فاصلة

مراجعات

«القمر الأزرق».. لينكليتر يعزف على الزمن

Reading Time: 4 minutes

مرة أخرى، يعود ريتشارد لينكليتر إلى لعبته السينمائية الأثيرة: الزمن. في ثلاثية «Before»، يبسطه على مدى 27 عامًا ليرصد تقلبات الحب، وفي «Boyhood»، يتركه يتدفق ببطء ليلتقط ملامح النضج وهي تتشكل عبر السنين. والآن، يختصره في ليلة واحدة، يحوّلها إلى نافذة يطل منها على حياة الشاعر الغنائي لورينز هارت، بكل ما فيها من حب ومجد وانكسار، في أحدث أفلامه «Blue Moon»، الذي نافس على الدب الذهبي في الدورة الخامسة والسبعين من مهرجان برلين السينمائي.

كانت حياة هارت مسرحًا للبريق والانكسار، وانتهت كما عاشها—ليلة باردة من نوفمبر 1943، مترنحًا في شوارع مانهاتن التي لطالما سحرته، يرتجف تحت وطأة السكر والبرد، وحيدًا رغم كل الأضواء. يختار لينكليتر تلك اللحظة الدرامية ليبدأ منها الفيلم، فنعرف منذ البداية أننا على وشك مشاهدة بعض من آخر أيام رجل يحتضر. 

Blue Moon
Blue Moon (2025)

ومن خيط النهاية هذا، يعود لينكليتر سبعة أشهر للوراء، تحديدًا ليلة 31 من مارس 1934، لينسج لنا صورة عن حياة روجرز قبيل وفاته. 

لن نبالغ لو وصفنا فيلم «Blue Moon» بكونه فيلم عن الصداقة. فقد كانت حياة هارت العاطفية أشبه بحانة يمر فيها الكثيرون دون أن يمكث أحد، ووسط هذا الزخم من العلاقات، ظلت الصداقة التي جمعته بالملحن ريتشارد رودجرز هي العلاقة الأكثر ديمومة والأكبر أثرًا في حياته.  فلم يُعرَف اسم هارت إلا وهو معطوفًا على رودجرز، ولم تطل كلمات هارت عنان الشهرة إلا وهي مصحوبة بألحان صديقه المبدع. على مدار ٢٥ عامًا نسجا معًا بعض من أهم كلاسيكيات الأغنية الأمريكية – من My Funny Valentine إلى The Lady is a Tramp و Bewitched, Bothered, and Bewildered،  ومن هنا، فليست مصادفة أن تأتي نهاية هارت بُعيد شهور من هجر رودجرز الفني له. 

اختار لينكليتر أن يبدأ فيلمه من الليلة التي بلوّرت هذا الهجر: الليلة الافتتاحية لمسرحية «أوكلاهما!» الغنائية، أول تعاون بين روجرز والشاعر الغنائي أوسكار هامسرتين، والتي وضعت نقطة النهاية للثنائي «روجرز وهارت» وأعلنت عن «روجرز وهامرستين» كثنائي بديل سيعيد تشكيل المسرح الغنائي الأمريكي لعقود قادمة. 

في تلك الليلة تدور أحداث الفيلم، وتقع من البداية إلى النهاية في حانة ساردي بمانهاتن، حيث سيقام حفلًا كبيرًا احتفالًا بافتتاح «أوكلاهما!». يعطف هارت على الحانة قبيل الافتتاح، ويبدأ في الثرثرة مع الساقي، ثم مع عازف البيانو في الحانة، ثم مع مع أي شخص يكترث له بما فيه الكفاية ليستمع إلى أحاديثه التي لا تنتهي. يضفي استخدام الموقع الواحد جوًا مسرحيًا على الفيلم، وبعد الانغماس قليلًا في الأحداث، يبدأ المرء في التساؤل إذا كان ما أمامه هو مسرحية رجل واحد (Monodrama). 

