كثيرًا ما يُشار إلى «الفهد» للوكينو فيسكونتي، المرتكز على رواية جوزيبي دي لامبيدوسا التي تحمل العنوان نفسه، على أنه من الحالات النّادرة التي أسفر فيها اقتباس تحفة أدبية إلى السينما عن تحفة فيلمية مطلقة تُوّجت بالسعفة الذهبية لمهرجان كان في 1963. فمن المعلوم أنّ نقل معالم الأدب الروائي إلى السينما غالبًا ما ينتج أعمالًا متوسطة أو مخيّبة، وفي أحسن الأحوال جيدة. وأنّ أكثر الأعمال السينمائية المقتبسة رسوخًا في الأذهان استُوحت من قصص قصيرة، على غرار«ٌ أنسجة الشيطان» للأرجنتيني خوليو كورتاثار التي أوعزت لأنطونيوني بـ«انفجار Blow-Up»، إذ يفسح أدب القصة القصيرة المجال للمخرج لبسط رؤيته وبث مقاربته الجمالية لأجواء القصة، أو من نصوص أدبية تنتمي لأجناس وُسمت – خطًأ؟- بأنها أقلّ شأنًا، مثل الرواية البوليسية أو الخيال العلمي، أو حتى تلك التي وُصفت قدحًا بـ«أدب القطار» أو «روايات المطار» ُلكن ذلك لم يمنعها من تخرج لنا أفلامًا عظيمة على الشاشة، نذكر منها على سبيل المثال «سايكو» Psycho لألفريد هيتشكوك المقتبس عن رواية لروبرت بلوخ بذات العنوان.
ما قد يفسّر الملمح أعلاه، هو بالدرجة الأولى «الانتظارات» التي ترفع سقف قراء الروايات المنتظرين لخلقها سينمائيًا، عاليًا، وتجنح إلى المقارنة بين الأصل الأدبي والاقتباس السينمائي بحثًا عن الوقع ذاته الذي تركته قراءة العمل في النّفوس، وتصور مثالي وحميمي ينطبع عنها في الوجدان، كون الأدب المكتوب يترك مساحة أكبر لخيال القارئ، الذي كثيرًا ما يصطدم بخيبة أمل عندما يُواجه بصور محدّدة ومطبوعة على الشاشة، تحدها خصوصية السينما وعلاقتها الأنطولوجية بالواقع.
من العوامل المؤثرة كذلك في مدى نجاح نقل الأعمال الأدبية الكبرى للسينما، كون الأعمال الأدبية الخالدة غالبًا ما تنطوي على بنية سردية معقّدة، ومقاربة فضائية متعدّدة، وامتداد في الزّمن، لا تُتاح مساحة كافية لبسطها في الزمن السينمائي المحدود، أي بين ساعتين و3 ساعات في أفضل الأحوال ما عدا حالات استثنائية، مثل «تانغو الشيطان» Sátántangó لبيلا تار المقتبس عن رواية بنفس العنوان لـ لازلو كرازنا-هوركاي الذي تبلغ مدته 7 ساعات ونصف.
لذا؛ يقع المخرجون الساعون لنقل الأعمال الأدبية إلى الشاشة مع الإفراط في الوفاء للأصل الأدبي، في فخاخ التوضيحية، وتشتّت الرؤية، وبَهت وجهة النظر الموضوعية والجمالية. لذا فإن قدرة السينما على التكثيف والتركيز على حيز سردي بعينه تعدّ من أبرز الاستراتيجيات المتاحة أمام المخرجين لمقاربة النصوص الأدبية الضخمة، على غرار ما فعله راؤول رويز حين نجح في اقتباس القسم الأخير من رائعة مارسيل بروست «البحث عن الزّمن المفقود» الموسومة بـ«الزّمن المستعاد» Time regained في فيلم بنفس العنوان.
