فاصلة

مقالات

«الفصامي»… مدخل لقراءة سينما أندريه تاركوفسكي

Reading Time: 7 minutes

في الفصل الثاني من كتاب محمد آيت حنا “الرغبة والفلسفة: مدخل لقراءة دولوز وغوتاري”، يفكك حنا مفهوم “الفصام” كما طرحه الفيلسوفان جيل دولوز وفيليكس غوتاري، فقد رأى دولوز وجوتاري في كتابهما أن “الفصامية” سلوك شِعري، لأنه يتخذ من معارضة النظام القائم سبيلا للإبداع والإنتاج، ولأنه متحرر من النسيج العام للمجتمع، منفلت من قيود وشروط ما هو يومي معتاد، ومتصل بالطبيعة، عبر مسارات لا واعية، رغبة في الوصول إلى فهم عميق لها. وهذه السمات تتجلى بوضوح في سينما أندريه تاركوفسكي وأبطاله.

أندريه تاركوفسكي
Stalker (1979)

ثيمات متكررة في سينما تاركوفسكي
قدَم أندريه تاركوفسكي – المخرج الروسي الشهير – للسينما سبعة أفلام روائية طويلة، ورغم العدد القليل نسبيًا مقارنة بمخرجين عاصروه أو تبعوه، إلا أن أفلامه لاقت رواجًا كبيرًا بين كل من الجمهور والنقاد حتى يومنا هذا.
ولتاركوفسكي ثيمات مشتركة في سينماه، كالانطلاق من الأدب، الصراع بين المادة والروح- والحقيقة والوهم، النزوع للذاتية والتعبير عن جوهر الإنسان والحياة، ثم أثر الحروب على البشر، وفي الأخير التلاعب – أو بمسمى أدق – النحت في الزمن.

أندريه تاركوفسكي

طفولة إيفان: مأساة الحرب وما تخلفه في نفوس البشر

في فيلمه الأول “طفولة إيفان – Ivan’s childhood ” الحائز على جائزة الأسد الذهبي من مهرجان فينيسا – وهي جائزة تمنح للفيلم الروائي الطويل الأول لصانعه، رصد تاركوفسكي رحلة الطفل إيفان الذي يعاني من أثر الحرب العالمية الثانية، حيث فقد أمه نتاج الحرب، ما يسبب لديه نزوع للعدمية ورغبة عنيفة في الانتقام.
تعرَّض الفيلم وقت عرضه لانتقادات كثيرة، ومن النقاد الروس تحديدًا، حيث وصف أحدهم إيفان بأنه “وحش متعطش للدماء” لا يختلف عن راسكولنيكوف (بطل رواية الجريمة والعقاب) – مستعد للقتل مع أول فرصة.
وقد دافع الفيلسوف جان بول سارتر عن الفيلم بقوله أنه فيلم يتحدث عن الأثر الدامي للحرب بكل بساطة، وأن إيفان ليس وحشًا على الإطلاق، بل هو صنيعة الظروف التي فرضت عليه ذلك المسار.

في الفصل الأول من الفيلم، يقابل إيفان رجلا عجوزا يبدو عليه الشقاء، يسأل العجوز إيفان عن الحرب، يخبره إيفان بموت أمه ويخبره العجوز عن قتل عسكري نازي لزوجته، بعدها يتحدث العجوز إلى نفسه – بينما هو ممسك بإطار في داخله صورة، يتحدث عن انتظاره لعودة زوجته، وبأن المنزل جاهز لاستقبالها – بينما لا يحيط إيفان والعجوز سوى الخراب.
ذلك العجوز – الذي نعرف في النهاية أنه ليس أكثر من مجرد “مجنون” يطرح تساؤلا في نهاية المشهد “رباه.. متى ينتهي كل هذا؟”
ومن خلال تساؤله يبدو العجوز واعيا بالمأساة، في نفس الوقت فهو يبدو منفصلا تماما عن واقعه، إذن فالحقيقة المدركة لجوهر المأساة هنا يعي بها العجوز – المنفصل نفسيا وماديا عن الواقع، إذ يقيم في خرابة نائية عن المدينة.
وهي ثيمة متكررة في سينما تاركوفسكي، بل وتتخذ في كل مرة صورة وأبعاد جديدة تماما – حتى تتجلى بقوة في آخر ثلاثة أفلام لتاركوفسكي – وتتجسد في أبطاله الرئيسيين، الذين يطرح من خلالهم تاركوفسكي تساؤلاته.

