فاصلة

أصوات نقدية سعودية

الضوء كراوٍ صامت: حين يتقمّص النور دور البطولة في السينما

Reading Time: 3 minutes

حين نتحدث عن السينما، ننجرف غالبًا نحو مركز الصورة: الممثل، الحوار، الموسيقى، زوايا الكاميرا، أو إيقاع المشهد. نركّز على ما هو صريح للعين، واضح للأذن. لكن قليلًا ما نلتفت إلى العنصر الذي لا ينطق، ومع ذلك يروي كل شيء. عنصر لا يطالب بالأضواء، لكنه يصنعها. إنه الضوء — الممثل الصامت، الراوي الخفي الذي ينسج الحكاية من قلب الظلال.

الضوء في السينما ليس مجرد أداة تقنية تتيح الرؤية؛ إنه يعيد نحت العالم، يتسلل إلى أعماق الشخصيات، ويضيء ما عجزت الكلمات عن التعبير عنه. لا يكتفي بإظهار الملامح، وإنما يكشف الاضطرابات التي تخفيها. لا يُسلَّط على المشهد، إنما يتنفس معه، ويمنحه إيقاعًا ونبضًا يحيل الصورة إلى لوحة حيّة.

في الأفلام العظيمة، لا ينبع الضوء من مصباح أو نافذة، وإنما من إحساس سردي عميق. إنه لغة غير منطوقة، تحمل المشهد إلى ما وراء حدوده المرئية، وتضفي عليه بُعدًا شعريًّا يتجاوز السطح.

 

في Barry Lyndon لستانلي كوبريك، يتحوّل الضوء إلى زمن متجمّد. الشموع، بوهجها الهش، تضيء المشاهد دون تدخل صناعي، فتُبطئ الإيقاع وتحبس الشخصيات في لوحات كلاسيكية. الضوء هنا ليس جمالًا بصريًا فحسب؛ إنه قوة وجدانية تُكثّف اللحظة، وتجعل كل نظرة ثقيلة، وكل صمت لا يُحتمل.

الضوء كراوٍ صامت: حين يتقمّص النور دور البطولة في السينما
The Double Life of Véronique (1991)‏

وفي The Double Life of Véronique لكريستوف كيشلوفسكي، يصبح الضوء نغمة عاطفية. الفلاتر الذهبية والخضراء لا تلوّن الصورة فقط، بل تنسج عالمَين داخليّين متمايزين، حيث يتحوّل اللون إلى شعور يتردد في القلب. الضوء هنا شريك في السرد، يكتب الموسيقى بصمت.

نوري بيلغي جيلان، بدوره، يجعل الضوء فكرة متأخرة تتسلل بهدوء. شعاع شمس يخترق نافذة مغلقة، يلامس وجهًا متأملًا، فيحمل ما لا تستطيع الكلمات قوله. إنه ليس مؤثرًا بصريًّا، بل لحظة تأمل داخلي تتجلّى في صورة.

في سينما ألمودوفار، يتحوّل الضوء إلى مادة للرغبة. الأحمر لا يُزيّن الكادر، إنما يُكثّف التوتر ويُشعل المشاعر. الضوء هنا شريك في الحوار الصامت بين الشخصيات، يحيل المسافات إلى مرايا مشحونة بالعاطفة.

الضوء كراوٍ صامت: حين يتقمّص النور دور البطولة في السينما
The Tree of Life (2011)

وفي The Tree of Life لتيرانس ماليك، يصبح الضوء كيانًا روحيًّا. يتراقص بين الأشجار، يلامس الأجساد، ويسبح فوق الأنهار، كأن الكون نفسه يتأمل الحياة عبر عدسة شفافة. لا حاجة إلى سرد تقليدي حين يكون الضوء هو من يكتب القصيدة.

بيلا تار، على النقيض، يُخفي الضوء عمدًا. الظلال تهيمن، والضباب يبتلع التفاصيل. وعندما يظهر الضوء فجأة، يكون كشفًا داخليًّا، كأنّه يقظة بطيئة. هذا الاقتصاد في الاستخدام يمنح الضوء قوّة نادرة، ويجعله لحظة صدق لا تُنسى.

الضوء كراوٍ صامت: حين يتقمّص النور دور البطولة في السينما
In the Mood for Love (2000)

تجارب أخرى تستحق التأمل، مثل فيلم In the Mood for Love لوونغ كار واي، حيث يُستخدم الضوء كأداة لخلق الحنين. انعكاساته على الجدران، تداخلاته مع حركة المروحة، تجعل من كل مشهد خفقة قلب مؤجّلة. كذلك، في Her لسبايك جونز، الضوء الدافئ الذي يحيط بالبطل لا يعبّر عن الراحة، إنما يومئ إلى وحدة خفيّة لا يُفصح عنها.

ورغم أن الجغرافيا العربية تسبح في بحر من الشمس، فإن السينما المحليّة نادرًا ما استثمرت الضوء كعنصر سردي. غالبًا ما يُستخدم لتوضيح الصورة، لا لنحت الحالة أو إضاءة الفكرة. مع ذلك، ثمّة استثناءات تستحق التوقّف. يوسف شاهين، في أعماله المتأخرة، جعل الضوء صوتًا دراميًّا يرافق الحكاية. ومحمد ملص، في الليل، حوّل الظلال إلى لغة تلمّح أكثر مما تُصرّح، مضيفًا عمقًا للرواية البصرية. لكن هذه المحاولات ظلّت نادرة، ولم تتبلور إلى تيار يعيد اكتشاف الضوء كشريك في السرد.

الضوء، حين يستخدم بوعي، يتحوّل من أداة تقنية إلى راوٍ خفي. لا يطلب الانتباه، لكنه يفرض حضوره. يروي دون كلام، ويقود المشهد دون أن يظهر. إنه النبض الذي يمنح الصورة حياة، واللغة التي تُضيء الحكاية دون أن تُقال.

ربما حان الوقت لنعيد اكتشاف الضوء، لا كوسيط، بل كبطل حقيقي في السينما — بطلٍ يهمس بالحياة، ويروي بالصمت.

اقرأ أيضا: عن «صناعة الهَبّة»… صناعة من لا صناعة له! تساؤلات حول اختزال الفن السابع في «هبّة» تسويقية

شارك هذا المنشور

أضف تعليق