فاصلة

مراجعات

«المخدوعون»… تداخل مُركب بين النصين الروائي والسينمائي

Reading Time: 6 minutes

تفرض المقاربة بين النص السينمائي المقتبس، والعمل الروائي المقتبس عنه؛ العودة إليهما (الرواية والفيلم) لمعاينة خصوصية كل واحد منهما، ولملاحظة مقدار التغيُّر في المنجز البصري مقابل النص الأدبي، وكيف يُجسد صانعه (المخرج) رؤيته إليه، والتدقيق أيضًا بالمقدار الذي يضفيه عليه (السيناريو) ليجعل منه منجزًا بصريًا يستجيب لاشتراطات الصنعة السينمائية.

تطبيق ذلك التصور على فيلم “المخدوعون” (1972) للمصري توفيق صالح، المأخوذ عن رواية “رجال في الشمس” للأديب الفلسطيني غسان كنفاني (1963)، يظهر تداخلًا معقدًا ومركبًا بين النصين؛ السينمائي والروائي. وهو تداخل متأتٍ في الأساس من أسلوب كتابة الرواية، ومن قراءة توفيق لها وإعادة كتابتها سينمائيًا (السيناريو له أيضًا).

المخدوعون

 يكتب غسان روايته بأسلوب يقارب كتابة السيناريو السينمائي، متجاوزًا بذلك تقاليد السرد التقليدية، خاصة حين يتناول النص الروائي المقترح مرحلة تاريخية معينة. لا تسير أحداث “رجال في الشمس” (إنتاج المؤسسة العامة للسينما ـ سوريا) وفق مسار زمني تصاعدي تقليدي، بل يقدم كاتبها ويؤخر ترتيب أزمان حوادثها التي تقع بعد مرور عقد كامل على نكبة فلسطين، ويوسع مكان وقوعها بين أكثر من بلد (فلسطين، والعراق، والكويت، والأردن) وعلى مستوى البناء الروائي لشخصياته فإنه يُداخل بينها ويجمعها بمهارة في نقطة واحدة تتفرع منها حكاية كل واحد منهم، وتتشبع مضامينها بالحوارات والمونولوجات الداخلية التي تحركها بين ضفتي الماضي والحاضر (فلاش باك). 

المخدوعون

في الرواية يخصص كنفاني لكل بطل من أبطاله الثلاثة (أبو قيس وأسعد، ومروان) فصلًا كاملًا، فيما يُداخل توفيق صالح بينها. في الثلث الأول من فيلمه يبدو وكأنه يُخلص بالكامل لتتابع الروائي، لكنه وحين يشرع لإكمال الغور عميقًا في تجسيدها سينمائيًا، فإنه يختار لتوصيفها بعدًا مختلفًا عن الأصل يغطي بقية مساره. ينبع توصيفه السينمائي للشخصيات من فهمه الخاص للفكرة الجوهرية الكامنة في المنجز الروائي والتي يُعبِر عنها بدقة العنوان الذي يختاره لفيلمه: “المخدوعون”.

المخدوعون

 يرى توفيق صالح أن أبطال الرواية الثلاثة قد تعرضوا مثل بقية شعبهم الفلسطيني لخديعة أوصلتهم إلى الموت. بهذا يكمن التفرد السينمائي، في وضع المخرج ما يجده كامنًا في النص الروائي في مركز بحثه ثم يعيد الاشتغال عليه من دون أن يُضيّع روحه، أو ينحيه جانبًا كما في أفلام أخرى تأخذ فكرة النص الأدبي وتبني عليها عالمًا خياليًا، مختلفًا كليًا في تفاصيله ومفرداته عن الأصل. 

من شدة التداخل المعقد بين النصين؛ “المخدوعون” و”رجال في الشمس” تأتي جماليات اشتغال توفيق صالح، ومنها يتبيّن عمق قراءته لمنجز كنفاني، المتفرد بدوره في قراءته للواقع الفلسطيني، والمستند دومًا على رؤية تنطلق من الداخل، يولي لتفاصيلها اهتمامًا كبيرًا.

لا يُحيل كنفاني كل ما يحل بشعبه من نكبات إلى الخصوم، فثمة عوامل داخلية مؤثرة، تتداخل وتتفاعل مع الخارجية لتشكل في النهاية محصلة تتسبب في موت أبطاله اختناقًا داخل خزان شاحنة لنقل الماء بين العراق والكويت. 

