فاصلة

مراجعات

«العرّاب 2».. مرثية للولايات المتحدة

Reading Time: 4 minutes

إذا كان الإنتاج المضطرب للغاية لفيلم «العرّاب» (1972)، الذي ولد عمليًا وسط صراعات إنتاجية داخلية وخارجية، وأدى إلى ما فعله في السينما وتاريخها، بمثابة نوع من الاقتران الكوكبي، فإن «العرّاب: الجزء الثاني» (1974، الذي نحتفل بعيد ميلاده الخمسين)، الذي أُنتج على عجل في عامين فقط، أثبت أنّ صاعقتين يمكن أن تضربا في المكان نفسه. وصل الفيلم إلى دور العرض الأميركية في نهاية ذلك العام، محققًا وعده بأن يكون عظيمًا مثل الأصل، بل إنّه بالنسبة للكثيرين، كان أفضل (وإذا سألتني، لا يمكنني الاختيار بين الإثنين، على الرغم من أنني عادة ما أميل قليلًا إلى الثاني).

 ينقسم الفيلم الثاني إلى فترتين متزامنتين من عام 1901 إلى عام 1958، ويروي طفولة فيتو أندوليني (روبرت دي نيرو) من مسقط رأسه في كورليوني، التي فرّ منها متسللًا، حتى وصوله إلى أميركا، واقفًا في طابور المهاجرين. لم ينطق بكلمة، بينما بطاقة اسمه تقول إنّ اسمه فيتو أندوليني دي كورليوني، والشرطي المسؤول يعطيه الاسم الذي يحبّه: فيتو كورليوني، وينادي المهاجر التالي. وبطريقة ما، بتغيير الاسم العائلي إلى اسم جغرافي، يكتسب فيتو كل التراث الثقافي والعُنفي لمنطقته وأرضه، وهكذا تبدأ أصوله، حيث سيفعل كل ما بوسعه ليصبح الرجل الذي يُعرف باسم «العرّاب». وينتهي نفس الإطار الزمني بالارتباط بإمبراطورية كورليوني التي أقيمت في نيفادا، وتحديداً على ضفاف بحيرة تاهو، حيث يقاتل ابنه مايكل (آل باتشينو) لتكبير أعمال العائلة.

العرّاب 2
فيلم («The Godfather Part II »،1974)

إن الجرأة السردية هي التي تُبرّر حقًا وجود هذه التكملة، وما يجعله يستحق الإشادة التي نالها ولا يزال. لا يعني هذا أنّ مجرد استكمال قصة مايكل كورليوني لا يمكن أن تؤدي إلى تحفة فنية، لكن التوازي بين لحظتين زمنيتين مختلفتين تتحركان في اتجاهين متعاكسين هو الذي يجعل الجزء الثاني حدثًا عظيمًا. الجمع بين قصتين متوازيتين، كل منهما ببطل مختلف، يفصل بينهما أكثر من نصف قرن من الوجود، ليس شيئًا نراه كل يوم. إن تكوينه الشكلي وروحه السردية غير العادية، يجعلانه تحفة، وهذا ما يجذب انتباه المشاهد لحداثته الموضوعية وتنوعه البصري.

 «العرّاب: الجزء الثاني»، غير متوقع، بقدر ما هو آسر على الفور. ويؤكد مجازياً أنّ عائلة كورليوني بدأت بالخوف والعنف وعاشت في الخوف والعنف طوال العقود التالية في الولايات المتحدة، وهو المكان الذي احتضن، وشجّع هذا النمط من الحياة، وهو شيء يتعمق فيه فيتو في نسخة دي نيرو، فقد تعلّم كيف يتدبر أموره بشكل غير قانوني ويسمح لطموحه بقيادته. ومع كل نقلة للزمنين، يخبرنا تقريبًا أنه في النهاية، فالعالمان القديم والجديد ليسا مختلفين كثيراً.

من خلال صورة واحدة، أعادنا فرانسيس فورد كوبولا إلى الحسية والرعب اللذين سادا الفيلم الأول. وبإصرار أستاذ، ذهب أبعد وأبعد. تتمثّل جرأة الجزء الثاني في توسيع نطاق الفيلم الأول وتعميق معناه. كل هذا يأتي بشكل طبيعي، وهذا هو الشيء الرائع في هذه التكملة التي لا تتكرر، ولا تبدو أنها مرتبطة بشيء مصمّم مسبقًا، بل منتزعة من الحياة نفسها وعنها. هناك عدد قليل جدًا من الفنانين القادرين على تحقيق ذلك.