لكل هذا، يُعدّ «الفهد» The Leopard 1963، حالة اقتباس خاصة وجديرة بالتأمّل، تستحقّ الوقوف عندها لاستخلاص دروس وفوائد، لا سيما بالنظر للوشائج الثقافية الوثيقة التي تربط العالم العربي بصقلية حيث تجري الأحداث أولًا، وانعكاسها في تقاطعات تيمية ملفتة مثل الجمود ونبذ التّغيير ورابط خاص مع فكرة الموت ثانيًا. إضافة إلى أن الرواية تنطوي على سمات سردية وجمالية جديرة بالاهتمام في السياق العربي، لعل أبرزها الغوص في ذاتية بطلها الأمير دون فابريتسيو دي سالينا، الذي يغري بالنقاش في ضوء أن الطابع الذهني لبعض الروايات العربية كثيرًا ما يُساق كإكراه يحول دون الإقدام على اقتباسها إلى السينما.
رهانات ضخمة
خرجت رواية «الفهد» إلى النور في نوفمبر 1958، بعد حوالي عام عن وفاة كاتبها الذي لاقى الرفض من دارين للنشر، قبل أن تُقدِم دار «فِلترينيلّي» الفتيّة (بعد عام على نشرها »الدكتور جيفاغو» لبوريس باسترناك) على طرحها، لتلقى نجاحًا فوريًا وكبيرًا، لم يُكتب لـصاحبها أن يعيشه في حياته، ويشهد كيف عانق آلاف القراء أفكاره وتصوّراته التي نقلها على لسان وخواطر أمير سالينا، الذي استوحاه الكاتب من جده.
تقذف بنا الرواية في منتصف القرن التاسع عشر، وسط عائلة أرستقراطية صقلية بدأ الفقر يتآكلها وهي تبدو محنّطة في أسلوب عيش وطقوس متوارثة، في الوقت نفسه الذي يرسو فيه غاريبالدي وجنوده ذوي «القمصان الحمراء» على سواحل الجزيرة ليخوضوا «حملة الألف»، ويرسموا إحدى أهم لوحات توحيد إيطاليا الموسوم ب Il Risorgimento «ريزورجيمنتو».
الفيلم أكثر من مجرد لوحة تاريخية فخمة، إذ يسلط «الفهد» الضوء على وجهة نظر فيسكونتي الذي نذر 15 شهرًا من الاشتغال المضني لإخراج الفيلم ـ في فترة حساسة من تاريخ إيطاليا، وهو ما فسره فيسكونتي بقوله: «ما يهمّني، أكثر من الخلفية التاريخية هو الحقيقة الاجتماعية للرواية، أو مخاض عالم في طور التّغيير. أن أحكي مسار تحول عالم الأرستقراطيين الصقليين إلى فترة الحكم الإيطالي. الرواية تهمل قليلا ما يحيط بظاهرة التغيير وكل ما يتعلق بكنه الشعب الصقلي وأرض صقلية».
لا يقاسم المخرج الأمير دون فابريتسيو دي سالينا (بيرت لانكستر) كلّ مواقفه الإيديولوجية، وبالأخص وقوفه على قارعة الأحداث، وسلبيته الكئيبة التي لا تخلو من جاذبية، عبّر عنها دي لامبيدوسا بجملة «كان يقف متأمّلًا خراب سلالته وتراثه من دون أن تصدر عنه أي ردّة فعل». ومن ثم فإن المخرج الإيطالي منح وزنًا كبيرًا لأطروحته، التي يكشف بموجبها الجدلية الماركسية التي أدت بالبورجوازية للاستيلاء على ثورة غاريبالدي المجهضة، موضحًا كيف أن الأرستقراطيين – في مواجهة التهديد الجمهوري آثروا بذكاء الانحياز إلى جانب التغيير كاستراتيجية مؤقتة وانتهازية، فوضعوا ملكًا مكان آخر، لتتغير واجهة النظام (الملكية الدستورية محل الملكية المطلقة) بصعود البرجوازية، من دون أن يتبدّل كنهه.
هكذا، ظل الشعب والفلاحون، الممثلون في الفيلم بشخصية تشيشيو توميو (سيرج ريغياني)، محرومين من ملكية الأرض، وأصواتهم عرضة للتزوير، كما حدث في أول استفتاء حول «ريزورجيمنتو». في الوقت ذاته، يتمكن كالوجيرو سيدارا (ممثل البورجوازية الصاعدة) من اقتناء مزيد من الأراضي مسنودًا من الكنيسة التي فرطت شيئًا فشيئًا في ممتلكاتها، مجسَّدة في الفيلم في القسّ دون بيرون ذي الشخصية الطفيلية والمنافقة.
