فاصلة

مراجعات

«القيامة» أو عندما تكون السينما جسدًا للأحلام

Reading Time: 3 minutes

منذ إطلالته الأولى عبر «كايلي بلوز» (2015)، ثم رحلته الليلية في «رحلة طويلة نحو الليل» (2018)، أثبت بي غان اسمه كواحد من أندر الأصوات السينمائية في آسيا، بل وفي العالم، الذين لا يكتفون بالسرد ولا بالشكل، بل يبدعون من الصورة نفسها كيانًا يتنفس خارج قواعد الزمن وخارج حدود المنطق. وفي فيلمه «القيامة»، عمله الثالث الذي عُرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان 2025، وفاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، فإن المخرج الصيني يخطو أبعد من أي وقت مضى.. نحو مجاز مرهف للسينما ذاتها، حلمًا بعد حلم، وعصرًا بعد عصر، وصورةً بعد صورة.

فيلم «القيامة» هو عمل يستحيل تأطيره في بنية سردية تقليدية، إذ لا يُروى بل يُعاش، ولا يُفهم بل يُستشعر. كما قال جان كوكتو ذات يوم: «السينما تُكتب بعيون من يحلمون»، وبي غان يجسّد هذا المعنى بشكل حرفي؛ لا من خلال بطلٍ يحلم فحسب، بل عبر سينما تحلم، وتتشبث بأمل النجاة من موتها الوشيك عبر الحلم ذاته.

«القيامة» أو عندما تكون السينما جسدًا للأحلام
Resurrection (2025)

حيث يستفتح الفيلم بمقدمةٍ صامتة، تنتمي شكلًا وروحًا إلى السينما التعبيرية الألمانية لعشرينات القرن الماضي. نلتقي فيها بـ«فانتازمر»، كائن يحلم رغم أن الحلم بات محظورًا، بل مميتًا في هذا العالم. ملامحه المستعارة من «نوسفيراتو» (1922) لفريدريك مورناو، والديكورات الظلية التي تستحضر «كابينة الدكتور كاليجاري» (1921)، والحركة المسرحية التي تذكرنا بسينما المخرج الفرنسي السحري جورج ميلييس، كلها إشارات إلى أن ما نحن مقبلون عليه ليس فيلمًا بقدر ما هو استحضار لذاكرة السينما نفسها، ولغتها الأولى، والذي يضعنا في الوقت ذاته أمام وعد مزدوج ومتضاد، لاستعادة سينما الزمن الماضي، وفي الوقت ذاته بناء تجربة لا تنتمي لأي زمن.

ثم يتشظى بعد ذلك الفيلم إلى أربعة فصول متعاقبة، كل منها يستعير أسلوبًا سينمائيًا مختلفًا، وزمنًا متحولًا، من أفلام النوار في الأربعينات، إلى عزلة الثلوج البوذية، إلى حيل المحتالين في الأزقة، وصولًا إلى قلب الفيلم النابض وتجلياته السينمائية القصوى، التي تتكثف في فصله الأخير.. لقطة واحدة طويلة تمتد لأكثر من أربعين دقيقة دون أي قطع، تسافر بالكاميرا من شارع مضاء بلون أحمر إلى ملهى ليلي، فمشهد كاريوكي دموي، إلى نهر يلمع بالضوء، ثم إلى باخرة تطفو على أعتاب فجر الألفية الجديدة.

«القيامة» أو عندما تكون السينما جسدًا للأحلام
Resurrection (2025)

في هذا المشهد بالذات، يقدم بي غان تأملًا حيًا في الزمن، وفي الحلم، وفي الصورة المتحركة نفسها، التي تتحول هنا إلى جسد يتنفس ويتوه ويذوب، ككيان روحي يسبح في بحر الذاكرة وينتقل من لحظة إلى أخرى دون منطق ظاهري، لكن بدقة باطنية مذهلة.

فالقيامة ليس استعراضًا تقنيًا فحسب، لأن في صميمه هو فيلم عن ما يعنيه أن تحلم في عالم توقف عن الحلم. فـ”الحالمون” في الفيلم هم قلة.. منبوذون ومهددون بالفناء لأنهم اختاروا الاحتفاظ بحريتهم الداخلية.. وكأن السينما نفسها هي هذا الحلم الأخير، الفن الوحيد القادر على خلق زمنٍ بديل وشكل جديد للوعي.

من خلال هذا التكوين، يقدم بي غان تأملًا متشظيًا في ماهية السينما، كفعل كوني وكطقس مضاد للموت. فحين يتم إدخال شريط 35 ملم داخل ظهر الحالم، كأنما يقول لنا إن السينما هي ما يجعل الإنسان كائنًا خالدًا في زمن فانٍ.

«القيامة» أو عندما تكون السينما جسدًا للأحلام
Resurrection (2025)

ولعل أعظم ما في القيامة أنه لا يطلب من المتفرج أن يفهم، بل أن يشعر، وأن يتخلى عن أدوات التأويل التقليدية ويستسلم للتجربة؛ حيث الضوء، واللون، والإيقاع، والفراغ، والانعكاسات، وكل ما يجعل من السينما طقسًا حسيًا قبل أن تكون لغة أو تقنية. وهكذا يذكرنا بي غان بأن السينما مثل الحلم.. تُعاش ولا تُفسر.

ورغم أن بعض الفصول قد تتفاوت في تأثيرها أو تتعثر في بلاغتها، إلا أن ترابطها يكمن في الشعور لا في الحدث، في البناء العاطفي لا المنطقي. هي أحلام، وكل حلم يحتفظ بمنطقه الخاص، بتقلبه ونزقه، وبثقل رمزيته أحيانًا.

اقرأ أيضا: «امرأةٌ وطفل»… دراما روستايي في المساحات الرمادية

شارك هذا المنشور

أضف تعليق