يقدم كليبير مندوسا فيلهو في فيلم «العميل السري The Secret Agent» والذي عُرض ضمن فعاليات الدورة الـ78 من مهرجان كان السينمائي، مساءلة حقيقية في كيف يمكن للسينما أن تنبش هشيم الذاكرة حين تصبح الوقائع ضبابية، والأصوات مشوشة، والزمان نفسه عصيًا على التحديد، أي أن يكون الماضي شبحًا لا يزال يحوم فوق الحاضر.
وذلك حينما يتتبع الفيلم شخصية مارسيلو، التي يلعبها واغنر مورا، مجسدًا فيها الشخص العادي الذي يكتشف فجأة أنه في قلب شبكة من المؤامرات والأصوات المسجلة والمخاطر التي لا تُفهم. لكن مارسيلو هنا ليس بطلًا مقاومًا ولا ضحية واضحة، هو إنسان يحاول أن ينجو. وهذا بالضبط ما يجعل الفيلم حقيقي؛ أن تعيش داخل زمن كهذا لا يعني بالضرورة أنك على هامش بطولة ما، بل يعني أحيانًا أنك لست سوى مجرد كائن هش يحاول أن يمشي بخفّة دون أن تسمع وقع خطاه.
فمارسيلو – الرجل الذي يعود إلى ريسيفي في أواخر السبعينات هاربًا من لا شيء ومُطاردًا من كل شيء – يدخل المشهد كما يدخل شخص نائم في حلم شخص آخر، لا نعرف الكثير عنه ولا يملك أدوات السيطرة على ما يدور حوله، ومنذ اللحظة الأولى، يرفض الفيلم منحنا سردًا مستقيماً أو حبكة تفضي إلى خلاص.

إيقاع مخالف تمامًا لا مجال فيه للتوتر التقليدي ولا لبناء ينتهي بنا إلى الذروة، فالتهديد ليس خارجيًا بقدر ما هو داخلي متراكم غير قابل للتحديد، حيث اختار مندونسا أن يبني فيلم تتولّد فيه الدراما من الهامش ومن الصمت، ومن بطء التقدّم السردي، بما يجعل الصورة دائماً في حالة تواطؤ مع اللايقين.
وبهذا يتحوّل كليبير إلى ملمح بصري عبر خلقه لتوتر بنائي، وشعور مستتر بالغربة، في المكان ذاته الذي يفترض أن يُحتضن فيه الفرد. فهو ليس بفيلم «إثارة سياسي» بخصائصة التقليدية بل تفكيك جذري لجمالية هذا النوع، حين يخضعه مندونسا لأدواته الخاصة، حيث اللغة السينمائية كمعادل الحسي لما لا يمكن قوله.
وما يفعله مندونسا ببراعه هو تفكيك آليات التذكّر ذاتها؛ عندما يورّطنا في إعادة تركيب الحقيقة بدلًا من تصديقها، كما تفعل الباحثة التي تستمع إلى تسجيلات من الماضي وتحاول أن تستخرج منها شيئًا يُروى. لكن ما يُروى في العميل السري ليس القصة، بل الشك، ليس ما حدث بل ما يمكن أن يكون قد حدث. وهنا تتجلّى قوة الفيلم حينما يفكر في معنى الحدث، حين لا يبقى منه سوى أثرٌ صوتي، أو طرف ساق داخل بطن سمكة قرش.

ولا تُعد هذه المشاهد الغريبة أو العبثية خروجًا عن السياق بقدر ما هي امتداد طبيعيا لفهم مندونسا للواقع. فالساق المبتورة ليست دليلاً بوليسيًا بقدر ما هي مجاز للجسد الممزّق الذي فقد تواصله مع ذاته، مع جذره ومع منطق وجوده، وهي استعارة مؤلمة لبرازيلٍ قررت أن تدفن جثة دون اعتراف وأن يحتفي بأطرافٍ مقطوعة كأنها دليل النجاة. وهكذا يصبح العبث في الفيلم وسيلة نقد لا تقل عمقًا عن التوثيق، بل ربما أكثر صدقًا منه.
كما لا يخفي الفيلم انتماءه إلى تراث سينيفيلي واضح، عندما يستدعي مندوسا تقنيات بصرية من السبعينات – العدسة المزدوجة / تقسيم الشاشة / اللقطة الطويلة – لكنه يخضعها لمنطق ذاتي لا يشبه أحدًا. ليس احتفاءً بالأسلوب بل تحويل للأسلوب إلى موقف. ولا يقف عند حدود التأثير، بل يفرغه من زخرفته ويعيد تحميله بمحتوى سياسي وشعري، يكسر كل ما هو جاهز أو مألوف.

وبهذا المعنى، فإن كليبر مندونسا يبني بنية سينمائية مقاومة ومتراكبة تتطلب من المتفرّج أن يكون شريكًا لا مستهلكًا، باحثًا لا متلقّيًا. ولعل هذا بالضبط ما يجعل العميل السري من أكثر أفلامه نضجاً.. فلا يعيد سرد الماضي، بل يعيد طرح سؤال السينما ذاتها، في مواجهة ما تم إسقاطه ومسحه من الذاكرة الجماعية.
اقرأ أيضا: «عائشة لا تستطيع الطيران».. ليس لذوي المعدة الرقيقة