Blue Moon (2025)
Blue Moon (2025)

تختلف المونودراما عن غيرها من أنواع المسرح، في كونها تتكون من شخصية واحدة فقط، تقف أمام الجمهور، وتفضي ما في جعبتها. يوجد في فيلم «Blue Moon» العديد من الشخصيات بجانب هارت، لكن معظمها لا يمثل له سوى جمهور يصب على أسماعه كل ما يدور في ذهنه من أفكار وقصص وذكريات.

لا يتوقف هارت – الذي يلعب دوره إيثان هوك في أداء بارع – للحظة عن الثرثرة كما لو أنه مدفوع بحالة من الهوس القهري، يشعر معها أن توقفه عن الكلام قد يجرده من وجوده ذاته،  أن الصمت يعني الاختفاء، والتحدث هو الحبل الوحيد الذي يربطه بالعالم من حوله

ربما لو كان الدور في يد ممثل أقل موهبة، لكانت ثرثرة هارت التي أرهقت من حوله من شخصيات لتنهكنا نحن أيضًا كمشاهدين، لكن هوك يصوّر يجسد هارت بخفة لا تفتقر إلى العمق، محولًا كلماته التي لا تنتهي إلى مرآة تعكس هشاشته بقدر ما تكشف عن ذكائه، وتفضح أوهامه بقدر ما تبرز حسّه الساخر. شخصية تظل آسرة مهما استرسلت، ولا تفقد تعاطفنا مهما ضلت طريقها.

في النصف الثاني من الفيلم، يظهر روجرز – الذي يجسده أندرو سكوت – أخيرًا في المشهد. التباين بين الرجلين صارخ، هارت بظهره المحني ورأسه التي بدأ الشعر ينحسر عنها، يحمل ملامح رجل أنهكته السنوات، بينما يبدو روجرز بكامل وقاره، أنيقًا، متزنًا، كأن الزمن لم يترك عليه أثرًا يذكر. 

المقارنة بينهما لا تعكس مجرد اختلاف في المظهر، بل تضع أمامنا رجلين يسيران في اتجاهين متعاكسين؛ أحدهما يتلاشى بصخب، والآخر يرسّخ حضوره بهدوء. وهو بالضبط ما حدث: فبعيد تلك الليلة بفترة قصيرة، رحل هارت عن العالم في سن الـ48 بينما عاش روجرز حياة طويلة حافلة بالإبداع، أتمها 77 عامًا قبل أن يموت عام 1979. 

Blue Moon (2025)
Blue Moon (2025)

تتصدر علاقة أخرى الفيلم، علاقة هارت باليزابيث ذات العشرين عام. فمنذ الدقائق الأولى، لا يكفّ عن الحديث عنها، مأسورًا بها حدّ الافتتان. تمثل إليزابيث آخر إلهام في حياته، هي الوحيدة في الفيلم التي يصغي إليها دون أن يشعر بالحاجة لتحويل دفة الحديث إليه. نسمعها تروي لهارت حكايتها عن حب لم يُكتب له التحقق، حكاية تعكس قصص حب هارت الحزينة، وآخرها، حبه لها الذي لم تبادله إياه. 

وكما بدأت، تنتهي الليلة. بلا وداع درامي أو لحظة إدراك كبرى، فقط هارت يثرثر في حانة شبه خاوية، لم يبقَ فيها سوى الساقي وعازف البيانو، يصغيان إليه بصمت متعب.  لا يحاول «Blue Moon» تمجيد هارت ولا رثاءه، بل يصوره كما كان: حادّ الذكاء، مفرط الحساسية، خفيف الظل حتى في أكثر لحظاته سوداوية. وبينما تتلاشى موسيقاه في الخلفية، يدرك المشاهد أن القصة ليست عن سقوط رجل بقدر ما هي عن ليلة أخرى في مدينة تمضي بلا التفات، وعن عبقري ظل يتحدث حتى خفت صوته تمامًا.

اقرأ أيضا: الفائزون بجوائز مهرجان برلين السينمائي 2025

شارك هذا المنشور

أضف تعليق