فاصلة

مراجعات

«المسار الأزرق»… تيريزا تريد الطيران

Reading Time: 4 minutes

تكمن روعة المهرجانات السينمائية الكبيرة في قدرتها على مفاجئتنا بأسماء لم نكن ننتظرها، تأتي إلى المهرجانات حاملة معها رؤى سينمائية طازجة وأسماء جديدة تقف جنبًا إلى جنب مع أسماء صناع سينما كبار، وتمنحنا فرصة مشاهدة تحفة سينمائية غير متوقعة يشبه اكتشافها العثور على قطعة ذهبية في صباح يوم مشمس على رمال البحر أو داخل كومة من الثلج في إحدى حدائق برلين. 

من بين تلك المفاجآت الطازجة التي أتت بها دورة مهرجان برلين هذا العام، فيلم «المسار الأزرق The blue trail» للمخرج البرازيلي جابرييل ماسكارو، المشارك في المسابقة الرسمية للدورة المقامة حالياص في العاصمة الألمانية.

ثيمة الفيلم الرئيسية هي الحق في الحرية وفي الحياة، نراها في حكاية تيريزا، السيدة السبعينية التي تفاجأ وغيرها من كبار السن بقرار من حكومتهم بعزلهم في مستعمرة بعيدة يقضون فيها أيامهم الأخيرة، عن غير رغبة منهم. حينما تقرأ هذه المقدمة القصيرة عن الفيلم، قد تحتار إن كان هذا القانون حقيقي أم متخيل وبهذه الحيرة بدأت مشاهدة الفيلم. 

المسار الأزرق
The Blue Trail (2025)

كوميديا التفاصيل البسيطة

يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه تيريزا بطلة الحكاية وهي ترقص على أنغام برازيلية هادئة داخل ما يبدو كمجزر، تتصاعد الأبخرة ونرها في بذلة واقية بيضاء وهي تتحرك وكأنما تتأمل، حينما تخرج «تيريزا» من المجزر وتصل لبيتها، نفاجأ بديكورات احتفالية تشرف عليها موظفة مسؤولة، تسألها تيريزا عن سبب إحاطة تلك الديكورات ببيتها، فتجيبها الموظفة بأن السبب هو أن الحكومة تعتبرها «إرث قومي» وهذا تكريم لها لأنها «عجوز» ثم تسلمها ميدالية لإثبات ذلك.

يترك المشهد ابتسامة لدى المشاهد، نضحك مع تيريزا على هذا العبث، ويصبح المشهد مدخلًا لهذا العالم الغرائبي، الذي يبدو على الرغم من ذلك واقعيًا تمامًا. 

تستمر الكوميديا من خلال تفاصيل صغيرة لكنها دالة، فالشرطة في هذا العالم تمر في عربات صغيرة تشبه التوكتوك، تفتش عن كبار السن وتجمعهم في صناديق صغيرة أعلى العربات، فيما يُقبل الفقراء والمعدمين في هذا العالم على شراء أناجيل إلكترونية مضمونة الخلود لا يمكن قطعها أو إتلافها. لا يمكن لهؤلاء الفقراء شراء الطعام لكنهم يحظون بكتاب مقدس في أكثر أشكاله التكنولوجية تطورا. 

نحن أمام ديستوبيا واضحة، لكنها ديستوبيا جميلة الأوان وذات مناظر طبيعية خلابة، والشر قاس لكنه طريف ومثير للضحك. وهكذا، حينما تحاول بطلة الفيلم أن تقاوم وترفض أن تنصاع لأوامر السلطة، تصبح رحلة الحرية على صعوبتها مليئة بالحيوية والضحك، هي أقرب لرحلة من أجل الاحتيال على شر يمكن وصفه بـالتفاهة. يذكرنا هذا بعجوز أخرى وهي الفيلسوفة والمؤرخة الألمانية «حنا آرنت» التي صكت مصطلح تفاهة الشر.  

المسار الأزرق
The Blue Trail (2025)

الطيران دون طائرات

حينما تُفاجأ تيريزا أن السلطة غيرت قانون عزل كبار السن في مستعمرة بعيدة، وأن سن العزل بات 77 عامًا لا ثمانين، تجد أنها باتت مهددة بالعزل في غضون أيام، وتتذكر أنها انشغلت لسنين طويلة في العمل في وظيفتين وتربية أبنائها، وأنها لم تفعل شيئًا أرادت أن تفعله لسنين طويلة، وهو الطيران، لم تركب تيريزا طائرة طوال حياتها، وهكذا تنطلق في رحلة البحث عن وسيلة للطيران. 

