الزرقاء، الخوذة الواقية…)، وينتظمون أمام الكاميرا لالتقاط صورة “عائلية” تضعنا منذ البداية في جو التضامن والتآزر المعهود بين عمال المناجم، والذي يذهب إلى حدّ استعدادهم للتضحية بحياتهم من أجل بعضهم البعض. هذا التآلف امتد إلى أهالي المدينة في فترة حراك اندلع في مطلع 2018، عقب وفاة ثلاثة شبان ضحية لانهيار مناجم، ما خلّف غلياناً أعقبته احتجاجات للمطالبة بحقوق مشروعة. يستحضر “المينة” الحراك من خلال إعادة تمثيل غير مخلصة لمشهد مظاهرات ترفع شعارات تفضح التهميش والبطالة. تتدخّل الشرطة للحيلولة دون تقدّم المتظاهرين، فيقع تدافعٌ بين الطرفين. مشهد ينطوي على لفتة سياسية وإنسانية مهمة نحو حراك دام لشهور وأدى لاعتقال أكثر من 200 متظاهر.

في لحظات متفرقة من الفيلم، نرى مشاهد حياة من مدينة جرادة توردها المخرجة بجمالية شريط “سوبر 8” تروم للإيحاء بأجواء فترة جرادة الذهبية، قبل أن تختم بلقطة بانورامية طويلة – قياساً إلى مدة الفيلم- تتوالى فيهاعلى خلفية مناظر حياة يومية متجرّدة بالمدينة، صور أطفال يلهون، تضفي لمسة تفاؤلية على فيلم قاتم إلى حد ما. تفسر المخرجة: “تضفي صور “سوبر 8″ أيضًا إحساسًا حميميًا وعائليًا. أتاح لي ذلك استكشاف صلة الجيل الجديد بالأرض والمنجم، مع تقديم قصة أكثر حميمية وفردية. يتعلق الأمر بتنقل بين التاريخ وتداعياته السياسية والاجتماعية والبيئية، دون الاستسلام لبساطة المقاربة الخطية”.

المينة (2025)
المينة (2025)

يكمن اختيار الإخراج الأبرز في “المينة” في تدبير جمالي يعتمد ديكوراً على شكل مقطع عرضي Section transversale، يكشف دواخل المنجم وأعماقه لعدسة كاميرا مدير التصوير لوكا كواسان. وهو تنويعٌ على اختيار معروفي التصوير بزاوية عليا في “باب سبتة” (2019) الذي أحكمت فيه المخرجة للقبض على معاناة العاملات في تهريب السلع على الحدود الوهمية مع سبتة المحتلة (واحدة من مدينتين مغربيتين تحتلهما أسبانيا). هنا، تستعيد معروفي زاوية التصوير نسفها التي تتموضع فيها الكاميرا في زاوية جانبية لتلتقط مقطعًا عرضيًا لمأساة عمال مناجم جرادة. تقول معروفي في تصريح صحفي في كان: “خلال بحثي لفهم الواقع الجوفي بجرادة، صادفتُ مقاطع لطبقات مختلفة من التربة والصخور فوجدتها مذهلة. لقد ذكرتني تقريبًا بشكل من أشكال جراحة المناظر الطبيعية أو محاولة قراءة لجسم الأرض”، وتستطرد في شرح اختيارها في تصميم الديكور، “قمنا مع فريق تصميم الديكور ببناء بئر ونفق. ثم صوّرنا كل لقطة متابعة على حدة، مثل أجزاء من كل، وقمنا بتجميعها معًا في مرحلة ما بعد الإنتاج، وكأننا نخيط ثوباً. كان التصوير في آبار حقيقية أمرًا غير وارد على الإطلاق، خوفًا من تعريض أي كان لخطر محتمل. لقد وجّه هذا الرفض اختيار تصميم الديكور برمّته”.

إنّها الحيلة التي تقول الحقيقة بشكل أصدق من الواقع نفسه حين يفرض الوقوف عند حافة الآبار بسبب الطبيعة الجيوليوجية المعقدة والخطرة في آن، ما يحول دون دخوله من طرف الكاميرا، تواصل معروفي: “صمّمنا مواقع التصوير مع فريق عمل مكون من عمال المناجم وغيرهم. وغالبًا ما كنت أستشيرهم سواء في التصوير أو الترجمة أو المونتاج أو حتى مرحلة ما بعد الإنتاج. كنت أشارك النسخ قيد التنفيذ، وأطلب تعليقاتهم عليها، وأجري تعديلات موازاة مع تقدّم النقاش”، تؤكد المخرجة “نمط الإنتاج الجماعي هذا هو جوهر الفيلم. كما ساهم أمين مقلش، وهو ممثل وشخصية مهمة وسط الحياة السياسية في جرادة، في إنجاز المشروع بسخاء وتصميم نادرين. وشكل ركيزة أساسية في كل جوانب الفيلم”.

المينة (2025)
المينة (2025)

في مشاهد أخرى، نشاهد مسحاً ثلاثي الأبعاد للمنجم تغيم بعض جوانبه كما لو كانت تتأهب للاختفاء، كناية على هشاشة فضاء وطابع مدينة شبحية المعالم. كانت المناجم في اوج عطائها توظف نحو 78 ألف عامل، ومع هجرانها بدأت معالمها تغيب كما غابت مظاهر الحياة التي كانت ترافق هذه الدبيب البشري الغامر. تقول المخرجة: “تتفق عمليات المسح ثلاثية الأبعاد وتقنيات التحقيقات الجنائية l’architecture forensique، وكذلك الأدوات التقنية للمراقبة والتحكم. تتوافق هذه المرجعيات تمامًا مع مقاربتي التي غالبًا ما أستخدم فيها أدوات رسمية لسرد قصص غير نظامية”. 

وقّعت راندا معروفي فيلماً مُبتكراً يضيف لبنة لتجربة إنضاج واختمار فريدة في مضمار الفيلم القصير، حان الوقت ربما لتنتقل إلى إخراج فيلم طويل أول بذات الالتزام والتطلّب والرؤية الإبداعية. 

اقرأ أيضا: «الحياة بعد سهام».. أمي وأبي وأنا

شارك هذا المنشور

أضف تعليق