حين يحل الشاب تانكريدي (آلان دولون) بمنزل خاله الأمير فابريتسيو ليخبره أنه سينضم إلى قوات غاريبالدي. يبرّر قراره بأن «الأمر لا يتعلق بتعزيز صفوف الجمهورية، بل بعرض خدماته على الملك فيكتور إمانويل، ملك بيمونتي وإيطاليا المستقبلية، لأنه أشدّ عزمًا وقوّة من فرنسيس الثاني الذي أضحى دميةً في يد مملكة الصقليين الآيلة إلى الزوال». أمام حيرة الأمير، يُخرج تانكريدي حجته الدامغة «إذا لم نكن نحن [الأرستقراطيون] هناك أيضًا، فإنهم [الغاريبالديون] سيرتّبون لنا جمهورية. إذا أردنا أن يبقى كل شيء على ما هو عليه، يجب أن يتغير كل شيء». جملةٌ أضحت أشهر من نار على علم، ردّدها على مرّ العقود وفي كلّ السياقات، كثيرون لم تسبق لهم قراءة/مشاهدة «الفهد»، وحتى من لم يسمعوا به يومًا، تركت أثرًا كبيرًا في نفس أمير سالينا إلى درجة أنه كرّرها مرّتين فيما تلى من أحداث الفيلم.
من ناحية أخرى، يرمز اقتران تانكريدي الانتهازي بأنجيليكا (كلوديا كاردينالي)، كريمة سيدارا ذات الجمال الفائق والطّباع غير المهذّبة، إلى الانتقال إلى عصر جديد، يؤمّن مصلحة الأرستقراطية لجيلين أو ثلاثة على أقصى تقدير، قبل أن تلتهمها البورجوازية إلى الأبد، ويذكّر بطفولة فيسكونتي المنحدر من والد ينتمي لنبلاء ميلانو وأمٍّ سليلة عائلة صناعية من الطبقة المتوسطة العليا.
فوارق بين الرواية والفيلم
أول ما يثير الاهتمام في التغييرات التي أدخلها فيسكونتي على الرواية، مع رفيقته في الكتابة سوزو تشيكّي داميكو، هو تفضيل المشاهد الأكثر إثارة واستعراضية. حيث أوردا في البداية تسلسلات طويلة، لا وجود لها في النص الأصلي، تعيد تشكيل المعارك الدائرة بباليرمو بين الغاليبارديين وجيش البوربون، صورها فيسكونتي في ديكورات حقيقية، تمّ تجهيز كل تفاصيلها لتتّسق مع القرن التاسع عشر. وهو تدبير مهم يهدف لوضع المشاهد منذ البداية في أجواء تاريخية مطبوعة باضطرابات سياسية وأمنية، عبر مشاهد معارك استعراضية تتسامى بها السينما، خصوصا أن تقنية «تكنيراما» التي طورتها شركة «تكنيكولور» واستُخدمت في تصوير الفيلم، تبرز الحركة الأفقية بدلًا من الرأسية، مما ينتج صورة فائقة الوضوح وغنية بالتفاصيل، ترافق تحرّك الحشود، لتبرز بلغة الألوان واشتباكاتها، جدلية المواجهة بين القوى المتصارعة والمخاض الصعب الذي تشهده الساحة الصقلية.