شخصياته الرئيسة جاءت إلى الموت هربًا من واقع قاسٍ فرض عليهم. “أبو قيس” (الممثل محمد خير حلواني) هرب من فقره ومن ذل منظمات الإغاثة. يقبل فكرة الذهاب عن طريق التهريب إلى الكويت، ليجد فيها ما يعيل به عائلته. الخديعة تأتي إليه من طريق فلسطيني يعمل في الكويت جاء إلى قريته وبث فكرة الخلاص في رأسه. يصور له الحياة في الكويت جنة وخلاصًا نهائيًا لبؤسه. خوف الشاب “أسعد” (يلعب دوره بسام لطفي) من الاعتقال في الأردن بعد مشاركته في مظاهرات ضد حكومتها يدفعه للتفكير بالهروب إلى بلد آخر. لم يجد سوى القبول بالزواج من امرأة لا يحبها فرصة لتوفير مستلزمات سفره. سيشعر في رحلته إلى العراق ما تعنيه خديعة المُهرب الفلسطيني له، والذي يتركه دون رحمة وسط الصحراء وحيدًا، يكاد يموت فيها قبل موته في طريق صحراوي آخر، يجد نفسه مضطرًا للنزول عبره إلى بطن خزان حديدي ملتهب بفعل حرارة الشمس، ليواجه داخله مصيره المحتوم. الصبي “مروان” (صالح خلفي) يضطر إلى مخاطرة التسلل إلى الكويت مع سائق شاحنة الموت “أبو الخيزران” (أداء رائع لعبد الرحمن آل رشي).

كل هؤلاء يعيد توفيق تجسيدهم سينمائيًا ويطلب منهم أداء الأدوار التي تصورها لهم وفق قراءته لمنجز كنفاني الرائع. هذا أمر طبيعي يحدث في السينما حين تقوم بنقل نص أدبي إلى الشاشة، لكن درجة التقارب بين رسم الشخصيات المكتوبة روائيًا وبين المجسدة لها فيلميًا لافتة في شدة تقاربها – مع بعض الاستثناءات- المتمثلة في شخصية المهرب العراقي “السمين” الذي لم تسعفه لهجته السورية في التقرب من اللهجة العراقية، فظهر في مشاهد عدة مفتعلًا غير متلائم مع الشخصية العراقية التي يلعبها. 

منح الممثلين السوريين الأدوار الرئيسة لم يقلل من مصداقية معالجة توفيق صالح لنص روائي جُل أبطاله فلسطينيين، عاشوا الفترة التي أعقبت النكبة ولم يتخلصوا من آثارها. شخصيات مهزومة تسير إلى نهاياتها، لأن ثمة واقع أكبر منهم هو من يحدد مصائرهم والطريق الذي عليهم السير فيه. هم في النهاية محصلة خديعة وضعف داخلي يتجلى في مشاهد تقارب الواقع الفلسطيني بعد النكبة. فقر وقلة تعليم وضغط خارجي، يتكامل مع تخلف اجتماعي يتمثل في تحجيم دور المرأة. 

“الذكورية الناقصة” ربما بها يمكن التعبير عن حالة عامة سادت لحظتها، ويحاول غسان كنفاني وتوفيق صالح تجسيدها في شخصية المهرب “أبو الخيزران”؛ رجل فقد رجولته بعد تعرض جسده لتمزقات شديدة إثر سيره فوق لغم أرضي أثناء مشاركته في الكفاح المسلح وانضمامه إلى صفوف المجاهدين الفلسطينيين. لم يُفقده بتر عضوه الذكري المعطوب في عملية جراحية لرجولته فحسب، بل حولته إلى كائن عدائي يريد تعويض نقصه بالحصول على المال. خديعته للفلسطينيين الثلاثة الذين أخذهم معه في شاحنته مقابل المال، ويطلب منهم البقاء لبضع دقائق داخل الخزان الحديدي للشاحنة حال شروعه بإتمام معاملة العبور بين نقطتي صفوان والمطلاع الحدوديتين. كان يغيّر ويزيد الفترة التي عليهم البقاء فيها داخل الخزان الذي يصفه بنفسه بأنه “جهنم الحمرا”. سينمائيًا يتجسد ذلك بدقة تزيد من حالة التوتر والشد عند المتفرج، فكل دقيقة إضافية ترجح احتمالات موتهم أكثر، داخل خزان حديدي تسلط شمس الصحراء لهيبها الصيفي على جدرانه فتحيل جوفه إلى “فرن” يشوي الأجساد. 