في هذا العالم الغرائبي يتحكم الأبناء في قرارات أهلهم من كبار السن، وحينما ترفض ابنة تيريزا منح أمها الموافقة على الطيران، يصبح حجز تذكرة طيران بالنسبة لتيريزا مستحيلًا، هكذا ينتقل الفيلم في الفصل الثاني لكي يصبح فيلم طريق، في رحلة تخوضها تيريزا من أجل الطيران، وتخرج منها في نهاية الفيلم وهي شخص جديد. 

المسار الأزرق
The Blue Trail (2025)

مزيج بصري

يعتمد جابرييل ماسكارو القادم من خلفية سينمائية وثائقية على تفاصيل واقعية لخلق عالمه الغرائبي، وبهذا نصبح مشدوهين بينما نتابع لقطات هذا العالم ويكتمل تأثير تلك اللقطات علينا من كونها واقعية للغاية، ويمكن لما نشاهده أن يكون عالمنا الذي نعيشه يوميًا. فالأسلوب البصري في الفصل الأول بسيط تمامًا وأقرب للوثائقي، قبل أن ينتقل المخرج في الفصل الثاني للمزج بصريًا بين كادرات واسعة مضيئة نستمتع من خلالها بشكل تأملي بغابات الأمازون الخضراء والأنهار التي تمر داخله، ثم كادرات مظلمة قريبة مضاءة بألوان زاهية. في الفصل الأخير نصل لكازينو من نوع خاص، حيث يراهن البشر على أسماك ملونة تتقاتل فيما بينها، ولكنه قتال أشبه بالرقص. 

يصبح الحلزون الأزرق هو الرابط بين تلك العوالم البصرية، الحيوان الذي تؤمن بعض شخصيات الفيلم بأن المسار الذي يتركه وراءه من إفرازات زرقاء، يمكنها أن تمنحهم القدرة على رؤية المستقبل.

هكذا يصحبنا هكذا الفيلم في عالم يختلط فيه الواقع بالسحر والهلاوس، لا يفقد الفيلم رغم ذلك خيوط اتصاله بالواقع، وأهم هذه الخيوط هو القدرة على الضحك من كل ما هو غرائبي. 

 The Blue Trail (2025)
The Blue Trail (2025)

نقد اجتماعي وسياسي

كلما ازدادت غرابة الإجراءات التي تفرضها السلطة داخل عالم الفيلم، كلما ظهرت السلطة أكثر تفاهة، هكذا نصاحب بطلة الفيلم في رحلة للاحتيال على كل هذه التفاهة. يصبح النقد الاجتماعي والسياسي هنا في صلب الكوميديا، ويصبح فعل الاحتيال فعل ثوري، يتجنب «ماسكارو» أي مواجهة مباشرة طوال الفيلم، رغم عدم رضا غالبية من نشاهدهم على إجبار السلطة لأهلهم من كبار السن على الرحيل، لا نرى أي مواجهة عنيفة أو حتى تظاهرة، فقط نشاهد في خلفية أحد المشاهد كتابات على الجدران «لا تأخذوا جدتي» أو «أعيدوا جدي».

نضحك كثيرًا أثناء مشاهدة «المسار الأزرق»، لكنه ضحك مع الشخصيات وليس منها. ينجح الفيلم في تكثيف مشاعر التوق للحرية، ذلك التوق الذي يمكن تفهمه أيا كان سنك أو جنسك أو عرقك أو لونك. يضع الفيلم بطلته، التي تقوم بدورها «دينيس واينبيرج» بتميز شديد، في رحلة لها هدف بسيط. هي بطلة غير اعتيادية على المستوى السينمائي، لكنها عادية تماما على مستوى الواقع، يمكنها أن تكون جدتك بكل بساطة، وهكذا يصبح الصراع متفهمًا تمامًا، وتجد نفسك تسأل: «لماذا تصبح الحياة بهذه الصعوبة؟».

اقرأ أيضا: «برج الجليد».. انعكاسات سينمائية في مرايا الأسطورة

شارك هذا المنشور

أضف تعليق