الاستعراضية والتميز عن الرواية المكتوبة تظهر بشكل مختلف في تسلسل الباليه الراقص الذي يختتم الفيلم وتبلغ مدته حوالي 45 دقيقة، بينما لا يتجاوز الحيّز الممنوح له في الرواية 10 صفحات. يمثل الاحتفال باقتران تانكريدي بأنجيليكا، ويجري في نوفمبر 1862، الفصل ما قبل الأخير من الرواية الممتدة بأحداثها إلى غاية 1910، لكن فيسكونتي وشريكته في كتابة السيناريو فضّلا أن يتوقّفا عنده، ليس فقط لأنهما شعرا أن بقية المؤلّف غير مجدية لطرحهما وللبنية السردية التي ارتضياها (لا يرد في الفيلم على الإطلاق الفصل المخصص للقسّ بيرون والنهاية المتعلقة بالخيانات المتبادلة بين تانكريدي وأنجيليكا، وشيخوخة كونشيتا نجلة الأمير سالينا)، ولكن أيضًا لأن مشهد الحفل يحمل كل مقومات الخاتمة الممتازة.
تدور أحداث الحفل على خلفية تكبد غاريبالدي هزيمته الأولى، في أسبرومونتي، وإصابته بجراح توحي ببداية نهاية مساره، ولكن أيضًا في خضمّ انتصار البرجوازية على النبلاء، الذي ينعكس بشكل رمزي في مجريات الباليه الراقص الدائر في قصر بونتيليوني. مشهدٌ ذو أهمية قصوى إذن، لم يُهمل أي تفصيل ولم يُدّخر في الإنفاق عليه والإعداد له وتصويره الذي دام ثمان ليالٍ كاملة، مستلزمًا 300 كومبارس و393 زيًّا، وآلاف الشموع المعدّة خصيصًا لتحمل درجة الحرارة المرتفعة في بلاتوه التصوير، مع التقليل قدر الإمكان من استعمال المصابيح الكهربائية.
رغم كل ذلك، لم يسلم طول المشهد من الانتقادات، إلا أن السياسي الشيوعي والسينيفيلي بالميرو توغلياتي كان بين من شجعوا فيسكونتي على عدم قطع أي شيء منه، مبرّرًا موقفه بأن طوله حباه بـ «ذلك الطابع الاستحواذي الذي هو السمة المميزة للإبداعات الفنية العظيمة»، بحسب كاترين داميكو دي كارفايو، مؤلفة بيوغرافيا بعنوان «ألبوم فيسكونتي».
انطوت عملية الاقتباس إذن على قرار حاسم بحذف عدة فصول من الرواية (5 و7 و8)، فلم يظهر الفصل المخصّص لموت الأمير بالنظر لطابعه الذهني المستعصي على السينما، لكن تم دمج مقاطع من القصة بشكل إيحائي في تسلسل الباليه الراقص، سعيًا لتكثيف الإحساس بنهاية حقبة واستفحال المرض الذي سيودي بحياة دون فابريتسيو. هكذا، فضل كاتبا السيناريو الإيحاءات الشاعرية الرائعة الواردة في الحفل، وجولة الأمير الليلية التي تتخلله، حين يشعر بأنه غير معني بالفجر الذي يوشك على البزوغ.
أسهمت عمليات حذف فصول بعينها، وتمديد أخرى، في تشكيل عالم متخيل يمنح مكانة بارزة للصورة ودورها في إحياء ذكرى عالم في طور الاختفاء، ولكن أيضًا كتركيبة لانطباعات المؤلف الشخصية وتصوّره حول حقبة زمنية تغيب، تلقي أضواءً مهمّة على حاضر إيطاليا ومستقبلها. ولعل حرص فيسكونتي على استثمار فضاءات حقيقية في اختيار الديكورات حين أصر على استكشافها واختيارها بمختلف أرجاء صقلية رفقة حفيد دي لامبيدوسا، أسعفه ليقبض على عظمة وانحطاط الطبقة الأرستقراطية، بفضل أزياء وأثاث، ولوحات تشكيلية، وإضاءة، بالإضافة لموسيقى من تأليف نينو روتا أسهمت في توطيد شعور مختلط بين الروعة والتفسّخ.
ومن نافلة القول أن أداء بيرت لانكستر العبقري لشخصية الأمير كانً حاسمًا، بقامته الفارعة، مشيته المستقيمة، وقدرته على إظهار غضب «أولمبي»، لا يمنع نظرة حانية وهو يخاطب النجوم، أو عيونه المثقلة بالدمع حين يتأمل لوحة جان بابتيست غروز «موت العادل» التي تستشرف حتفه القريب. ثنائية «بيرت لانكستر/ الأمير فابريتسيو دي سالينا» هي، بلا شكّ، أحد أعظم اللقاءات بين شخصية وممثّل في تاريخ السينما.
