في عام 1866، كتب الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي أولى رواياته الكبرى، والتي تدور حول شاب فقير يخطط لقتل امرأة عجوز ثرية، تحتفظ بثروة من المال والمجوهرات في شقتها. في نظره، الجريمة مبررة: فهو يضحي بحياة عجوز أنهت رحلتها في الحياة، من أجل مستقبل شاب يمتلك إمكانيات عظيمة قد تغيّر العالم للأفضل. لكن بعد تنفيذ الجريمة، يتحول الصراع إلى عذاب أخلاقي داخلي، إذ يكتشف الشاب أن الغاية لا تبرر الوسيلة، وأن ما فعله يبقى جريمة مهما كانت مبرراته. تحوّلت الرواية إلى واحدة من أعظم الأعمال الأدبية في التاريخ، وأبرز ما كتبه دوستويفسكي «الجريمة والعقاب».
اليوم، مع مشاهدة «القضية Dossier 137» للمخرج الفرنسي الألماني «دومينيك مول» تتحول ثنائية الجريمة والعقاب أو «عدم العقاب» إلى هاجس جديد، ليس لمجرد فرد –شاب روسي فقير– كما في رواية «دوستويفسكي» لكن لمؤسسة كاملة بحجم الشرطة.
كيف يمكن أن تصبح الجريمة غير معاقب عليها قانونًا؟، وكيف يتحول السرد السينمائي إلى بركان يوشك على الانفجار؟

شرطة الشرطة
خلال أحداث «القضية Dossier 137» نتابع رحلة تحقيق داخل جهاز الشرطة للكشف عن تفاصيل تعرض شاب فرنسي لإصابة بالغة في الرأس أثناء مشاركته في تظاهرات «السترات الصفراء» التي اشتعلت في فرنسا خلال عام 2018، والتي تم وصفها وقتئذ بـ«الشعبوية»، واجتذبت عشرات الآلاف من الأسر الفرنسية التي تعيش في قرى ومدن صغيرة وتمتلئ بشعور عدم الرضا من الحكومة بالمشاركة فيها.
في أحد مشاهد الفيلم، تؤكد والدة الشاب المصاب أن لا أحد سيكترث لما يحدث لأهل بلدتها الصغيرة. لكن ما لا تدركه الأم في تلك اللحظة أن الشرطية التي تحقق في الواقعة تنتمي إلى نفس البلدة أيضًا، وليس هذا هو وجه التشابه الوحيد بينها وبين الضحية وعائلته. فبينما تواصل التحقيق في احتمال تورط رجال الشرطة، زملائها في المهنة، يتحول هذا القرب العاطفي والمهني من كلا الطرفين إلى عبء ثقيل، وضغط نفسي متصاعد يهدد بسحقها تحت وطأة الحقيقة.
ما لا يقال
يتطور السرد بأدوات متعددة خلال فصول الفيلم الثلاثة، ينتقل دومينيك مول بين أسلوب مقابلات شبه وثائقي مع أهل الضحية، ثم رجال الشرطة، وبينهم مقابلة كلاسيكية بأسلوب الشرطي الجيد والشرطي السئ مع أحد الشهود، وصولًا إلى أسلوب سرد بصري ينتمى لعالم أفلام المحققين من خلال تتبع أحد الشهود سرًا، إضاعتها وسط الزحام ثم ايجادها، تهديدها ثم محاولة كسب تعاطفها، وأخيرًا محاولة الضغط عليها حتى تفلت منها معلومة تغير مجرى الأحداث.
كل هذه الأدوات تعمل كإطار جيد لدفع السرد السينمائي للأمام، خطوة بخطوة نحو الانفجار، لكن الأداة الأهم في هذا الفيلم هو الحوار المكتوب وغير المكتوب، فحينما يتحدث رجل شرطة عن أنه «يحمى الجمهورية ويدافع عنها في حرب»، ذكر كلمات كهذه وسط تظاهرات من مدنيين، يصبح له معنى أكثر بكثير من المنطوق، بالمثل حينما تنفجر أحد الشهود بأن «العرب والأفارقة يتم ضربهم في الشوارع طوال اليوم وكل يوم، فلماذا تنقلب الدنيا الآن لأن شاب أبيض قد أصيب؟»، يصبح المقصد أبعد بكثير من غضب شخصي.

ما هي الجريمة؟
تصبح مفاجأة الفيلم الأكبر في سؤال أخلاقي عن معنى الجريمة، هل هو كل فعل يعاقب عليه القانون؟، هل معنى انتفاء العقاب بالضرورة عدم وجود جريمة. ماذا لو حضر الفعل الإجرامي وغاب العقاب القانوني؟، ماذا لو كان الجاني هو المسئول عن تطبيق القانون؟
أسئلة عديدة يتركك معها فيلم «القضية ١٣٧»، تظل ربما تفكر فيها لسنوات بعد مشاهدة الفيلم، هكذا يصنع دومينيك مول فيلم يمزج بين سينما أفلام المحققين والدراما الأسرية، يصبح الفيلم هكذا وسيلة للتساؤل عن العدالة بمفهومها الواسع، العدالة داخل الأسرة، العدالة بالنسبة للأقليات، والعدالة داخل مؤسسات السلطة.
حينما تصبح الجريمة بلا عقاب قانوني، يصبح تطبيق العدالة أمر شخصي، قرار فردي، أو ربما يجب على المواطنين في تلك اللحظة تطبيق العدالة بأيديهم، هل يحذر دومينيك مول من هذا أو يدفع مشاهده دفعًا له؟
فيلم «Dossier 137» قد يخطف أحد جوائز المهرجان هذا العام، كما تنافس بطلة الفيلم «ليا دروكر» بقوة على جائزة التمثيل، يعمل الفيلم كبورترية لشخصيتها تكتمل رتوشه مع تطور الأحداث، ويصبح الفيلم عن كيف تتغير شخصيتها، الشرطية التي تكتشف في النهاية ما هي الحقيقة، التي ربما يعرفها الآخرون منذ البداية.
اقرأ أيضا: «قضية 137»… سينما تحاسب ولا تشيطن!