أندريه تاركوفسكي
Stalker (1979)

المرشد: مجنون ضد العلم والفن – صراع بين المادة والروح

صدر فيلم “المرشد Stalker ” لتاركوفسكي عام 1979 وهو الفيلم الأخير الذي يصوره في روسيا.
ويرصد تاركوفسكي في الفيلم رحلة ثلاثة أشخاص إلى منطقة غريبة تسمى “الزون”.
الزون يؤمن بها المرشد، وهو الوحيد الذي ذهب إلى هناك، وهي منطقة قيل عنها أنها ملعونة، محفوفة بالمخاطر.

يحبذ المرشد الذهاب لتلك المنطقة، ويطلب من “عالم” و “فنان” مرافقته في رحلته. ليشهدوا بأنفسهم على “المعجزة” الموجودة في “غرفة الأمنيات” القابعة بداخل الزون.
يوافق كل منهما على الذهاب، ليجدا في نهاية الأمر أن المرشد لم يكن سوى مجرد رجل مجنون، غارق في الوهم.
الصراع الذي اختاره تاركوفسكي هنا، والذي يؤكد عليه في النهاية، هو صراع الروح والمادة، الإيمان والعدم.
ففي المشهد الأخير نراقب ابنة المرشد بينما تنظر لكوب مياه زجاجي وتتوهم أنها من تقوم بتحريكه، يتحرك الكوب ليسقط من فوق المنضدة.
نعرف سابقا أن من يذهب للزون يصير ملعونًا هو وعائلته.
إذن مع الوعي بتلك المعلومة وتصديق المرشد يصبح الأمر صحيحا ويكون ذلك الحدث توكيدا على المعجزة.
أيضا بالرجوع ألى بداية الفيلم- تحديدا المشهد الافتتاحي – نرى منضدة صغيرة تهتز بجانب سرير المرشد وزوجته – بينما نعرف فيما بعد أن مسكن المرشد يقع بجانب شريط قطار، وأنه كلما مر القطار يهتز كل ما بداخل المنزل.
الوعي بتلك المعلومة يعطي تفسيرا “ماديا” لوقوع الكوب الزجاجي، وهو تفسير يلغي بدوره السبب الأول لوقوع الكأس، وهو القوى الإعجازية للفتاة.
وهنا يعطي تاركوفسكي نهاية مفتوحة للفيلم ولا يجزم أيهما أقرب للحقيقة، فالحقيقة نسبية تبعا لمعتقد تاركوفسكي، الذي أفصح من قبل عنه، بقوله أنه “أجنوستيك- متشكك”.
الشيء الذي يؤكد عليه تاركوفسكي هنا، أن الشخص الوحيد الحالم بوجود معجزة ما في عالم قاتم وديستوبي هو “المرشد” وهو الذي يتم وصفه بالمجنون المتوهم والمنفصم من قبل الآخرين.
وبالرجوع إلى دولوز وجوتاري نرى المرشد هو أكثر شخصيات الفيلم اتصالا بالطبيعة، منعزل عن عالم واقعي يعلن عن احتضاره مرارا، مبتعدا عن الصور والأحكام النمطية لبيئته المحيطة، فرغم عجزه الواضح عن القيام بشيء إلا أنه بإيمانه الشديد نجده أكثر الأشخاص الثلاثة تمردا على قوانين ذلك الواقع.