كُتبت رواية دي لامبيدوسا بضمير الغائب وباعتماد على خطاب مباشر حرّ يقتفي في أغلب الأحيان أفكار أمير سالينا، ما يعني ضمنيًا تماهيًا أيديولوجيًا محتملًا للقارئ مع الكاتب وبطل الرواية في آن. أما وجهة نظر الفيلم، فتلتصق بشكل واضح برؤية الأمير، رغم أن بعض الأحداث تُروى من زاوية ساردٍ عليم، بينما ينحو إخراج فيسكونتي إلى المزج بينهما. لكن ضربة المعلّم تتمثّل في الطريقة التي يتملّك بها المخرج الخواطر الحرّة غير المباشرة لدون فابريتسيو التي تزخر بها الرواية، ويحوّلها إلى نسيج حواري، غير تقريري ولا منفصل عن سياق المشاهد، يساهم في تعزيز الحمولة الدرامية للحكي. هكذا تستحيل ذاتية القصة الأصلية مادّةً حوارية خصبةً على لسان الأمير.
ولعلّ حوار المشهد الذي يجمع دون فابريتسيو بسيناتور شوفاليه الذي يحاول، من دون جدوى، إقناعه بدخول مجلس الشيوخ، مثالٌ يعبّر على روعة الجمل الحوارية في الفيلم وطابعها المتراوح بين سيل الأفكار والحوار بمعناه الكلاسيكي: «أنتمي إلى جيل تعيس، يتراوح بين عالمين قديم وجديد، وغير مرتاح في كليهما. الأدهى من ذلك أني مجرّد كليًّا من الأوهام، فما عسى يصنع بي مجلس الشيوخ؟ الكَرَى، يا عزيزي شوفاليه، الكَرَى، هو كل ما يريده الصقليون، وسيكرهون كل من يأتي ليوقظهم، حتى ولو جاء يحمل إليهم أروع الهدايا. وأشك كثيرًا في أن المملكة الجديدة تحمل لنا في أمتعتها الكثير من الهدايا. التظاهرات الصقلية كلها تظاهرات أحلام، حتى ما كان منها بالغ العنف، حساسيتنا هي شهوة نسيان، وشهوانيتنا رغبة في الفناء. طلقات بنادقنا وطعنات خناجرنا هي نداء موت. ومن هنا جاء تأخرّنا الشهير مدى قرن كامل في مظاهر الفنّ والفكر في صقلية. إن الأشياء الجديدة إنما تجتذبنا فقط حين تموت وتصبح غير قادرة على إفساح المجال لجريان حيوات جديدة. الموت، عزيزي شوفاليه، الموت مرة أخرى» يقول الأمير لسيناتور شوفاليه.
يروي «الفهد» قصة اختفاء عالم أرستقراطي مفعم بأمجاد الشرف وأماني الأبدية، ولكنه عاجز بشكل يحزّ في النّفس، منذورٌ لخمول كئيب وشبه وراثي يسري في أرجاء صقلية القاحلة، وتحت شمسها الرّصاصية التي تثبّط العزائم وتطمس كل حركة تطوّر في مهد صُفرة موحّدة وحارقة. عالمٌ لا يصمد في مواجهة قوى البرجوازية الصاعدة، وبزوغ نظام جديد «ترعى فيه الضّباع حملانًا، ولا مكان فيه للفهود»، نجح فيسكونتي في القبض على معالمه بفضل مقاربة اقتباس ذكية وخلّاقة، تجسّد لقاءً نادرًا بين تحفتين كلّ في مجالها، وتحمل دروسًا ثمينة للمهتمّين والدّارسين في كيفية خيانة نصّ أصلي بغية أن تبقى وفيًا له، أو كيف تغيّر كلّ شيء حتى تظلّ الأشياء على حالها.
اقرأ أيضا: ميلان كونديرا… علاقة مرتبكة مع السينما