بين أنقاض مدينة أنهكتها الحرب، تولد حكايات جديدة لتجاور أخرى راسخة تأبى الاندثار. هكذا وُلد فيلم «الخرطوم»، الوثائقي الطويل الذي يشبه المدينة التي يحمل اسمها في صلابتها وقدرتها على الصمود. لم يكن طريق هذا الفيلم مفروشًا بالورود، بل كان محفوفًا بالمخاطر، إذ بدأ تصويره كقصيدة بصرية تحكي عن مدينة تعجّ بالحياة، لكن مع اندلاع الحرب في السودان، تحولت الكاميرا إلى شاهد على المأساة، توثّق معاناة خمسة من سكان الخرطوم الذين تمزقت حياتهم بين النزوح والصراع: مجدي، الموظف المدني وعاشق تربية الحمام، وجواد المتطوع في لجنة المقاومة، ولوكين وويلسون الطفلان اللذان يجمعان الزجاجات البلاستيكية من القمامة لشراء ما يسد حاجتهما، وخادمة الله بائعة الشاي وأم لطفل. كل منهم يحمل جزءًا من حكاية المدينة التي لم تستسلم رغم المحن.
ورغم أن الحرب بعثرت فريق الفيلم في أصقاع الأرض، إلا أن عزيمتهم جمعتهم مجددًا، ليكملوا تصوير الفيلم بشغف مقاوم. ومن صندانس الأمريكي إلى برلين، قوبل الفيلم باحتفاءً كبير، ليس فقط كعمل سينمائي، وأيضًا كصوت يصرخ باسم مدينة تحترق.

حمل الفيلم توقيع خمسة مخرجين هم إبراهيم سنوبي، أنس سعيد، راوية الحاج، تيمية أحمد، بالتعاون مع صانع الأفلام البريطاني فيل كوكس، وهو من إنتاج المخرج السينمائي طلال عفيفي، بالتعاون مع جيوفانا ستوبوني، «عفيفي» وصف تجربة عرض الفيلم في الدورة المنتهية من مهرجان برلين بأنها «استثنائية بكل المقاييس»، فـ«برلين لم تكن مجرد منصة لعرض الفيلم، بل وساحة للقاء فريق عمل الفيلم الذين فرقتهم الحرب، بعد أن التقينا لأيام قليلة في صندانس».
هل تعتقد أن الفيلم سيجد صدى في عروضه القادمة، لا سيما في القاهرة ونيروبي؟
بلا شك، هذه المدن تحوي كتلًا من السودانيين الذين ستلامسهم حكاية الفيلم بعمق، فهم ليسوا مجرد مشاهدين، بل شهود على مأساة يتردد صداها في أرواحهم. وبالمثل سأكون سعيدًا إذا ما عُرض الفيلم في اي مكان يضم جالية سودانية كبيرة.
لم اخترتم أن يكون بالفيلم حس ساخر على الرغم من موضوعه القاتم والعنيف؟
لا أعد الفيلم ساخرًا، وربما تكون السخرية في بعض تجلياتها واحدة من مزاياه، فقد أتاحت المساحة للفيلم كي يتخلص من الخطابة والمباشرة، بل جاء قريبًا من طبيعة الخرطوم وسكانها، كأن الخرطوم نفسها تحكي قصتها بصوتها الحقيقي، المفعم بالسخرية السودانية التي تتحدى الألم بالأمل.

ولأن طلال من مؤسسي مبادرة «سودان فيلم فاكتوري» وعن طريقها أُنتج الفيلم، سألناه عن أثر تلك المبادرة في السينما السودانية:
انطلقت «سودان فيلم فاكتوري» في سنة 2010، كمبادرة لتدريب الشباب على فنون السينما، من التصوير والإضاءة إلى كتابة السيناريو. لكنها سرعان من خرجت عن كونها مجرد مدرسة، وتحولت إلى نواة صلبة لمجتمع سينمائي متكامل.
منذ 2014، أصبحت سودان فيلم فاكتوري هي المنصة الأهم للإنتاج والتوزيع، وتنظيم المهرجانات، وعلى رأسها مهرجان السودان للسينما المستقلة، وهو ما جعلها المحرك الأساسي لنهضة السينما السودانية، إذ أتاحت الفرص وربط الأجيال ببعضها، ورسّخت لفن السينما كأداة مقاومة وتعبير.
هل يمكن اعتبار «سودان فيلم فاكتوري» منصة سياسية أم أنها سينمائية خالصة؟
السينما هي التي تقودنا، لا السياسة. الفيلم هو قرار المخرج، سواء اختار أن يحكي عن قضايا عامة أو تجارب شخصية. المنصة توفر البيئة، أما الاتجاه، فهو شأن الفنان وحده، سوى أنني لا أنفي أن «السودان فيلم فاكتوري» توجهاتها السياسية واضحة، فيما يخص الاستقلالية والتعامل مع القضايا المحيطة كمؤسسة تعمل بقوة على التعبير عن قضايا شعبها والإقليم من منظور تقدمي.

