يحلم أنصار العدالة الاجتماعية بالعالم المثالي، الذي يولد البشر فيه متساويين، لا يتم تصنيفهم وفقًا لطبقتهم الاجتماعية أو وظائف آبائهم، أو طريقة أخرى للتمييز طوّرتها المجتمعات عبر قرون. ورغم الأحلام المشروعة، يظل البشر دومًا محكومين بتلك التفرقة، التي تمنح البعض امتيازات مسبقة لم يجتهدوا كي يولدوا فيجدوها في حوزتهم، وتجعل آخرين يعيشون من يومهم الأول محمّلين بما لم يقترفونه: واقعهم واشتراطات عالمهم، بما يتيحه لهم من خيارات محدودة وعوائق لا تُحصى.
في فيلمه الروائي الطويل الأول، وفيلمه الطويل الثاني بشكل عام، يواصل المخرج المصري محمد رشاد اشتغاله على علاقة الماضي بالحاضر والمستقبل. الموضوع الذي تطرق له من مدخل شخصي في فيلمه الوثائقي «النسور الصغيرة»، قبل أن يعود ويتناوله من زاوية أوسع وبعمق أكبر في «المستعمرة»، الذي استضاف مهرجان برلين السينمائي الدولي الخامس والسبعين عرضه العالمي الأول، ضمن مسابقة «وجهات نظر» التي استحدثها المهرجان هذا العام.

في الوثائقي، حاول رشاد المقارنة بين نفسه وأصدقاءه، فهو ابن العامل اليدوي البسيط الذي يُعاني ابنه كي يوصل له أبعاد مهنته التي لا تبدو إنها تعود عليه بمكسب يُذكر، وبين أقرانه أبناء العائلات اليسارية العريقة، الذين أسس أهلهم ناديًا للأطفال اسموه «النسور الصغيرة» كي يشب الأبناء فيه مشبعين بثقافة رفيعة، يسارية الهوى بطبيعة الحال، فيُكملوا مسيرة آبائهم الفكرية والحياتية. جاء الفيلم مشحونًا بالتساؤلات، المُنطلقة بالأساس من سؤال رشاد لذاته: هل أُشبه أصدقائي فعلًا؟ هل استحق الالتحاق بهم وأنا من تعلم في مدارس حكومية ولم يكن يومًا أحد النسور الصغيرة؟
باختصار، ينشغل محمد رشاد بتيمة الوصم، كل ما يحمله الإنسان على عاتقه، ويتحرك به في سباق الحياة الذي يُفترض أن يكون عادلًا، وهو بالضبط ما ينطبق على بطل حكاية «المستعمرة» حسام (أدهم شكر)، وبدرجة أقل على شقيقه الأصغر مارو (زياد إسلام).
الموت ثمنًا للحياة
شاب في العشرينيات، لم يُكمل تعليمه ودخل في مشكلات قانونية وأسرية، يجد نفسه فجأة مضطرًا لقبول عرض من نوع خاص: أن يحل وشقيقه محل الوالد في المصنع الذي كان يعمل فيه، والذي مات داخله بسبب حادث مشكوك في حقيقته وهوية من تسبب فيه. المصنع يريد إغلاق القضية بعيدًا عن القانون، والأسرة تحتاج إلى المال، والشاب الذي كان ملفوظًا من المجتمع يجد فرصة للاندماج مجددًا في وظيفة محترمة، بينما الأخ الصغير يحلم بحياة الكبار، وبالانتقام ممن تسبب في موت والده.
نظريًا، تبدو الصفقة منطقية لجميع الأطراف، لكننا عمليًا ندرك كم الوصمات التي يعيش حسام بها، والتي تحول بينه وبين ممارسة حياة اعتيادية، حتى لو رغب في ذلك. حسام موصوم اقتصاديًا بسبب فقره، تعليميًا بسبب عدم إنهائه الدراسة، قانونيًا بسبب ماضيه الذي يمنعه من إصدار صحيفة سوابق تُؤهله للحياة المهنية الطبيعية، والأهم إنه موصوم اجتماعيًا، فهو الابن العاق الذي انقلب على أهله وسرقهم وترك المنزل ليعيش مع المجرمين، والذي حكى والده قصته للزملاء فصاروا يقابلون حسام بابتسامة ترحاب مصدرها احترام ذكرى والده، لكنهم يخفون داخلهم أحكامًا عليه وعلى كل ما يفعله.
إذا أضفنا إلى ذلك معرفة الجميع بحقيقة الصفقة التي قبلها حسام مع إدارة المصنع، والتي قد تعني رغبته في الاستقامة ومساعدة الأسرة، وقد تعني في قراءة أخرى كونه مجرد ضبع، وافق على أن يبدأ حياة ثمنها السكوت عن دم والده الراحل، فسنجد نفسنا أمام بطل تراجيدي بامتياز. بطل محكوم على سعيه بالفشل، فحتى وإن أخلص النيّة على أن يبدأ حياة جديدة، فالناس في تلك الحياة لن يقبلوه أبدًا جزءًا عضويًا من مجتمعهم، ولو كان المجتمع نفسه موصومًا بالفقر والتهميش.