فقدان الرجولة يقابله انكفاء لدور المرأة. هذا يأتي إلى النصين عبر تحجيم لدورها وانكفاء سلبي منها، يجعلها تبدو مرة كبضاعة، ومرات أخرى كشخصية مستسلمة لمصيرها. يضفي الاشتغال السينمائي على شخصيات الرواية بعدًا دراميًا مثيرًا، يزداد تأثيره والتفاعل معه بفعل قوة أداء الممثلين لها، إلى جانب انتقاء صانعه لفنيين يكملوا ببراعة تصوره للرواية عند تحويلها إلى شريط سينمائي.

تزيد موسيقى (صلحي الوادي) من قوة التعبير البصري عن دواخل الشخصيات وأزماتها، التوليف (صاحب حداد) يقارب باشتغاله الزمن الحقيقي للأحداث ولا يتردد بإدخال مؤثرات أخرى عليها، من بينها الصورة الفوتوغرافية التي تقارب واقعيًا زمن النكبة وما بعدها. تشكيل المشهد السينمائي يخضع عند توفيق لصرامة ملحوظة، لأنه يميل إلى مقاربته وثائقيًا، ربما الأسود والأبيض يعبران عن بعض ذلك الميل. لا يترك المصري صاحب “يوميات نائب في الأرياف” (1968) تفصيلًا صغيرًا دون الانتباه إليه، رغم شدة متغيرات المسار الدرامي لـ”المخدوعون” واختلاف تضاريسه الجغرافية. هذا لن يعفيه من إثقال مَشاهد عدة بمونولوجات داخلية طويلة ورتيبة، لا مبرر لها ما دام اشتغاله السينمائي يعتمد وبدرجة كبيرة في الأساس على إيفاء مفردات الصنعة الفيلمية لاشتراطاتها. هذا يظهر في براعة التصوير (بهجت حيدر) وبخاصة مشاهد عبور الشاحنة للصحراء الفاصلة بين الكويت والعراق. كل وقفة فيها تعبر بقوة عن انفعالات ومخاوف كائنات كل ما تريده هو التخلص من بؤسها، حتى لو بحلم وهمي يوصلها إلى هدفها. 

المخدوعون

لم تمضِ رحلتهم أو أحلامهم إلى نهايتها. تأخر السائق في إتمام معاملته بسبب سفاهة موظفي مراقبة الحدود الكويتية، والتي كانت وراء اختناقهم وحرق أجسادهم داخل الخزان الحديدي. في النص الأصلي يخفف كنفاني من شعور السائق بالذنب عبر جعله يخاطب ضحاياه بمونولوج داخلي على ما وقع “ـ لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا.. لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لا يمنح النص السينمائي ولا صانعه توفيق صالح مثل هذه الفرصة لـ “أبو الخيزران” ليخفف بها عن شدة شعوره بالذنب، إذ يترك للمُشاهد فرصة سماع أصوات طرق خفيف بالأيادي الواهنة على جدران الخزان، لم يسمعها المهرب لأنه كان منشغلًا وقتها مع موظفي الحدود. لم يكتف بهذا وكأنه يريد معاقبته على فعلته الشنعاء فيحذف العبارات التي ترد في الرواية ويعبر بها كنفاني عن تحفظات المهرب على ترك جثث الفلسطينيين عرضة للتفسخ داخل الخزان والتفكير بدفنها، لكنه يتراجع عن ذلك ويقرر رميها بين أكوام نفايات تجمعت على أطراف الصحراء. يجعله يمضي بشاحنته من المركز الحدودي نحو أكوام النفايات مباشرة. يزيد توفيق من قوة التعبير عن نذالات “أبو الخيزران” ونذالات العالم الذي ترك الفلسطيني يموت وتترك جثته مرمية وسط مزبلة تكومت نفاياتها على أطراف صحراء شاسعة، مقفرة تبدد أحلامه وأوهامه بخلاص مرتجى.

اقرأ أيضا: «جنة الشياطين»: بصقة مزدوجة على وجه الموت والحياة

شارك هذا المنشور

أضف تعليق