العرّاب 2
فيلم («The Godfather Part II »،1974)

 كوبولا، ينقلنا بسهولة تامة من عصر إلى آخر. في البداية بطريقة لطيفة، ثم في قفزات متتالية، متناسياً الأعراف السردية، واثقاً تماماً بقدرة المتفرّج على وضع نفسه بشكل صحيح في الإطار الزمني. وبهذه الطريقة، في الثلث الأخير من الفيلم، يشعر المُشاهد، من خلال التراكم، بأن كلا الزمنين يتعايشان، أحدهما داخل الآخر. دائمًا ما أفضل اعتبار فيلم «العراب» الجزء الأول والثاني، فيلمًا واحدًا. فالمادة الموجودة في الأول محصورة بين القصص الموازية في الثاني، بينما يُظهر الفيلم الثاني عواقب الأفعال في الأول. والجزء الثاني يبدأ أثناء الفيلم الأول، ويجتمعان معًا في رأسك أثناء المشاهدة.

إن هذه الملحمة هي، قبل أي شيء، مرثية مأساوية عن قوة الولايات المتحدة، مع شخصية مايكل كوصي وشهيد في الوقت نفسه، على تلك القوة. يحقّق كوبولا هدفه على هذا المستوى الأكثر وضوحًا من خلال المقارنة بين صعود فيتو كورليوني وانحطاط ابنه مايكل. يتألف الفيلم من خمسة مشاهد لفيتو، وخمسة مشاهد لمايكل، وخاتمة قصيرة تربط كل هذه المشاهد بالفيلم الأول. تتعلق الانتقالات بين المشاهد بموضوعات الأسرة، والأعمال التجارية، والأعمال غير الشرعية، والجريمة المنظمة، والبحث عن الأمن البرجوازي وصعوبة الوصول إليه. 

العرّاب
فيلم («The Godfather Part II »،1974)

إن مايكل، باعتباره «أميركا»، يجسد تناقضًا أساسيًا في الرأسمالية، بين المُثل البرجوازية المضيئة للسلام والحرية والفرصة والحب والمجتمع، وبين الواقع القاسي لهذا النظام الاقتصادي غير العقلاني الذي يشجع هذه المُثل ويتغذى على عدم إمكانية الحصول عليها. وفي الوقت نفسه، ينسج ويدمر كوبولا في النهاية أربعة مستويات من الانتماءات الأسرية. الأسرة النووية، وعائلة المافيا، والمجتمع العرقي، والكنيسة الكاثوليكية، ومن خلال المقارنة الدقيقة، يروي كيف يسعى كل منها بدون جدوى إلى خلق مجتمع مثالي.

في «العراب: الجزء الثاني»، يُظهر كوبولا أكثر من مجرد صعود وسقوط سلالة حاكمة. إن العلاقة الرسمية بين مشاهد فيتو ومشاهد مايكل، توحي إن لم تكن تؤكد بشكل مباشر، العلاقة السببية. والعلاقة بين جزأي الفيلم ليست مقارنة ثابتة بل حركة ديناميكية: من الأمل إلى التحقيق، ومن ترك الاسرة إلى بناء أسرة، ومن الحب الدافئ إلى الوحدة الباردة، ومن الأسئلة إلى الإجابات، ومن الطلب («مايكل، لوح وداعاً»)، إلى الحدث (وفاة الأم).

 والفيلم لا يقارن بين النجاح والفشل، ولكنه يُظهر كيف يؤدي النجاح بشكل حتمي إلى الفشل. إن جذور تدمير مايكل تكمن في النجاح الاجتماعي والاقتصادي الذي حققه فيتو، وصعوده إلى السلطة، أي بواسطة قوى داخلية، وهي القوى نفسها التي خلقته، وأنهى كوبولا الفيلم مع مايكل، الذي ربما يكون أقوى رجل في أميركا، لكنّه جثة.

العرّاب
فيلم («The Godfather Part II »،1974)

لا يتمتع الفيلم بالوتيرة والسرعة والدراما التي تميز الجزء الأول. فهو يحتوي على قدر كبير من العاطفة والميلودراما. خلال الساعات الثلاث والعشرين دقيقة، هناك العديد من لحظات الإلهام، والصور الغامضة التي تتردد صداها، مثل مشهد فيتو الصغير وهو يغني في زنزانته، إلى درجة أنّ المرء لا يملك الموارد العاطفية اللازمة للتعامل مع هذا المشهد. 

«العرّاب: الجزء الثاني» خشن، ويبدو في كثير من الأحيان على وشك الانهيار، فالعاطفة موجودة فقط لتهيئة الجمهور لهدم المشاعر في النهاية. لا نرى في الجزء الثاني، لحظات فرح، لا مشاهد مع قطط ولا لعب في الحديقة. طوال مدة الفيلم، نتوق إلى أن يستعيد مايكل بهجة زفاف كوني، لكنه يفشل. وهذا أعظم خيبة أمل في السينما، وأعظم انتصار لها.

اقرأ أيضا: «فتيان نيكل» يعرّون أميركا البيضاء

شارك هذا المنشور

أضف تعليق