الفيلم حمل توقيع خمسة مخرجين، هل كان ذلك مخططًا منذ البداية؟
نعم، فمبتدأ الفيلم كان تقديم قصيدة سينمائية عن الخرطوم، ومنحها أصواتًا متعددة، ترويها من زوايا مختلفة. الحرب غيّرت مسار الفيلم، لكنها لم تبدّل جوهره، بل ربما منحته بعدًا أعمق، حيث تحول من فيلم عن المدينة إلى فيلم عن الناس وإرادة أهلها، وعن مقاومتهم للدمار، عن تمسكهم بالحياة رغم كل ما طرأ عليهم إثر القصف والعدوان اللذان لم يكونا في الحسبان عند بداية المشروع.
كيف تعاملتم مع التحديات التي فرضها النزوح والتشتت؟ ولم لجأتم للتخييل ممثلاً في استخدام «الكروما الخضراء»؟
بالإرادة والقرار المشترك. أصر فريق الإنتاج على إكمال الحكاية، وتمكّن من جمع المخرجين والشخصيات وإجلائهم إلى خارج مناطق الحرب، من داخل السودان إلى نيروبي، حيث عقدت هناك ورشة تفكير إبداعي بقيادة فيل كوكس، لتعيد رسم وبناء الفلم من جديد. ومن ضمن إعادة البناء لجأنا إلى الشاشة الخضراء في التصوير، كان حلًا إبداعيًا فرضته الضرورة بعد أن فقدنا فرصة الوجود والتصوير في الخرطوم مع اندلاع الحرب. كان علينا خلق بديل بصري، فمزجنا الخيال والحلم بالحقيقة عبر الأنيميشن والـ Green Screen، للحفاظ على روح الفلم دون السقوط في التقريرية المباشرة.
رغم تعدد المخرجين، بدا الفيلم موحدًا في أسلوبه البصري والإخراجي، كيف تحقق ذلك؟
الورشة الإبداعية التي جمعت المخرجين أوجدت إيقاعًا موحدًا، لذا الفيلم بات كقطعة موسيقية، كل مخرج فيها يعزف على وتره، لكن اللحن واحدًا، وهذا كان همنا كفريق إنتاجي منذ البداية.

بعيدًا عن الحرب، ما أبرز التحديات التي واجهت فيلم «الخرطوم»؟
تحديات السينما في الجنوب العالمي معروفة: التمويل والتصاريح الأمنية وتوفر المعدات، تضاف إليها العقوبات الاقتصادية، التي جعلت حتى تحويل الأموال للإنتاج أمرًا معقدًا. أما التحدي الأكبر، فكان التعاطي مع الشخصيات نفسها، التي تعيش ظروفًا قاسية، ومع ذلك، آمنت بالفيلم، ومنحته روحها.
كيف وجدت ردود الفعل في «صندانس» و«برلين»؟
كان استقبال الفيلم إيجابيًا جدًا في كلا المهرجانين، لكن ربما في برلين كان التفاعل أعمق. فمدينة برلين تفهم الخرطوم لأنها مرت بالمآسي ذاتها وإن اختلفت الأسباب؛ فبرلين كذلك شهدت النزوح والحرب وإقامة الجدران التي تفصل الناس والأحلام.

كيف ترى مستقبل السينما السودانية؟
رغم تراجع كثير من القطاعات المهنية في السودان، فإن السينما في بلدنا تتطور، حيث تقدم باقات مثل: «ستموت في العشرين» و «الحديث عن الأشجار» و«وداعًا جوليا» و«الست» و «خرطوم اوفسايد»… إلخ، فنحن نشهد ميلاد جيل جديد، يمتلك هوية سينمائية واضحة، وأمامنا مخرجات و مخرجون ينتظر منهم العالم الكثير.
هل الأفلام السودانية أقرب إلى السينما الإفريقية أم العربية؟
السودان وسينماه هو ذلك المزيج السلس بين الإفريقي والعربي، لا يمكن فصل أحداهما عن الآخر. الهوية السودانية برزخ ناعم بين الثقافتين، وهذا ما يمنح أفلامنا تفردها.
كيف تتجنب السينما السودانية الوقوع في فخ الاغتراب عن مجتمعها واستجداء الغرب؟
بالأصالة. رغم سياسات التمويل التي تحاول توجيه السينما المستقلة، إلا أن المخرجين السودانيين امتلكوا قدرة على «المراوغة الفنية»، فهم يسردون المأساة، لكن بلغة سينمائية بديعة، مثلما شاهدنا في فيلم «ستموت في العشرين» فهو يتحدث عن مأساة محلية ويجول في عالم الغيبيات والخرافة دون أن يسقط في فخ إرضاء الحس الاستشراقي لدى الغرب، فبداخله حكاية سينمائية بديعة، كذلك الحال بالنسبة لفيلم «الحديث عن الأشجار»، الذي تناول مظالم الطبقة الوسطى والمجتمع الثقافي والشعبي بالسودان، كل ذلك تم تقديمه خلف نكتة سينمائية بديعة أيضًا.

بعد «الخرطوم» ماذا ننتظر من السينما السودانية؟
حصد «الخرطوم» ثلاث جوائز في برلين، وهناك أفلام أخرى ترونها قريبًا مثل «ملكة القطن» لسوزانا ميرغني، وفيلم يجمع المنتج محمد العمدة والمخرج محمد فاوي، كذلك مخرج «الحديث عن الأشجار» صهيب الباري، أتوقع إنه يعكف حاليًا على كتابة عمل جديد.
في النهاية هل سمة تعاون مرتقب يجمع «سودان فيلم فاكتوري» والسعودية؟
السينما السودانية في ذروة نهضتها، والتعاون مع سينمائيي السعودية سيجعلها أكثر حضورًا على الساحة العالمية، خاصة أن ميلادنا السينمائي قريب من بعض.