عن الإنسان والماكينة
يبرع محمد رشاد في رسم شخصية حسام التي يجسدها أدهم شكر بتفهم شديد لوضع الشخصية المعقد، حيث تتصارع داخله الدوافع التدميرية التي تسببت مسبقًا في توتر العلاقة بينه وبين عائلته، وبين رغبته الصادقة في أن يفتح صفحة جديدة في حياته، في الوقت نفسه يشعر بتوجس الآخرين منه وتوقعهم المستمر أن تكون أفعاله مجرد غطاء زائف لخطة انتقام، أو مرحلة مؤقتة سيعود بعدها لسابق عهده. هذا الوضع المؤسف يجعله قنبلة موقوتة تنتظر فقط الوقت الملائم للانفجار. لكن هل ستنفجر حقًا؟ يتركنا الفيلم نتوقع إجابة هذا السؤال طويلًا.
يقدم «المستعمرة» أيضًا عالمًا بصريًا جديدًا تمامًا على الشاشة. المخرج أوضح هوسه بما أسماه «البيئة الصناعية»، أي بالممارسات المهنية اليدوية للشخصيات. شاهدنا عمل والده كثيرًا في «النسور الصغيرة»، ونشاهد هنا كيف تُشكل علاقة العامل بماكينة الصلب عنصرًا رئيسيًا في شخصيته. تلك الماكينات البالية التي توقفت أغلب دول العالم في الأغلب عن استخدامها، والتي تُمثل لمستخدمها الحياة والموت معًا. فهي مصدر رزقه ورفيقته اليومية لساعات طوال، وهي الخطر الدائم الذي قد يقفز في لحظة انعدام تركيز لتبتر يده أو تأخذ حياته كلها.
لاحظ التصالح في الحوار مع وجود ضحايا دائمين للماكينات، وكأنها عرض جانبي بسيط للعمل في تلك البيئة. لاحظ أيضًا حس الأبدية في علاقة العمال بالمكان. سيموتون هنا وسيرثهم أبنائهم ليستكملوا المسيرة بعدهم. قد تكون «المستعمرة» هنا مقابلًا موضوعيًا للوطن، وتلك القدرية التي تجعل المرء لا يختار أين يولد، وما يترتب على ذلك الميلاد من التزامات أزلية.

في المستعمرة
المفارقة أن مصلح «مستعمرة» يستخدم لغويًا للتعبير عن أمرين: أولهما حضري حول القيام بتعمير مكان خاو، بما تحمله الكلمة من ارتباط تاريخي باحتلال الدول، فهو تطوير واستلاب معًا. التعبير الثاني شديد البدائية عند الحديث عن مستعمرات البكتريا التي تتكاثر في بيئة ملائمة.
المدهش أن عنوان الفيلم قد يحمل المعنيين معًا: المصنع الذي كان نقطة مركزية تم تعمير الحيّ السكني حولها، والبشر الذي يعيشون في المستعمرة كالبكتريا، يتكاثرون ويتوارثون صفاتهم ومنظومتهم القيمية من جيل لآخر، وفي الحالتين هم أسرى تلك المساحة المحدودة. يقودنا ذلك مجددًا لكون الحكاية صورة مصغرة لما هو أكبر، لمعنى أن تعيش في مكان وترتبط بقواعده الوراثية، فيصير مصيرك رهين نظرة الآخرين -المنقوصة غالبًا- لحياتك.
«المستعمرة» خطوة كبيرة للأمام يقطعها المخرج محمد رشاد، يواصل فيها التعمق فيما طرحه في فيلمه الوثائقي من أفكار، مع تطور واضح على مستوى السرد والصورة وتوجيه الممثلين، يجعل كونه أول فيلم عربي يتم اختياره لمسابقة مهرجان برلين الجديدة اختيارًا شديد المنطقية والعدالة.
اقرأ أيضا: برليناله 75: كل ما تريد معرفته عن أفلام المسابقة الرسمية