أندريه تاركوفسكي

نوستالجيا – خلاص العالم يأتي من خلاص الذات

في فيلمه التالي “نوستالجيا Nostalgia ” أي حنين، وهو الفيلم الأول لتاركوفسكي خارج موطنه الأم “روسيا” بعد منعه من صناعة الأفلام فيها، يرصد تاركوفسكي في فيلمه عملية اقتفاء أثر ملحن روسي شهير في إيطاليا من قبل الشاعر أندريه وصديقته ايجوينيا المترجمة.
في الفيلم يقابل أندريه وصديقته رجل غريب يدعى “دومنيكو” والذي نسمع عنه قبل أن نراه، فنعرف أن دومنيكو رجل مجنون، حبس زوجته وابنه في الماضي خوفا عليهم من دمار العالم لينتهيا إلى الموت.
يقابل أندريه دومنيكو الذي يبدو عقلانيا تماما بالنسبة له، كما يخبره دومنيكو بوجود بركة شهيرة خالية من المياه، وبأن من يعبر تلك البركة الجافة من طرف إلى الآخر بينما يمسك بشمعة متوهجة بالنار فإنه يخلص العالم من شره المستفحل.
قرب النهاية يضحي دومنيكو بنفسه بعد إلقاء كلمة مطولة أعلى تمثال في وسط ميدان شهير وسط مجموعة كبيرة من الناس، يتحدث عن خلاص البشرية ثم يشعل النار في نفسه ويسقط من أعلى التمثال جثة هامدة، وهنا يبدو فعل دومنيكو هو فعل تضحية  متطرف وعنيف، من أجل الكلمة ومن أجل ما يؤمن به.
بعد ذلك يقرر أندريه فعل ما أخبره به دومنيكو لتخليص العالم، وهو عبور البركة بالشمعة وذلك ما ينجح أندريه بفعله بعد أكثر من محاولة فاشلة.
وبغض النظر، هل حقق أندريه الخلاص المنشود أم لا، فالخلاص ذاتي يبدأ من الداخل وينتهي بالخارج، فالمهم هو إيمان أندريه بما أقره دومنيكو.
دومنيكو الشخص الذي يبدو مجنونا تماما، والذي يرى أندريه نفسه فيه في كابوس ما، وكأنه انعكاس له، فالخلاص لا يحصل عليه أندريه إلا بتصديق دومنيكو، ذلك الشاعر المجنون.
وهنا تأكيد آخر على وجود الحقيقة – ارتباطها ارتباطا وثيقا بالشخص المنعزل، المنفصل تماما عن الجمع، وهو ليس مثقفا مثلا، ينبع انعزاله من احتقار القطيع، كما نرى عند بيلا تار في “تانجو الشيطان -Satantango” أو عند جودار في “الصينية – La chinoise ” ، الأمر هنا معكوس، فالاحتقار موجه لبطل تاركوفسكي، المنفصم، الواعي تماما بتلك الأزمة أو العطب الذي يشوب العالم. وهو بطل منبوذ من قبل محيطه، مختلي تماما بذاته.

أندريه تاركوفسكي

قربان : التضحية بالنفس في سبيل إنقاذ العالم

أما في الفيلم الأخير لتاركوفسكي وهو ” القربان The sacrifice”
فيرصد فيه أزمة ألكساندر، رب البيت الذي يعرف من الأخبار أن عالمه مهدد بخطر القنبلة النووية، يشعر ألكساندر وعائلته بالخطر والضياع مع تفكيرهم في اقتراب زوال العالم، ويتلقى ألكساندر بشارة تأتيه ف يرسالة حملها إليه ساعي البريد، فحواها أنه بمجرد ممارسة الحب مع خادمته ماري، ومن ثم إشعال النار في منزله سيزول خطر القنبلة النووية.
هنا يبدأ شعور ألكساندر بأنه مبعوث إلهي على عاتقه خلاص العالم، وذلك الخيط هو امتداد للفكرة السابقة في فيلم نوستالجيا، ففي نوستالجيا كان المبشر بنهاية العالم وكيفية خلاصه هو “دومنيكو” هنا هو ألكساندر، الذي يصفه محيطه بأنه يشبه “الأمير ميشكين” وتلك إشارة لا يجب أن يتمر سريعا.
فالأمير ميشكين وهو بطل رواية الأبله لدوستويفسكي، ذلك البطل العصابي يصفه دوستويفسكي في أحد مقاطع الرواية بأنه يشبه المسيح في مثاليته، ضعيف وعاجز تماما عن القيام بأية ردة فعل، وهنا يكون التماهي مع فكرة المخلص عبر ارتباط وثيق بين ألكساندر وميشكين.
وبالرجوع إلى فيلم نوستالجيا نرى ايجوينا تقف أمام لوحة للعذراء وهي على وشك الولادة، ولادة المسيح هي الشيء المنتظر في الفيلم، وفي الفيلم التالي وهو قربان يفتتح تاركوفسكي فيلمه بلوحة دافنشي “مولد السيد المسيح” وفي اللوحة نرى العذراء بينما تحيط المسيح وهو طفل بكلتا يديها بينما يشهد المحيطون بها تلك المعجزة، وتلك إشارة ثانية، توحي بصفات المخلص كما يراها تاركوفسكي.
وبعد إشعال ألكساندر النار في بيته نرى سيارة تابعة لمشفى المجانين تقل ألكساندر إلى مصيره الأخير.
وهنا يخبرنا تاركوفسكي بمصير بطله صاحب الرسالة التبشيرية، فهو لا يعده أكثر من مجرد مجنون، أو بالأحرى فهو في نظر محيطه ليس أكثر من منفصم عصابي، مهووس بفكرة تخليص العالم.

وكما يتضح من الفيلم فألكساندر يظهر دومًا وهو في معزل عن أسرته ومحيطه، مع ميل ونزوع فطري للطبيعة – المتمثلة في شجرة جافة يرويها كل يوم- مع إيمان حقيقي بأنها ستثمر يوما ما. ورغم معاناة أبطال تاركوفسكي وصولا إلى ألكساندر فهم متمتعون بقدر كبير من الحرية نابع من الانفصال الظاهري عن واقعهم ومحيطهم. بالتالي يصبح ذلك الانفصال نفسه هو كيفية للاتصال بكل ما هو حقيقي وجوهري في العالم، وبعيدا عن مظاهره الخادعة، نستشف من ذلك سبب كره تاركوفسكي لكل ما هو حداثي، فهو يراه مهددا لاستقرار العالم، ونازعا لأمانه، ولذلك نرى شخصياته تميل بطبيعتها للعزلة.
إن فكرة العزلة المولدة للفصام هي فكرة موجودة في أدبيات كبرى أهمها هو دون كيشوت.
دون كيشوت هو ذلك العجوز الذي يتغنى بقصص الفرسان وبطولاتهم ويشعر برغبة ملحة في تخليص العالم من شروره بينما لا يعده الأخرون أكثر من مجرد مجنون ومتصابي.

تلك النزعة الدون كيشوتية – وهي نزعة مثالية ونبيلة خالصة فوق العادة – نراها متمثلة في أبطال تاركوفسكي بشدة، بداية من إيفان الذي يرغب في الاتيان بفعل انتقامي يتخطى قدرته، ومرورا بآندريه روبليف الذي يؤمن إيمانا شديدا بقدرة الصبي الصغير على صنع الجرس، وهي تبدو كمعجزة في محيط عالمه، كيلفن في فيلم “سولاريس” الذي يحارب وهم كوكب سولاريس، الأم في فيلم “المرآة” والتي تؤمن إيمانا عميقا بعودة زوجها من الحرب، المرشد وإيمانه بمعجزات الغرفة، أندريه وإيمانه بتخليص العالم عبر عبور البركة الجافة، وفي الأخير حرق ألكساندر منزله قربانًا لتخليص العالم.
ويشير كل ذلك لرغبة مثالية يشترك فيها جميع أبطال تاركوفسكي، ثقَل لمجرد الوجود وشعور عميق بضرورة “الفعل الإيجابي” المتمثل في تخليص العالم من الشرور. تلك الرغبة، وهي الحلم باليوتوبيا، تكون نفسها هي المسببة لسقوط أبطال تاركوفسكي كضحايا لعالمهم، لأنها تؤدي بهم في الأخير إلى نزعة تدميرية تجاه الذات.

اقرأ أيضا: أندريه تاركوفسكي… جامع الأحلام

شارك هذا المنشور

أضف تعليق